ثالثا : الإجماع :
قال الإمام ابن حزم رحمه الله : ( وبرهان ضروري لا خلاف فيه ، وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم ، وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامدا وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك ، أو أسقط كلمة عمدا كذلك ، أو زاد فيها كلمة عامدا ، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها ، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة ، فيزيد كلمة وينقص أخرى ، ويبدل كلامه جاهلا مقدرا أنه مصيب ، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق ، ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا ولا فاسقا ولا آثما ، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة ، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة ) [ الفصل : 3/253 ] .
رابعا : أقوال السلف :
1- قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر ، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ الشورى : 11 ] ) [ فتح الباري : 13/407 ] .
2- قال ابن العربي : ( الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا ، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج من الملة ، فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركا أو كافرا فإنه بعذر بالجهل والخطأ ، حتى يتبين له الحجة بالضرورة من دين الإسلام ، مما أجمعوا عليه إجماعا قطعيا يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل ، كما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع ) [ محاسن التأويل : 5/1307 ] .
3- قال الحافظ الذهبي رحمه الله : ( واعلم أن كثيرا من هذه الكبائر إلا الأقل يجهل خلق من الأمة تحريمه ، وما بلغه الزجر فيه ولا الوعيد ، فهذا الضرب فيه تفصيل ، فينبغي للعالم أن لا يستعجل على الجاهل ، بل يرفق به ، ويعلمه مما علمه الله ، ولا سيما إذا كان قريب العهد بجاهليته ، قد نشأ في بلاد الكفر البعيدة وأسر وجلب لأرض الإسلام ، وهو تركي أو كرجي مشرك لا يعرف بالعربي ، فاشتراه أمير تركي لا علم عنده ولا فهم ، فبالجهد أنه ينطق بالشهادتين ، فإن فهم العربي حتى فقه معنى الشهادتين بعد أيام وليالي فبها ونعمت ، ثم قد يصلي وقد لا يصلي ، وقد يتقن الفاتحة مع الطول إن كان أستاذه فيه دين ما ، فإن كان أستاذه نسخة منه فمن أين لهذا المسكين أن يعرف شرائع الإسلام ، والكبائر واجتنابها ، والواجبات وإتيانها ؟ فإن عرف هذا موبقات الكبائر وحذر منها ، وأركان الفرائض واعتقادها فهو سعيد ، وذلك نادر ، فينبغي للعبد أن يحمد الله على العافية ، فغن قيل : هو فرط لكونه ما سال عما يجب عليه ، قيل : ما دار في رأسه ولا شعر أن سؤال من يعلمه يجب عليه ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، فلا يأثم احد غلا بعد العلم ، وبعد قيام الحجة عليه ، والله لطيف رؤوف بهم ، قال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) [ الإسراء : 15 ] ، وقد كان سادة الصحابة بالحبشة وينزل الواجب والتحريم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبلغهم إلا بعد أشهر ، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص ، وكذا يعذر بالجهل من لم يعلم حتى يسمع النص ، والله أعلم ) [ كتاب الكبائر : هامش ص 16 ] .
4- قال الإمام القرطبي رحمه الله : ( فكما أن الكافر لا يكون مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، فكذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد الكفر ولا يختاره بالإجماع ) [ تفسير القرطبي : 7/6128 ] .
5- قال الإمام الشاطبي رحمه الله : ( فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار ، ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) [ الإسراء : 15 ] ، فجرت العادة في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل ، فإذا قامت الحجة عليهم ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) [ الكهف : 29 ] ) [ الموافقات : 3/377 ] .
6- قال الإمام ابن حزم رحمه الله :
• ( وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان ، فلا يكون كافراً إلا أن يأتي نص بتكفيره فيوقف عنده ، كمن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقط فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر ) [ الفصل : 4/17 ] .
• ( وكذلك من قال أن ربه جسم ، فإنه إن كان جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه ، ويجب تعليمه ، فإذا قامت الحجة عليه من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عناداً فهو كافر ، يحكم عليه بحكم المرتد ، وأما من قال أن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه ، أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه ، أو أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى بن مريم ، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد ، ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم الحجة عليه ) [ الفصل : 4/18 ] .
• ( وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ ، لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه ) [ الفصل : 4/18 ] .
• ( وقال قائلهم أيضاً : فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا فاعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل فإنهم أيضاً مجتهدون قاصدون الخير ، فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا ، ولا كفرنا من كفرنا بظننا وهوانا ، وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحداً دونه ، ولا يدخل الجنة والنار أحد ، بل الله تعالى يدخلها من شاء ، فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به ، كل ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يختلف اثنان من أهل الأرض ، لا نقول من المسلمين بل من كل ملة ، في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام ، الذين تبرأ أهله من كل ملة حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط ، فوقفنا عند ذلك ، ولا يختلف أيضاً اثنان في أنه عليه السلام قنع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوى ذلك ، فوقفنا أيضاً عند ذلك ولا مزيد ، فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه ، سواء أجمع على خروجه منه أو لا يجمع ، وكذلك من أجمع من أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك ، وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له ولا إجماع في خروجه أيضاً عنه فلا يجوز إخراجه عما قد صح يقيناً حصوله فيه ، وقد نص الله تعالى على ما قلنا فقال : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ آل عمران : 85 ] ، وقال تعالى : ( وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) [ النساء : 150-151 ] ، وقال تعالى : ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) [ التوبة : 65-66 ] ، فهؤلاء كلهم كفار بالنص ، وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى به فقد كفر ، وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين فهي كلها آيات الله تعالى ، بعد بلوغ الحجة إليه ، فهو كافر ، ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام أو جحد شيئاً صح عنده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كافر ، لأنه لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين خصمه ) [ الفصل : 4/21-22 ] .
• ( فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر ، فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا ، أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل ، فلا شيء عليه أصلاً حتى يبلغه ، فإن بلغه وصح عنده ، فإن خالفه مجتهداً فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة ، كما قال عليه السلام : ( إِذَا اِجْتَهَدَ الْحَاكِم فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِذَا اِجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر ) ، وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء ، وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق ، وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك ، سواء ذلك في المعتقدات والفتيا ، للنصوص التي أوردنا ، وهو قول اسحق بن راهوية وغيره وبه نقول وبالله تعالى التوفيق ) [ الفصل : 4/24-25 ] .