وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ج 24 ص 262 وما بعدها :( وسئل رحمه الله هل الميت يسمع كلام زائره ويرى شخصه وهل تعاد روحه إلى جسده فى ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره وهل تصل إليه القراءة والصدقة من ناحليه وغيرهم سواء كان من المال الموروث عنه وغيره وهل تجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله سواء كان مدفونا قريبا منهم أو بعيدا وهل تنقل روحه إلى جسده في ذلك الوقت أو يكون بدنه إذا مات في بلد بعيد ودفن بها ينقل إلى الأرض التي ولد بها وهل يتأذى ببكاء أهله عليه والمسؤول من أهل العلم رضي الله عنهم الجواب عن هذه الفصول فصلا فصلا جوابا واضحا مستوعبا لما ورد فيه من الكتاب والسنة وما نقل فيه عن الصحابة رضي الله عنهم وشرح مذاهب الأئمة والعلماء أصحاب المذاهب واختلافهم وما الراجح من أقوالهم مأجورين إن شاء الله تعالى ؟
فأجاب الحمد لله رب العالمين نعم يسمع الميت في الجملة كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال ( يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ( وثبت عن النبي ( أنه ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقال يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف ياعتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإنى وجدت ما وعدني ربى حقا ( فسمع عمر رضي الله عنه ذلك فقال يا رسول الله كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا فقال ( والذي نفسي بيده ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ( ثم أمر بهم فسحبوا في قليب بدر وكذلك فى الصحيحين عن عبد الله بن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا وقال إنهم يسمعون الآن ما أقول ( وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور ويقول ( قولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ( فهذا خطاب لهم وإنما يخاطب من يسمع وروى ابن عبد البر عن النبي أنه قال ( ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ( وفى السنن عنه أنه قال ( أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة على فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعنى صرت رميما فقال إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ( وفى السنن أنه قال ( إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام ( فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي ولا يجب أن يكون السمع له دائما بل قد يسمع في حال دون حال كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحيانا خطاب من يخاطبه وقد لا يسمع لعارض يعرض له وهذا السمع سمع إدراك ليس يترتب عليه جزاء ولا هو السمع المنفي بقوله إنك لا تسمع الموتى فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال فان الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى فالميت وان سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه فلا ينتفع بالأمر والنهى وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وان سمع الخطاب وفهم المعنى كما
قال تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وأما رؤية الميت فقد روى فى ذلك آثار عن عائشة وغيرها
فصل
وأما قول السائل هل تعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره فإن روحه تعاد إلى البدن في ذلك الوقت كما جاء في الحديث وتعاد أيضا في غير ذلك وأرواح المؤمنين فى الجنة كما في الحديث الذي رواه النسائي ومالك والشافعي وغيرهم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه وفى لفظ ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله وذلك فى اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع فى الأرض وانتباه النائم وهذا جاء في عدة آثار أن الأرواح تكون في أفنية القبور قال مجاهد الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه فهذا يكون أحيانا وقال مالك بن أنس بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت والله أعلم
فصل
وأما ( القراءة والصدقة ( وغيرهما من أعمال البر فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية كالصدقة والعتق كما يصل إليه أيضا الدعاء والاستغفار والصلاة عليه صلاة الجنازة والدعاء عند قبره
وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية كالصوم والصلاة والقراءة والصواب أن الجميع يصل إليه فقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ( وثبت أيضا ( أنه أمر امرأة ماتت أمها وعليها صوم أن تصوم عن أمها ( وفى المسند عن النبي أنه قال لعمرو بن العاص ( لو أن أباك أسلم فتصدقت عنه أو صمت أو اعتقت عنه نفعه ذلك ( وهذا مذهب أحمد وأبى حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي
وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى وان ليس للإنسان إلا ما سعى فيقال له قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة أنه يصلي عليه ويدعى له ويستغفر له وهذا من سعى غيره
وكذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه والعتق وهو من سعى غيره وما كان من جوابهم في موارد الإجماع فهو جواب الباقين في مواقع النزاع وللناس في ذلك أجوبة متعددة لكن الجواب المحقق في ذلك أن الله تعالى لم يقل إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه وإنما قال ليس للإنسان إلا ما سعى فهو لا يملك إلا سعيه ولا يستحق غير ذلك وأما سعى غيره فهو له كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز وهكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك كما ينفعه بدعائه له والصدقة عنه وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم سواء كان من أقاربه أو غيرهم كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره
فصل
وأما قوله هل تجتمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه ففي الحديث عن أبى أيوب الأنصاري وغيره من السلف ورواه أبو حاتم في الصحيح عن النبي ( أن الميت إذا عرج بروحه تلقته الأرواح يسألونه عن الأحياء فيقول بعضهم لبعض دعوه حتى يستريح فيقولون له ما فعل فلان فيقول عمل عمل صلاح فيقولون ما فعل فلان فيقول ألم يقدم عليكم فيقولون لا فيقولون ذهب به إلى الهاوية ( ولما كانت أعمال الأحياء تعرض على الموتى كان أبو الدرداء يقول ( اللهم إنى أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة ( فهذا اجتماعهم عند قدومه يسألونه فيجيبهم وما استقرارهم فبحسب منازلهم عند الله فمن كان من المقربين كانت منزلته أعلى من منزلة من كان من أصحاب اليمين لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل والأسفل لا يصعد إلى الأعلى فيجتمعون إذا شاء الله كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم ويتزاورون
وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة قد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن وقد تفترق مع تقارب المدافن يدفن المؤمن عند الكافر وروح هذا في الجنة وروح هذا في النار والرجلان يكونان جالسين أو نائمين في موضع واحد وقلب هذا ينعم وقلب هذا يعذب وليس بين الروحين اتصال فالأرواح كما قال النبي ( جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ( والبدن لا ينقل إلى موضع الولادة بل قد جاء ( أن الميت يذر عليه من تراب حفرته ( ومثل هذا لا يجزم به ولا يحتج به بل أجود منه حديث آخر فيه ( أنه ما من ميت يموت في غير بلده إلا قيس له من مسقط رأسه إلى منقطع أثره فى الجنة ( والإنسان يبعث من حيث مات وبدنه في قبره مشاهد فلا تدفع المشاهدة بظنون لا حقيقة لها بل هي مخالفة فى العقل والنقل