الطبقة الرابعة
ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا ودعوة للخلق إلى الله على طرقهم ومنهاجهم وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهي مرتبة الصديقية ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين الرسول وأمته فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم
المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وقال الله تعالى والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم وقيل إن الوقف على قوله تعالى هم الصديقون ثم يبتدىء والشهداء عند ربهم فيكون الكلام جملتين أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون والإيمان التام يستلزم العلم والعمل والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين هنا وفي سورة النساء وهكذا جاء ذكرهم مقدما على الشهداء في كلام النبي في قوله أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيد ولهذا كان نعت الصديقية وصفا لأفضل الخلق بعبد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق ولو كان بعبد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتا له رضي الله عنه وقيل إن الكلام كله جملة واحدة وأخبر عن المؤمنين بأنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة وهو قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس وهم المؤمنون فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا وشهداء على الناس يوم القيامة ويكون الشهداء وصفا لجملة
المؤمنين الصديقين وقيل الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ويكون قوله والشهداء مبتدأ خبره ما بعده لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيدا في سبيل الله ويرجحه أيضا أنه لو كان الشهداء داخلا في جملة الخبر لكان قوله تعالى لهم أجرهم ونورهم داخلا أيضا في جملة الخبر عنهم ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء أحدها أنهم هم الصديقون الثاني أنهم هم الشهداء والثالث أن لهم أجرهم ونورهم وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول ثم ذكر الخبر الثالث مجردا عن العطف وهذا كما تقول زيد كريم وعالم له مال والأحسن في هذا تناسب الأخبار بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعا فتقول زيد كريم عالم له مال أو كريم وعالم وله مال فتأمله ويرجحه أيضا أن الكلام يصير جملا مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون والشهداء والصالحون وهم المذكورون في الآية وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضا حسنا فهؤلاء ثلاثة أصناف ثم ذكر الرسول في قوله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكور في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان كفار ومنافقون فقال تعالى والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم وذكر المنافقون في قوله تعالى يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم فهؤلاء أصناف العالم كلهم وترك سبحانه وتعالى ذكر المخلط صاحب الشائبتين على طريقة القرآن في ذكر السعداء والأشقياء دون المخلطين غالبا لسر اقتضته حكمته فليحذر صاحب التخليط فإنه لا
ضمان له على الله ولا هو من أهل وعده المطلق ولا ييأس من روح الله فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين ولكن غلطوا في تخليده في النار ولو نزلوه منزلة بين المنزلتين ووكلوه إلى المشيئة وقالوا بأنه يخرج من النار بتوحيده وإيمانه لأصابوا ولكن منزلة بين منزلتين وصاحبهما مخلد في النار مما لا يقتضيه عقل ولا سمع بل النصوص الصريحة المعلومة الصحة تشهد ببطلان قولهم والله أعلم وأيضا فصاحب الشائبتين يعلم حكمه من نصوص الوعد والوعيد فإن الله سبحانه وتعالى رتب على كل عمل جزاء في الخير والشر فإذا أتى العبد بهما كان فيه سبب الجزاءين والله لا يضيع مثقال ذرة فإن كان عمل الشر مما يوجب سقوط أثر الحسنة كالكفر كان التأثير وإن لم يسقطه كالمعصية ترتب في حقه الأثران ما لم يسقط أحدهما بسبب من الأسباب التي نذكرها إن شاء الله فيما بعبد والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علم غيره شيئا من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جاريا في الأمة على آباد الدهور وقد صح عن النبي أنه قال لعلي بن أبي طالب والله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم
وصح عنه أنه قال من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا وصح عنه أيضا أنه قال إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وصح عنه أنه قال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وفي السنن عنه أنه قال إن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى النملة في جحرها وعنه أنه
قال إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير وعنه أنه قال إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ عظيم وافر وعنه العالم والمتعلم شريكان في الأجر ولا خير في سائر الناس بعد وعنه أنه قال نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداهما كما سمعها والأحاديث في هذا كثيرة وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد فيا لها من مرتبة ما أعلاها ومنقبة ما أجلها وأسناها أن يكون المرء في حياته مشغولا ببعض أشغاله أو في قبره قد صار أشلاء متمزقة وأوصالا متفرقة وصحف حسناته متزايدة يملي فيها الحسنات كل وقت وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب تلك والله المكارم والغنائم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وعيه يحسد
الحاسدون وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها ويسبق السابقون إليها وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات فنسأل الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه وأصحاب هذه المرتبةيدعون عظماء في ملكوت السماء كما قال بعض السلف من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء وهؤلاء هم العدول حقا بتعديل رسول الله لهم إذ يقول فيما يروى عنه من وجوه شد بعضها بعضا يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وما أحسن
ما قال فيهم الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ومن ضال جاهل قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وذكر ابن وضاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب