وفي القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :قوله: "لا تجعل قبري وثنا بعيدا"، لا: للدعاء، لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها: "قبري"، والثاني: "وثنا". وقوله: "يعبد"، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة، لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله.
وإنما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.
قوله: "اشتد"، أي: عظم.
قوله: "غضب الله"، صفة حقيقية ثابتة لله - عز وجل - لا تماثل غضب المخلوقين لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه، لأنه لو أتى بذلك لكان ملبسا، وحاشاه أن يكون كذلك، فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام، فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.
وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها:
غضب المخلوق حقيقته هو: غليان دم القلب، وجمرة ويلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق، فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11].
أن غضب الآدمي يؤثر آثارا غير محمودة، فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله، فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله. فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك، فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان، لأن الغضب يدل على القدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه، فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [الزخرف: 55].فإن معنى { آسفونا } : أغضبونا، فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرا مترتبا عليه، فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله، فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة، فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل.
قوله: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، أي: جعلوها مساجد، إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها، فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.
وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يجعل قبره وثنا يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك؟
الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له، فلم يذكر أن قبره - صلى الله عليه وسلم - جعل وثنا، بل إنه حمي بثلاثة جدران، فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنا يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثنا.
قال ابن القيم في "النونية":
فأجاب رب العالمين دعاءه ... ... ... وأحاطه بثلاثة الجدران
صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنا، ولكن قد يعبدون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له - صلى الله عليه وسلم - بدعائه عند قبره، فيكون قد اتخذه وثنا، لكن القبر نفسه لم يجعل وثنا.