قال الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله في تتمة أضواء البيان : تفسير سورة الجن : (مسألة
تنبيه
قد أثير في هذه المسألة تساؤلات من بعض الناس بالنسبة للمسجد النبوي وموضع الحجرة منه بعد إدخالها فيه.
وقد أجاب عن ذلك ابن حجر في فتح الباري بقوله على حديث عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً. رواه البخاري في كتاب الجنائز.
وفي بعض رواياته: غير أنه خشي: فقال ابن حجر: وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة ا هـ.
وذكرت كتب السيرة وتاريخ المسجد النبوي بعض الأخبار في ذلك، من ذلك ما رواه السمهودي في وفاء الوفاء قال: وعن المطلب قال: كانوا يأخذون من تراب القبر فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وكان في الجدار كوة فأمرت بالكوة فسدت هي أيضاً. ونقل عن ابن شيبة قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد، وكان عالماً بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم: لم يزل بيت النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ظاهراً حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الخطار المزور الذي هو عليه اليوم، حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وإنما جعله مزوراً كراهة أن يشبه تربيع الكعبة، وأن يتخذ قبلة يصلى إليه.
قال أبو زيد بن شيبة قال أبو غسان: وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم أن عمر بن عبد العزيز بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه وسمعت من يقول: بنى علي بيت النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجدر فدون القبر ثلاثة أجدر، جدار بناء بيت النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه ـ يعني عمر بن عبد العزيز ـ، وجدار الخطار الظاهر، وقال: قال أبو غسان فيما حكاه الأقشهدي: أخبرني الثقة عن عبد الرحمٰن بن مهدي عن منصور بن ربيعة عن عثمان بن عروة، قال: قال عروة: نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم، ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة فأبى وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه. قال قلت: فإن كان لا بد فاجعل له جؤجؤاً. أي وهو الموضع لنزور خلف الحجرة ا هـ.
فهذه منازلة في موضوع الحجرة والمسجد وهذا جواب عمر بن عبد العزيز.
وقد آلت إليه الخلافة وهو الخليفة الراشد الخامس، وقد أقر هذا الوضع لما اتخذت تلك الاحتياطات من أن يكون القبر قبلة للمصلين، وهذا مما لا شك فيه في خير القرون الأولى، ومشهد من أكابر المسلمين، مما لا يدع لأحد مجالاً لاعتراض أو احتجاج أو استدلال، وقد بحثت هذه المسألة من علماء المسلمين، في كل عصر.
وقال القرطبي: بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان ترتبه، وسدوا المدخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره ا هـ. من فتح المجيد.
وقد قال بعض العلماء: إن هذا العمل الذي اتخذ حيال القبر الشريف وقبري صاحبيه إنما هو استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد» كما قال ابن القيم في نونيته، وهو من أشد الناس إنكاراً على شبهات الشرك كشيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى قال:
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية وصيان
وقال صاحب فتح المجيد: ودل الحديث أن قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثناً. ولكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه.
ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها ا هـ.
وهذا الذي قاله حقيقة دقيق مأخذها، لأنه لو لم يكن بعد إدخال الحجرة في مأمن من الصلاة إليه لكان وثناً وحاشاه صلى الله عليه وسلم يكون في حياته داعياً إلى الله وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى يكون قبره وثناً ينافي التوحيد، ويهدم ما بناه في حياته.
وكيف يرضى الله لرسوله ذلك حاشاً وكلا. هذا مجمل ما قيل في هذه المسألة.
وجهة نظر
وهنا وجهة نظر، وإن كنت لم أقف على قول فيها، وهي أن كل نص متقدم صريح في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، بأن يكون القبر أولاً ثم يتخذ عليه المسجد. كما جاء في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} أي أن القبر أولاً والمسجد ثانياً.
أما قضية الحجرة والمسجد النبوي فهي عكس ذلك، إذ المسجد هو الأول وإدخال الحجرة ثانياً، فلا تنطبق عليه تلك النصوص في نظري. والله تعالى أعلم.
ومن ناحية أخرى لم يكن الذي أدخل في المسجد هو القبر أو القبور، بل الذي أدخل في المسجد هو الحجرة أي بما فيها، وقد تقدم كلام صاحب فتح المجيد في تعريف الوثن: أنه ما سجد إليه من قريب.
وعليه فما من مصلّ يبعد عن مكة إلا ويقع بينه وبين الكعبة قبور ومقابر. ولا يعتبر مصلياً إلى القبور لبعدها ووجود الحواجز دونه، وإن كان البعد نسبياً. فكذلك في موضوع القبور الثلاثة في الحجرة، فإنها بعيدة عن مباشرة الصلاة إليها، والحمد لله رب العالمين.
وأيضاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً في ذلك ملخصه من المجموع جلد 72 ص 323 وكأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما مات ودفن في حجرة عائشة رضي الله عنها. وكانت هي وحجز نسائه في شرقي المسجد وقبليه، لم يكن شيء من ذلك داخلاً المسجد. واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة.
ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وُسِّع المسجد وأدخلت فيه الحجرة للضرورة. فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز، أن يشتري الحُجَر من ملاّكها ورثة أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإنهن كن توفين كلهن رضي الله عنهن، فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد فهدمها وأدخلها في المسجد، وبقيت حجرة عائشة على حالها. وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك. إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة.
وقال في صفحة 823: ولم تكن تمكن أحداً أن يفعل عند قبره شيئاً مما نهى عنه وبعدها كانت مغلقة، إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبنى عليها حائط آخر.
فكل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم، أن يتخذ بيته عيداً وقبره وثناً. وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم بل فعلوه لئلا يتخذ وثناً يعبد. ولا يتخذ بيته عيداً، ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم. انتهى.
وتقدم شرح ابن القيم لوضع الجدران الثلاثة وجعل طرف الجدار الثالث من الشمال على شكل رأس مثلث، وأن المشاهد اليوم بعد ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وجود الشبك الحديدي من وراء ذلك كله، ويبعد عن رأس المثلث إلى الشمال ما يقرب من ستة أمتار يتوسطها، أي تلك المسافة محراب كبير، وهذا كان في المسجد سابقاً، أي قبل الشبك. مما يدل على بعد ما بين المصلى في الجهة الشمالية من الحجرة المكرمة وبين القبور الثلاثة، وينفي أي علاقة للصلاة من ورائه بالقبور الشريفة. والحمد لله رب العالمين.
وفي ختام هذه المسألة وقد أثير فيها كلام في موسم حج سنة 4931 في منى ومن بعض المشتغلين بالعلم نقول:
لو أنها لم تدخل بالفعل لكان للقول بعدم إدخالها مجال. أما وقد أدخلت بالفعل وفي عهد عمر بن عبد العزيز وفي القرون المشهود لها بالخير،ومضى على إدخالها ثلاثة عشر قرناً، فلا مجال للقول إذاً.
ومن ناحية أخرى، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم سكت على ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو موضوع بناء الكعبة وكونها لم تستوعب قواعد إبراهيم ولها باب واحد ومرتفع عن الأرض.
وكان باستطاعته صلى الله عليه وسلم أن يعيد بناءها على الوجه الأصح، فتستوعب قواعد إبراهيم، ويكون لها بابان ويسويهما بالأرض. ولكنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك لاعتبارات بينها في حديث عائشة رضي الله عنها.
ألا يسع من يتكلم في موضوع الحجرات اليوم ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وما وسع السلف رحمهم الله في عين الحجرة.
ومن ناحية ثالثة: لو أنه أخذ بقولهم، فأخرجت من المسجد أي جعل المسجد من دونها على الأصل الأول.
ثم جاء آخرون وقالوا: نعيدها على ما كانت عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، ألا يقال في ذلك ما قال مالك للرشيد رحمهما الله في خصوص الكعبة لما بناها ابن الزبير، وأعادها الحجاج وأراد الرشيد أن يعيدها على بناء ابن الزبير فقال له مالك رحمه الله: لا تفعل لأني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك. فيقال هنا أيضاً فتصبح الحجرة ألعوبة الملوك بين إدخال وإخراج. وفيه من الفتنة ما فيه. والعلم عند الله تعالى.).