فتاوى ابن تيميةسئل عن القراءةخلف الامام(( القراءة إذا لم يسمع قراءة الإمام كحال مخافتة الإمام وسكوته فإن الأمر بالقراءة والترغيب فيها يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره فإن قراءة القرآن في الصلاة أفضل منها خارج الصلاة وما ورد من الفضل لقارئ القرآن يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم { من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول : الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } قال الترمذي : حديث صحيح وقد ثبت في خصوص الصلاة قوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا } أي : غير تمام فقيل لأبي هريرة : إني أكون وراء الإمام . فقال : اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله : أثنى علي عبدي فإذا قال { مالك يوم الدين } قال : مجدني عبدي وقال مرة : فوض إلي عبدي فإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل } . وروى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه : بسبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال : أيكم قرأ ؟ أو أيكم القارئ قال رجل : أنا قال : قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } رواه مسلم . فهذا قد قرأ خلفه في صلاة الظهر ولم ينهه ولا غيره عن القراءة لكن قال : { قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } أي نازعنيها . كما قال في الحديث الآخر : { إني أقول ما لي أنازع القرآن } . وفي المسند عن ابن مسعود قال : { كانوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خلطتم علي القرآن } فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه وخلط عليه القرآن وهذا لا يكون ممن قرأ في نفسه بحيث لا يسمعه غيره وإنما يكون ممن أسمع غيره وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره لا لأجل كونه قارئا خلف الإمام وأما مع مخافتة الإمام . فإن هذا لم يرد حديث بالنهي عنه ولهذا قال : " أيكم القارئ ؟ " . أي القارئ الذي نازعني لم يرد بذلك القارئ في نفسه فإن هذا لا ينازع ولا يعرف أنه خالج النبي صلى الله عليه وسلم وكراهة القراءة خلف الإمام إنما هي إذا امتنع من الإنصات المأمور به أو إذا نازع غيره فإذا لم يكن هناك إنصات مأمور به ولا منازعة فلا وجه للمنع من تلاوة القرآن في الصلاة . والقارئ هنا لم يعتض عن القراءة باستماع فيفوته الاستماع والقراءة جميعا مع الخلاف المشهور في وجوب القراءة في مثل هذه الحال بخلاف وجوبها في حال الجهر فإنه شاذ حتى نقل أحمد الإجماع على خلافه . وأبو هريرة وغيره من الصحابة فهموا من قوله : { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } } أن ذلك يعم الإمام والمأموم . وأيضا فجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها سرا يشرع للمأموم أن يقولها سرا كالتسبيح في الركوع والسجود وكالتشهد والدعاء . ومعلوم أن القراءة أفضل من الذكر والدعاء فلأي معنى لا تشرع له القراءة في السر وهو لا يسمع قراءة السر ولا يؤمن على قراءة الإمام في السر . وأيضا فإن الله سبحانه لما قال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وقال : { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته فإنه ما خوطب به خوطبت به الأمة ما لم يرد نص بالتخصيص . كقوله : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } وقوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } وقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } ونحو ذلك . وهذا أمر يتناول الإمام والمأموم والمنفرد بأن يذكر الله في نفسه بالغدو والآصال وهو يتناول صلاة الفجر والظهر والعصر فيكون المأموم مأمورا بذكر ربه في نفسه لكن إذا كان مستمعا كان مأمورا بالاستماع وإن لم يكن مستمعا كان مأمورا بذكر ربه في نفسه . والقرآن أفضل الذكر كما قال تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } وقال تعالى : { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } وقال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وقال : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } . وأيضا : فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء ليس عبادة ولا مأمورا به ؛ بل يفتح باب الوسوسة فالاشتغال بذكر الله أفضل من السكوت وقراءة القرآن من أفضل الخير وإذا كان كذلك فالذكر بالقرآن أفضل من غيره كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } . رواه مسلم في صحيحه . وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه فقال : قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال : يا رسول الله هذا لله فما لي قال : قل : اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال : هكذا بيديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد ملأ يديه من الخير } رواه أحمد وأبو داود والنسائي . والذين أوجبوا القراءة في الجهر : احتجوا بالحديث الذي في السنن عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } . وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة ضعفه أحمد وغيره من الأئمة . وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع وبين أن الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بأم القرآن } فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة . وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة . وأيضا : فقد تكلم العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة وبسطوا القول فيها وفي غيرها من المسائل . وتارة أفردوا القول فيها في مصنفات مفردة وانتصر طائفة للإثبات في مصنفات مفردة : كالبخاري وغيره . وطائفة للنفي : كأبي مطيع البلخي وكرام وغيرهما