النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: يرجى من الإخوة وضع كل الروابط أو الموضوعات المتعلقة بالخوارج و البغاة // هنا

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    المشاركات
    714

    يرجى من الإخوة وضع كل الروابط أو الموضوعات المتعلقة بالخوارج و البغاة // هنا

    بسم الله الرحمن الرحيم
    يرجى من الإخوة وضع كل الروابط أو الموضوعات المتعلقة بالخوارج و البغاة // هنا
    معها هدية وهي تعليق كالتالي:
    الصور المرفقة الصور المرفقة  

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2005
    الدولة
    belgique
    المشاركات
    171

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    مدينة
    المشاركات
    1,762
    ونضع لك هنا أيضا ما يتعلق بالمرجئة لأجل التوقيع :
    صاعقة جديدة من العلامة الفوزان على أوكار ربيع المدخلي الإرجائية -
    http://alathary.net/vb2/showthread.php?t=9759

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    مدينة
    المشاركات
    1,762
    فكري الدينوري ـ هذا الاسم لا أكتب به إلا في هذه الشبكة فقط .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2005
    الدولة
    الجزائر
    المشاركات
    255
    الخوارج والفكر المتجدد لفضيلة الشيخ عبد المحسن
    إن الحمدلله ، نحمده ونستعينه ونستغره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
     يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون  (1)
    يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء ، واتقـوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيباً  (2)
    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالك ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً  (3) . (4)






    روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بادِرُوا بالأعمال فِتَناً كقِطَع اللَّيل المظلم يُصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً يبيع دينه بِعَرَضٍ من الدنيا " (1).
    وقد أطلّت في هذه الأزمنة فتن عظيمة ، هزّت أركان الدين في قلوب كثير من أهل الإسلام .
    ومن أشد ما ابتليت به الأمة – ومنذ مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضى الله عنه إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله – فتنة الخروج على الأئمة وولاة الأمور .
    فانبرى لذلك أهل العلم الراسخين ردّاً وبياناً ، إعلاناً لمنهج أهل السنة والجماعة ، وكشفاً للغُمَّة عن الأمة ، فكانوا بحقٍ حماة الدين والعقيدة ، ناصرين للسنة ، وقامعين للبدعة.
    ورحم الله إمام أهل السنة الإمام أحمد حيث قال :
    الحمدلله الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهُدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يُحيون بكتاب الله الموتى ، ويُبصِّرون بنور الله أهل العَمَى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هَدَوْه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالِين ، وانتحال المُبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عقال الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، مجمعون على مفارقة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ، يتكلمون بالمتشابه ، ويخدعون جُهّال الناس بما يُشَبِّهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتنة المضلين . ا  (2)





    ومن أولئك العلماء فضيلة شيخنا الشيخ عبدالمحسن بن ناصر آل عبيكان حفظه الله ورعاه .
    فقد بيّن جزاه الله خيراً فكر الخوارج قديماً وحديثاً ، وردّ عليهم كاشفاً سوء مذهبهم ، وذلك من خلال ندوات أقيمت لكشف شبهات الخوارج ومن يحمل لواء فكرهم في هذا الزمان ، وقد شارك فيها إلى جانب فضيلته كلٌّ من فضيلة الشيخ صالح الأطرم ، وفضيلة الشيخ صالح السدلان ، وفضيلة الشيخ صالح آل الشيخ حفظهم الله جميعاً .
    وقد تفضّل الشيخ – حفظه الله – وأَذِنَ أن أخرج محاضرته لتعم الفائدة ، فصدّرتـها بنبذة يسيرة للتعريف بفرقة الخوارج إذ هي محور المحاضرة .
    وتتميماً للفائدة رأى شيخنا - حفظه الله - أن أُلْحق بآخر الكتاب رسالة في مسألة التكفير للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه الله - لما تتضمنه من تأصيل لهذه المسألة .
    ولا أنسى أن اتقدم بالشكر الجزيل للأخ العزيز بدر بن جابر المري على مساهمته في إخراج هذا الكتاب .
    هذا والله أسأل أن يجزي شيخنا خير الجزاء ، وأن يُجزل له المثوبة والعطاء ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم .

      











    تمهيد
    تعريف الخوارج :
    جمع خارجة أي طائفة (1) ، وهم قوم مبتدعون وهي أول البدع ظهوراً في الإسلام وأظهرها ذمّاً للسُّنة والآثار (2) ، وسُمُّوا بذلك لخروجهم على خيار المسلمين وعلى الجماعة وعلى الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه سواء كان في زمن الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان (3) .
    وقيل : لخروجهم عن طريق الجماعة .
    قال الشهرستاني : " كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يُسمى خارجياً سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان " .(4)
    وسُمُّوا بأسماء وألقاب وصفات منها : قال القاضي عياض : سُمُّوا مارقة من قولة صلى الله عليه وسلم : " يمرقون من الدين " (5) وهم يرضون الأسماء والألقاب كلها إلاّ المارقة (6) .
    ويقال لهم : الحرورية لأنهم خرجوا بمكان يقال له ( حروراء ) وهي قرية قريبة من الكوفة (7) .
    ويقال لهم : أهل النهروان ؛ لأن عليّاً قاتلهم هناك (8) .


    ويقال لهم : الْمُحَكِّمَة : لإنكارهم التحكيم ، وقولهم : لا حكم إلا لله (1) .
    ويقولون : بأن كل من أتى بكبيرة فهو كافر مُخلّد في النار ، وهم أول من كفّر المسلمين بالذنوب ، ويُكفِّرون من خالفهم في بدعتهم ، ويستحلِّون دمه وماله ، وحُكي عنهم أنهم لا يَتَّبِعون النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ فيما بلّغه عن الله تعالى من القرآن والسنة المفسِّرة له ، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعملون إلا بظاهره(2) .
    ويقولون : بوجوب أو تجويز الخروج على السلطان الجائر (3) ، أو إذا خالف السنة حقاً واجباً (4) .
    ويقولون بالتبري من عثمان وعلي-رضي الله عنهما-ويقدِّمون ذلك على كل طاعة .(5)
    وبقي من أصحاب هذه البدعة فِرَق وطوائف إلى يومنا هذا (6) .

    أول ظهور هذه الفِرقة :
    أصل مذهبهم وأوَّل ظهوره كان في زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأوَّلهم هو ذو الخويصرة ابن تميم ، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية " .(7)
    أما أوَّل خروجهم ومفارقتهم لجماعة المسلمين فكان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه بعد حادثة التحكيم عام 37هـ ، وإن كان رؤوس هذه الفرقة هم قتلة عثمان رضى الله عنه إلاّ أن خروجَهم وشقَّهم عصى المسلمين كان في زمن علي رضى الله عنه . والله أعلم .
    سبب ظهور هذه الفرقة :
    أولاً : إن أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا عليه بذلك(1) .
    ثانياً : مطالبة علي بن أبي طالب رضى الله عنه بأن الحكم لله لا للرجال وفارقوه حينما رجع للكوفة وهم ثمانية ، وقيل : كانوا أكثر من عشرة آلاف ، وقيل : ستة آلاف ونزلوا حروراء (2) .
    ثالثاً : الغُلوّ الذي نهى الله عنه وحذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم فكفَّروا من ارتكب كبيرة ، وبعضهم يكفّر بالصغائر (3) .
    ولقد أرسل إليهم عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه ابنَ عباس رضى الله عنه فناظرهم فرجع كثير منهم معه يقال أنهم أربعة آلاف منهم ابن الكوّاء (4). وناظرهم أيضاً عليٌّ فوضحت حجته عليهم (5) .
    فِرَق الخوارج :
    افترقت الخوارج إلى فرق كثيرة فقيل : ثمان عشرة فرقة (6) ، وقد أوصلها بعضهم إلى عشرين فرقة (7) .
    وأكبر هذه الفرق هم : الْمُحَكِّمة ، والأزارقة ، والنجدات ، والبهيسية ، والعجاردة ، والثعالبة ، والإباضية ، والصفرية ، والباقون فروعهم (8) .
    رؤوس هذه الفرقة :
    ورؤوس الخوارج وهم المحكّمة الأولى الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي حين جرى أمر الحكمين ، واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة ، ورئيسهم عبدالله بن الكَوَّاء اليشكري التميمي ، وعتاب بن الأعور ، وعبدالله بن وهب الراسبي ، وعروة بن حدير ، ويزيد بن أبي عاصم المحاربي ، وحرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية .(1)
    وعبدالرحمن بن ملجم الذي قتل عليّاً  بعد أن دخل عليٌّ في صلاة الصبح .
    ونافع بن الأزرق في العراق ، ونجدة بن عامر باليمامة وكان أشدهم على التمرد والخروج على عليٍّ  ، والأشعث بن قيس ، ومسعر بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصين الطائي (2) .

    بعض المصنفات في أخبار هذه الفرقة :
    وقد صنّف في أخبار فرقة الخوارج :
    1- أبو مِخْنَف : لوط بن يحيى ، وقد لخص كتابه الإمام الطبري في تاريخه .
    2- الهيثم بن عدي .
    3- محمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح وقد ألّف كتاباً كبيراً .
    4- أبو العباس بن المبرد في كتابه ( الكامل ) وجمع فيه أخبارهم لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله (3) .
    5- أبو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني في كتابه المِلل والنِّحَل .
    6- أبو منصور عبدالقاهر البغدادي في كتابه الفَرْق بين الفِرَق .






    موقف أهل السنة والجماعة من فرقة الخوارج :
    يعتقد أهل السنة والجماعة أن الخوارج أصحاب مذهب فاسد ، وأنهم ابتدعوا في الدين وشقُّوا عصا المسلمين .
    وللعلماء في تكفير الخوارج قولان مشهوران (1) ،والصحيح منهما هو عدم تكفيرهم(2)، وقد اتفق الصحابة على قتالهم ومع هذا لم يكفِّروهم (3) ، ولم يقاتلوهم حتى سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا على أموال المسلمين ، فقاتلهم المسلمون لرفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفّار ولهذا لم تُسْبَ حريمهم ولم تُغْنَمْ أموالهم(4) .
    ومما يدل على أن الصحابة لم يكفّروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم ، وكان عبدالله بن عمر  وغيره من الصحابة يصلّون خلف نجدة الحروري ، وكانوا أيضاً يحدِّثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلمُ المسلمَ ، كما كان عبدالله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل ، وحديثه في البخاري ، وكما أجاب نافعَ بن الأزرق عن مسائل مشهورة ، وكان نافعٌ يناظره في أشياء في القرآن ، كما يتناظر المسلمان.
    ومازالت سيرة المسلمين على هذا ، ما جعلوهم مرتدين (5) .
    والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام ؛ بل جعلهم من أمَّته ولم يقل : إنهم مخلّدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته .
    ومازال الأئمة في كل زمان ومكان ، يجاهدون من خرج عن طاعة إمام المسلمين والعلماء يجاهدون معهم ويحضونهم على ذلك ، ويصنِّفون التصانيف في فضل ذلك وفي فضل من قام فيه لا يشك أحد منهم في ذلك (6) .

    ويرى أهل العلم أنه واجب على المسلمين في كل عصر إذا تحققوا من وجود هذا المذهب الخبيث أن يعالجوه بالدعوة إلى الله أولاً ، وتبصير الناس بذلك ، فإن لم يمتثلوا قاتلوهم دفعاً لشرّهم (1) .


      
























    الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
    أما بعـــد ،،،
    فإن من أهم المواضيع التي ينبغي أن يتعرض لها من دعا إلى الله تبارك وتعالى هي التي تهم المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم ، ولا شك أن موضوع هذه المحاضرة مهم جداً ، وخاصة في هذا الزمن الذي كثر فيه الاختلاف والتنازع ، وكثر فيه قول : الحق معي .
    ولا شك أن الكثير يعرف أن الفرقة التي ضلت في باب التكفير أو التي اشتهرت به : هي فرقة الخوارج ، وقد يظن البعض بأن الخوارج الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضى الله عنه في ذلك الزمن ، وقاتلهم ، وقتلهم شر قتله فقط وأنه انتهى الأمر بذلك !!
    بينما لا يمضى زمان إلا وقد يوجد فيه نوع من أنواع هذه الفرقة ، وإن لم يلتزم بجميع مبادئها ، وهذا ما سنوضحه أن شاء الله تعالى .















    توطئة
    لقد بعث الله تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأكمل شريعة ، وأيسرها ، وأشملها ، وأنفعها لعباده ، ثم وطد النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام في مدينته صلى الله عليه وسلم ، فاستقر أمر الشريعة ، وأمر المسلمين على مبدأ واحد ، ومذهب واحد ، لا خلاف بينهم سوى ما يحصل في بعض الفروع التي لا يزال الناس يختلفون فيها قديماً وحديثاً ، والتي فيها مجال للاجتهاد، والأخذ والرد ، وكل مجتهد له حظ ونصيب من الأجر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " (1)، إنما الاختلاف الذي لا يسوغ فيه الاجتهاد ، هو ما يتعلق بالعقيدة والمنهج، فهذا لم يكن بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه ، وزمن أبي بكر وعمر - رضى الله عنهما - إنما كان الصحابة على عقيدة واحدة ومنهج واحد .
    ثم إنه بعد ذلك حصل ما حصل من الاختلاف والافتراق ، والنبي صلى الله عليه وسلم حثّ أمته على التيسير وعدم التعسير ، وأمرهم بالرفق ، ففي حديث جرير بن عبد الله رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من يحرم الرفق يحرم الخير كله " (2)أخرجه مسلم ، وأبو داود ، ولم يذكر مسلم :" كله " .
    وعن أبي الدرداء رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير " أخرجه الترمذى وغيره (3) .
    وعن أبي موسى الاشعرى رضى الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال : " بَشِّروا ولا تُنفِّروا ، ويَسِّروا ولا تُعسِّروا " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى . (1)
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم والغلو في الدين " (2) ، الغلو : مجاوزة الحد ، وهذا ما حمل الخوارج على الضلال والخروج عن جادة الطريق الصحيح ، فقد جاوزوا الحد فخرجوا عن الطريق السوي فلهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (3) ، وذلك أن من ألقى سهماً على صيد فإن هذا السهم قد يدخل في هذا الصيد فينفذ ويخرج منه فشبَّههم النبي صلى الله عليه وسلم بالسهم ، فكأنهم دخلوا الإسلام وخرجوا منه كما خرج هذا السهم من هذا الصيد .






    يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم " (1) أي : احذروا، فإن الأمم السابقة غلو في دينهم وترَهَّبوا ، وألزموا أنفسهم بأشياء لم يلزمهم الله - تبارك وتعالى - بها فشدَّد الله عليهم بسبب غُلُوِّهِم ، ولا نسترسل في هذا فإنه موضوع طويل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : " إن هذا الدين متين ، فأَوغِّل فيه برفق ، فإن الْمُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " (3) .
    كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجماعة المسلمين ، ونهى عن الشذوذ والفُرقة ، وشبَّه الجماعة بالغنم ، ومن شذ عن الجماعة شبَّهَهُ بالقاصية عن الغنم التي يأكلها الذئب فقال صلى الله عليه وسلم :




    " إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " (1) ، أما الجماعة المجتمعة فلا يستطع أحد أن ينالها من قوتها وتماسكها ، إنما يستطيع العدو أن يظفر بالعدد القليل الشاذ ، فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال : خطبَنا عمر رضى الله عنه بالجابية (2) فقال : " يا أيها الناس أني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال : " أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يَفْشُو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يُستحلف ، ويشهد الشاهد ولا يُستشهد ، ألاَ لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلاّ كان ثالثهما الشيطان ، عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بَحْبُوحَة الجنة فلْيَلْزَمِ الجماعة ، من سَرَّتْهُ حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن " . (3)
    وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعة فقد نهى عن الفرقة والاختلاف فقال صلى الله عليه وسلم : " إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "(1) .
    وأخبر النبي ‌ صلى الله عليه وسلم : " أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة " (2).








    كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالالتزام بالبيعة لإمام المسلمين ، وأنّ من بات وظن أنه لابيعة في عنقه فإنه يموت ميتة جاهلية (1) ، وهذا يضل فيه بعض الناس فيظن أنه لابيعة في عنقه لأنه لم يبايع فعلاً بذهابه إلى الحاكم وإعلان البيعة أمامه ومصافحته ونحو ذلك ، وهذا خطأ فاحش فإن الصحابة رضوان الله عليهم لَمَّا بايعوا أبا بكر رضى الله عنه لم يأتِ جميع المسلمين ليبايعوه ؛ وإنما بايعه أهل الحل والعقد منهم ، فثبتت البيعة واستقرت حتى علَى من لم يأتِ إلى أبي بكر ولم يره ولم ينظر إلى صورته ، وهذا ما أجمع عليه المسلمون في كل زمان ومكان ، ولا يمكن أن يقال إنه لابد لكل مسلم - مع كثرة المسلمين - أن يأتي ليبايع وإلا لم تكن في عنقه بيعة ! بل البيعة ثابتة في عنقه متى ما بايع أهل الحل والعقد واستقرت الخلافة والإمارة والسلطة ، ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله : من غلب عليهم بالسيف - أي من غلب على المسلمين بالسيف- حتى صار خليفة ، وسُمِّيَ أمير المؤمنين ، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما براً كان أو فاجراً . ا  (2)
    أي فلا يحل لأحد أن يبيت ولا يراه إماماً ، ولا يجوز - ولو ليلة واحدة - أن لايرى ذلك ، فإنه معرض نفسه لأن يموت ميتة جاهلية والعياذ بالله .
    كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطاعة ولاة الأمر ، وقد بيّن ذلك ربنا - جل وعلا - في مُحكَم التنـزيل فقال تعالى :  يا أيـها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولـي الأمر منكم(3) فأمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم أمر بطاعة ولاة الأمر إذا أمروا بطاعة الله ، أو أمروا بشىء ليس فيه معصية لله - جل وعلا - فإذا أمروا بالمباح لزم المسلمين أن يطيعوهم فيه ، ولا يحل لأحد أن يقول : لا أطيعهم إلا في طاعة الله فقط ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن طاعتهم في المعصية فقط ، فمفهومه أنهم لو أمروا بغير معصية - كما لو أمروا بمباح - فإنه يلزم كل مسلم أن يسمع ويطيع ، وهذا واضحٌ وجليٌّ في ترتيب الأمور المباحة للأمة كتنظيم الطرق مثلاً وغير ذلك ، مع أن الأصل أن هذه من المباحات ؛ إلاّ أنه لَمَّا رأى الحاكم إلزام الناس بهذا المباح لما فيه من المصلحة العامة ، وتنظيم أمور المسلمين وجبت طاعته ، ولهذا يقول العلماء : للحاكم أن يلزم الناس بأحد طرفي المباح لتنظيم الناس فيلزم أن يُطاع ، وإلاّ دَبَّت الفوضى وشاعت ، ولم تستقر أمور المسلمين ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني " (1) ، والأدلة في هذا كثيرة ولكن لا نريد أن نطيل في هذا الموضوع وقد أوضحنا ذلك في حقوق الراعي والرعية (2) ببسط أكثر .
    كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من جاء يفرق جماعة المسلمين ، ويتسبب في حدوث الفوضى بينهم والاضطراب والقلاقل(3) .
    فقال صلى الله عليه وسلم :"إذا بويع لخلفتين ، فاقتلوا الآخَرَ منهما " (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أتاكم ، وأَمْرُكم جميعٌ على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرِّق جماعتكم فاقتلوه " (5) ، حتى لو كان الآخَرُ أفضل من الأول ، وذلك أنه لَمَّا استقر أمر المسلمين على واحد فالإذن لغيره أن يأتـي ويعارضه ويطالب بالحكم سبيل للفوضى واضطراب الناس ، ثم يفسد أمر جماعة المسلمين ، وتسفك الدماء ، وتنتهك الأعراض ، ويحصل الفساد العريض ، ومن قواعد الشريعة المقررة أنها ترتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما .(6)






























    ظهور فرقة الخوارج
    ظهر الخوارج في حين فُرقة حصلت بين المسلمين مصداقاً لِمَا أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال : " آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثَدْيِ المرأة ، أو مثل البَضْعَة تدَرْدَرُ(1) ، ويخرجون على حين فُرقة من الناس " . (2)
    وعن زيد بن وهب الجهني(3) أنه كان في الجيش الذي كان مع علي رضى الله عنه الذين ساروا إلى لخوارج ،فقال علي رضى الله عته : أيها الناس ! إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يخرج قوم من أمتي يقرؤن القرآن ، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ، ولاصلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولاصيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرؤن القرآن ، يحسبون أنه لهم وهو عليهم ، لاتجاوز صلاتهم تراقيَهم (4) ، يَمْرُقون (5) من الإسلام كما يَمْرُقُ السهم من الرمية " .
    لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ، ما قُضِيَ لهم على لسان نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، لاتَّكَلُوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عَضُدٌ ، وليس له ذراع ، على رأس عَضُدِهِ مثلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ ، عليه شَعَراتٌ بِيضٌ .
    فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريِّكم وأموالكم! والله أني لأرجو أن يكون هؤلاء القوم ، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام ، وأغاروا في سَرْحِ الناس(1). فسيروا على اسم الله .
    قال سلمة بن كُهِيْل(2) : فنَزَّلني زيد بن وهب منزلاً ، حتى قال : مرَرْنا على قَنْطَرَة (3)، فلما الْتَقَيْنا وعلى الخوارج يومئذ عبدالله بن وهْب الراسِبي(4) ، فقال لهم : ألْقُوا الرِّماح ، وسُلُّوا سيوفكم من جُفونِها ، فإنِّي أخاف أن يُناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء(5) ، فرجعوا فوَحَّشُوا برماحهم ، وسَلُّوا السيوف ، وشَجَرَهم(6) الناسُ برماحهم ، قال : وقُتِلَ بعضهم على بعض ، وما أُصيب من الناس يومئذ إلاّ رجلان ، فقال علِيٌّ رضى الله عنه : الْتَمِسُوا فيهم الْمُخْدَج(7) ، فالْتَمَسُوه فلم يجدوه ، فقام علِيٌّ رضى الله عنه بنفْسه حتى أتى ناساً قد قُتِل بعضهم على بعض ،قال : أَخِّرُوهم ،فوجدوه مما يلي الأرض ، فكبَّر ثم قال : صَدَقَ الله، وبلَّغ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم.
    قال : فقام إليه عَبيدَة السَّلماني(1) ، فقال : يا أمير المؤمنين ! ‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍ألله الذي لا إله الاهو ! لَسَمِعتَ هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟قال : إِي والله الذي لا إله الاهو !حتى استحلفه ثلاثاً ، وهو يحلف له . أخرجه مسلم .(2)
    وعن أبى سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته ، يخرجون في فرقة من الناس ، سيماهم التَّحالُق(3) ، قال :" هم شر الخلق أو من أَشَرِّ الخلق ، يقتلهم أدنى الطائفتين من الحق " قال أبو سعيد : وأنتم قتلتموهم ، يأهل العراق !(4)
    قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف ، عن أبى نضرة ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تفترق أمتي فرقتين ، فتمرق بينهما مارقة ، فيقتلها أَوْلَى الطائفتين بالحق " (5) .
    يقول ابن كثير - رحمه الله - : فهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - وفيه الحكم بإسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق ، لا كما تزعمه فرقة الرافضة ، أهل الجهل والجور ، من تكفيرهم أهل الشام ، وفيه أن أصحاب عليٍّ أدنى الطائفتين إلى الحق .
    وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن عليًّا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً في قتاله له وقد أخطأ وهو مأجور - إن شاء الله - ولكن علي هو الإمام المصيب - إن شاء الله تعالى- فله أجران ، كما ثبت في صحيح البخاري من حيث عمرو بن العاص رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " (6) .(7)
    وقد قاتل عليٌّ رضى الله عنه هذه الفرقة فإنه لَمَّا رجع من الشام بعد وقعة صفين ، ذهب إلى الكوفة ، فلما دخلها اعتزله طائفة من جيشه ، قيل ستة عشر ألفاً ، وقيل اثنا عشر ألفاً ، وقيل أقل من ذلك ، فباينوه (1) وخرجوا عليه وأنكروا عليه أشياء ، فبعث إليهم عبدالله بن عباس فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه من الشُّبَه ، ولم يكن له حقيقة في نفس الأمر فرجع بعضهم واستمر بعضهم على ضلاله .
    ويقال : إن عليًّا  ذهب إليهم فناظرهم فيما نقموا عليه حتى استرجعهم عما كانوا عليه ، ودخلوا معه الكوفة ، ثم إنهم عادوا فنكثوا ما عاهدوا عليه وتعاقدوا ، وتعاهدوا فيما بينهم على القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والقيام على الناس في ذلك ثم تحيزوا إلى ناحية موضع يقال له النهروان (2) ، وفيه قاتلهم عليٌّ .ا هـ (3)
    ومن فِعْل هؤلاء الجهلة أنهم كانوا أشد الناس حرصاً على الطاعة والعبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم يصلون صلاة لم يصلها أهل السيرة الصحيحة والعقيدة السليمة ، وكذلك بقية العبادات : " تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وصيامكم عند صيامهم " (4) لكن لا ينفعهم ذلك وإن أكثروا العبادة ! لماذا ؟ لأن العمل الذي يقبله الله لا يقبله إلا بركنين :







    الأول : أن يكون العمل خالصاً لله - جل وعلا - لا رياء فيه ولا سمعة .
    الثاني : أن يكون صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    قال تعالى :  ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً  (1)،قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - : أصوبه وأخلصه .
    فإن العمل إن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، وكذلك إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً .(2)
    فيشترط فيما يعمله المسلم من عمل يتقرب به إلى الله تعالى ، أن يحرص أن يكون خالصاً لوجه الله - جل وعلا - ولو أشرك مع الله غيره ما قبل عمله ، وإن عمل عملا خالصاً لا رياء فيه ولا سمعة - عَبَدَ الله لكنه على جهل وضلال - ولم يراعِ في عمله هذا السُّنَّة والطريقة الصحيحة فإن عمله هذا لا يُقبل وان كان خالصاً إذا لم يكن صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلابد أن يحرص المسلم أن يكون عمله خالصاً صواباً .
    هؤلاء عملهم خالص لكنه ليس بصواب ، وإن أكثروا العبادة واجتهدوا فيها فإنهم مَرَقُوا من الدين بسبب الغلو والجهل وتكفير المسلمين .
    ومما يدل على جهلهم قصة حدثت في زمن عليٍّ فقد قام رضى الله عنه خطيباً فحثَّهم على الجهاد والصبر عند اللقاء ، فبينما هو عازم على غزو أهل الشام إذ بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فساداً وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسروه وامرأته معه وهى حامل ، فقالوا له : من أنتَ ؟ فقال : أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتـم قـد روعتمونـي ، فقالوا : لا بأس عليك ، حدثنـا ما سـمعت من أبيك ، فقال : سـمعت أبـي يقول : سَمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائـم خير من


    الماشي ، والماشي خير من الساعي " (1) فقادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنـزيراً لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم بسيفه فشق جلده فقال له آخر : لِمَ فعلت هذا وهو لذمي ؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه ! وبينما هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه ، فقال له آخر : بغير إذن ولا ثَمن ؟ فألقاها ذلك من فمه ، ومع هذا قدموا عبد الله بن خبّاب فذبحوه ، وجاءوا إلى امرأته فقالت : إنِّي امرأة حُبْلَى ، ألا تتقون الله عز وجل ؟ فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها .(2)
    فانظر كيف يتورعون في شيء يسير ولا يتورعون في الدماء التي حرمتها عظيمة جداً ، تورع لَما قتل خنزيراً ؛ لأنه لكافر ذمي ! فذهب وأرضاه ، كذلك تورع عن أكل التمرة التي سقطت من نخلة ، لكن لم يتورعوا عن قتل مسلم .
    وهذا مثل كثير من الناس اليوم ، يتورع عن أكل اللحوم المستوردة - مثلاً - من بلاد النصارى ولكنه لا يتورع عن تكفير المسلمين فيقول فلان كافر وفلان كافر !ما حجتك ؟
    تجده يبحث عن الحجج ، ويحاول أن يحوِّر بعض النصوص حتى تستقيم مع هواه ورغبته في أن يكفر هذا الحاكم أو غيره ؛ لأنه لن يستقيم له أمر ولن يقبل منه قول في وجوب الخروج على هذا الحاكم إلا إذا كفَّره أولاً .
    إنّ الناس يعرفون أنه لا يجوز الخروج إلا على من كفر ، فلهذا يبدأ أولاً بتكفيره ، وإقناع الناس أنه كافر خارج عن ملة الإسلام ، فإذا اقتنعوا بذلك عرض عليهم أن يخرجوا عليه .
    وهذه مصيبة وقع فيها كثير من المسلمين اليوم ، مع أن مسألة التكفير عظيمة ليست سهلة أبداً ، فلا يكفر إلا من كفَّره الله في كتابه صريحاً واضحاً جلياً ، أو كفَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته ، أو أجمع المسلمون على تكفيره .
    عن عليٍّ رضى الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود . قال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (1) فإنّ بها ظعينة (2) ومعها كتاب فخذوه منها " ، فانطلقنا تعادَى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب. فقالـت : ما معي من كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عِقاصها(3) ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ياحاطب ما هذا " ؟ قال : يارسول الله لا تعجل علي ، إنِّي كنت امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بِمكة يحمون بِها أهليهم وأموالهم ، فأحببتُ إذ فاتني ذلك النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بِها قرابتي ، وما فعلتُ كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد صدقكم " ، فقال عمر : يارسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، قال : " إنه شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " .(1)
    فولاية أعداء الله كُفرٌ ولا شك لقوله تعالى :  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء (2) ، وظاهر عمل حاطب كفر فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ما سبب ذلك ؟ فأخبره أنه فعل ذلك لتكون له يد عند قريش ليحمي بِها ماله وأهله ، وليس في شك من دينه .
    فمع أن ظاهر عمله كفر ، لكن لما كان في الباطن ما يدل على خلاف هذا الظاهر ، لم يَجُزْ أن يُطلق عليه الكفر ولا أن يُخرَج عن ملة الإسلام .
    ومن ذلك قصة الإسرائيلي فقد " كان رجلاً يسرف على نفسه ، فلمّا حضره الموت قال لبنيه : إذا أنا مُتُّ فأحرقوني ، ثم اطحنوني ، ثم ذرُّوني في الريح ، فوالله لئن قَدَرَ الله عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عذاباً ما عذَّبه أحداً ، فلما مات فُعِلَ به ذلك ، فأمر الله الأرض فقال : اجمعي ما فيك منه ، ففعلت . فإذا هو قائم ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا ربِّ خَشْيَتُك فغفر له " . وقال غيره : " مخافتك يا رب " (3) أي أنه خَشِيَ الله -جل وعلا- ففعل ذلك.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هذا رجل شك في قدرة الله ، وفي إعادته إذا ذُرِيَ ؛ بل اعتقد أنه لا يُعاد . وهذا كفر باتفاق المسلمين ؛ لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك ، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه ، فغفر له بذلك . (4)
    فالمسألة ليست سهلة ولا يسيرة ؛ بأن تكفر مسلماً بدون أن تكون هناك الأدلة القاطعة على تكفيره ، وهذا أيضاً لابد أن يتولاه أهل العلم الراسخون فيه .
    يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - في الخوارج : قلت وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم فسبحان من نَوَّعَ خلقه كما أراد ، وسبق في قَدَرِهِ العظيم . وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنَّهم المذكورون في قوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً(1) والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضُّلاّل ، والأشقياء في الأقوال والأفعال ، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين ، وتواطؤوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم - ممن هو على رأيهم ومذهبهم ، من أهل البصرة وغيرها - فيوافوهم إليها . ويكون اجتماعهم عليها . فقال لهم زيد بن حصين الطائي (2) : أن المدائن لا تقدرون عليها ، فإنَّ بها جيشاً لا تطيقونه وسيمنعوها منكم ، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جُوخَا (3) ، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات ، ولكن اخرجوا وحداناً لئلا يُفطن بكم ، فكتبوا كتاباً عاماً إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يداً واحدة على الناس ، ثم خرجوا يتسللون وحداناً لئلا يعلم أحدٌ بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات ، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يُرضِي رب الأرض والسموات ، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر والذنوب الموبقات ، والعظائم والخطيئات ، وأنه مما زيَّنه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته مادامت أرواحهم في أجسادهم مترددات ، والله المسؤول أن يعصمنا منه بِحولِه وقوته إنه مجيب الدعوات . اهـ (4)
    والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أمرنا أن نقاتل من بَغَى على الإمام ، ومن خرج عن طاعته ، ولهذا يقول الله - جل وعلا - في محكم التنـزيل :  وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله  (1) فأمر بقتال الفئة الباغية .
    كما أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنّ عليًّا رضى الله عنه على الحق ، وأنّ من قاتل معه فقد قاتلوا من بغى عليهم ، ولهذا لو بَغَى جماعة على إمام المسلمين فإنه يجب على عامة المسلمين وعلى الرعية أن يقاتلوا هؤلاء البُغاة .(2)
    وجاء في الحديث أنّ هؤلاء الخوارج لا يخرجون في وقت من الأوقات فقط ؛ بل إنهم يخرجون في أزمان متعددة حتى يكون خروجهم مع خروج المسيح الدجال ، فرُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم (3) ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيَهم ، يَمرُقون من الإسلام كما يَمرُق السهم من الرميَّة ، سيماهم التحليق(4)،لا يزالون يخرجون حتى يخرج أخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقِيتموهم فاقتلوهم، هم شرُّ الخلق والخليقة " (5) أخرجه النسائي .
    ففي هذا الحديث قال : حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال ، فلا بد أن يكون لهؤلاء خروج إلى أن يخرج بعضهم مع المسيح الدجال في آخر الزمان .
    وقد ذكر العلماء ذلك مع أحاديث الخوارج الذين خرجوا علَى علِيٍّ رضى الله عنه بينما هو عند التأمل ينطبق على قوم : منهم الذين خرجوا قبل سنوات ، واستحلوا المسجد الحرام ، وأغلقوا أبوابه ، وقتلوا بعض المسلمين ، ومنعوا الناس من الصلاة والعبادة فيه أياماً تقارب نصف الشهر.(1)
    وعن علي رضى الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يأتي في في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرية ، يَمرُقون من الإسلام كما يَمرُق السهم من الرميّة ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة " (2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود .
    فهذه كلمات وصفات لا تنطبق على الذين خرجوا على علي رضى الله عنه أول الأمر ، ففي هذا الحديث قال : في آخر الزمان ، والأحاديث الكثيرة في الخوارج لم يذكر فيها : في آخر الزمان ؛ بل ذكر فيها أنه : سيخرج قوم فقط ، وهنا قال : في آخر الزمان ، ومن المعلوم أن الذين خرجوا على عليٍّ كانوا في أول الزمان .
    ثم قال : حدثاء الأسنان ، يقول ابن الأثير : حداثة السنِّ : كناية عن الشباب وأوّل العمر . (3)
    فلم يكبروا حتى يعرفوا الحق ، وهذا ينطبق على أولئك القوم الذين استحلوا المسجد الحرام ، بينما الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ رضى الله عنه كانوا من أكابر الناس ، ومن كبار السن، وفيهم كبار في قومهم .
    وقال : سفهاء الأحلام ، يقول ابن الأثير : الأحلام : الألباب والعقول ، والسفه الخفة والطيش (4) ، وهو ينطبق على من ذكرنا .
    بينما الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ رضى الله عنه كانوا من ذوي العقول .
    ثم قال : يقولون من قول خير البرية ، وفُسِّرَ هذا : أنهم يقولون من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا التفسير هو الصحيح لبعض شُرّاح الحديث (1) ، والخوارج كانوا يقولون : حَسْبُنا كتاب ربنا .
    وهؤلاء الذين خرجوا(2) كانوا يزعمون أنهم أهل حديث ، ولكنهم ضالون وليسوا كذلك ، فهم يقولون من قول خير البرية ، ويزعمون أنهم من أهل الحديث ، وأنهم يتمسكون بالسنة وليسوا كذلك ، ولم يفهموا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً هم حدثاء أسنان ، وهذا معلوم ومن أدرك تلك الوقعة علم أن أكثرهم من صغار السن ، ومن سفهاء الأحلام ، وأكثرهم من الجهلة وليسوا من كبار الناس ، ولا ممن يتصدر المجالس ، فهذا الحديث صدق على هؤلاء القوم ، حسب ما اجتهدتُ في تطبيقه ، وعلى كل حال فهم خارجون عن الطاعة ، وخارجون على الإمام ، وأنهم فعلوا فعلا منكراً ولا شك .
    ولايعني هذا أنّ الخوارج كفّار خارجون عن ملة الإسلام ، فإن عليًّا رضى الله عنه لم يكفِّرْهم ، ولكن يكفي أنهم أهل ضلال ، وأنه ينبغي أن يُقتلوا وأن يُقاتلوا ، وأن لا يبقى منهم أحد بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن فسادهم عظيم ، وشرهم كبير .
    ومما يُذكر في هذا الْمقام أن بعض العلماء أدخل حديث : " يبايع لرجل بين الركن والمقام ، ولن يستحل هذا البيت إلا أهله ، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب"(3) أدخلوه في باب المهدي بينما أرى أنه ينطبق على من بويع في تلك الفتنة ؛ لأن استحلال البيت لا يكون مع مبايعة المهدي وقد حصل الاستحلال عند مبايعة ذلك الشخص في تلك الفتنة والله أعلم .
    ومما سبق يتبيّن لنا أن الذين يخرجون على الأئمة والولاة في سائر العصور لهم نصيب من اسم الخوارج ومن ذنبهم ، ولهم نصيب من عقوبة الخوارج ألا وهى القتل .
    وبالمناسبة فإنه في هذا اليوم قد قُتِل النفر الذين فعلوا ما فعلوا من جريمة شنعاء ألا وهي التفجير (1) ، فإن قتل الأبرياء في هذا البلد اجتهاد خاطئ لا يقبله شرع ، وقد سبق الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمجتهد المخطئ أجر والمصيب جعل له أجرين ، لكن فـي ماذا ؟ فـي الفروع .
    أمَّا الاجتهاد في العقيدة والمنهج فلاحَظَّ ولا أجر لمن اجتهد فيه ؛ بل يجب الوقوف عند النصوص فقط .
    وهذا ما يدل عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج ؛ بل هم شر قتلي عند الله كما جاء في الأحاديث ، لم يقل إنَّهم مأجورون ؛ بل يُقتلون ويُؤجر من قتلهم ؛ وإنَّ أولئك المقتولين هم شر الناس ، وشر القتلى ، وقد جاء في بعض الآثار : أنَّهم كلاب النار (2) ، أمر بقتلهم في الدنيا ، وجزاؤهم في الآخرة أنَّهم في النار ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يُعذَرون بِهذا الاجتهاد الخاطئ ؛ لأنه لا مجال للاجتهاد في مسائل العقيدة والمنهج ؛ بل يجب أن يُنتهج منهج السلف الصالح ، وأن يُلتف حول العلماء المعتبرين ، الذين يعرفون هذا المنهج ، ويُميزون بين الصحيح والسقيم .
    قال ابن كثير : لَمَّا أقبل يوم النهروان جعل الناس يقولون : الحمد الله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم . قال علي رضى الله عنه : كلا والله إنَّهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء - أي أنه سيخرج منهم قوم أيضاً - فإذا خرجوا من بين الشرايين فَقَلَّما يَلْقَون أحداً ألا ألبوا أن يظهروا عليه .
    قال : وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود ، وكان يقال له : ذو البينات .
    وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال : ما كان عبد الله بن وهب الراسبي من بغضه لعليٍّ لا يسميه ألاّ الجاحد .
    وقال الهيثم بن عدي : حدثنا إسماعيل ، عن خالد ، عن علقمة بن عامر قال : سُئل عليٌّ رضى الله عنه عن أهل النهروان : أمشركون هم ؟ فقال : من الشرك فَرُّوا ، قيل: أفمنافقون ؟ قال : إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً ، فقيل:فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال : إخواننا بَغَوا علينا ، فقاتلناهم ببغيهم علينا . هذا ما أورده ابن كثير عن ابن جرير رحمهما الله . اهـ (1)
















    أسباب ظهور فكر الخوارج حديثاً

    إنّ هذا البلد ليس محلاً لهذه المناهج أبداً - أي مناهج التكفير - فقد بدأ هذا المنهج الفاسد الخبيث في غير هذه البلاد ، وإنما كيف تسرّب إلى هذه البلاد ؟
    إنّ هذه البلاد - ولله الحمد - على منهج أئمة الدعوة ، الذي هو منهج سلف هذه الأمة ، وكان مبدأ انتهاج الناس لهذا المنهج في العصور المتأخرة عندما قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بالدعوة السلفية ، والتي تأثر فيها بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من أئمة السلف ، ونشر الدعوة الصحيحة وبمؤازرة الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - وأولاده وأحفاده الذين بذلوا الغالي والنفيس في نشرها ، والتي نعيش في بركتها إلى الآن ، واستمر الناس على منهج واحد لا يخالفون علماءهم ، وعلماؤهم أيضاً على منهج واحد لا يختلفون فيه أبداً .
    ومن أراد أن يستزيد علماً في منهجهم فليقرأ الرسائل التي جُمعت في كتاب الدرر السنية .
    وإنما انتشر مبدأ التكفير عن طريق أناس أتوا من خارج هذه البلاد فنشروه بين صفوف الشباب المتحمسين وهم ممن لم تشملهم بركة الدعوة السلفية ، فزرعوا بين صفوف الشباب التحزب الممقوت ، والانتظام في سلك الجماعات الضالة .
    وقد خرج شباب من هذه البلاد إلى أفغانستان ، فوجد هناك من يدربهم ويدرسهم ويربيهم على منهج التكفير ، وهؤلاء المدرِبون خرجوا من بلادهم بسبب أذىً من حكامهم؛ لأنهم تصادموا معهم ، وكان ينبغي من كل منهم أن يبقى في بلده ، وأن يدعوا إلى الله بالتي هي أحسن ، وأن يحرص على أن يبذل جهده في نصح الأمة ، وأن يبذل ما يستطيع من نصح ودعوة ، وأن لايصادم الذين سيتعرضون له وهم يستطيعون أن يؤذوه ، ولكن منهج الخوارج هو منهج المصادمات والإثارة للفتن والمشاغبات ونصيحة الحكام العلنية والتشهير بهم ونحو ذلك .
    فكان أن تصادم أولئك بحكامهم ثم بعد ذلك سُجِنوا وأُوذُوا وطُرِدُوا ، وبعضهم هرب فأصبح عندهم رد فعل من خلال تربيتهم لأتباعهم على هذا المنهج الفاسد من تكفير العلماء، وتكفير كثير من المسلمين ، وتكفير الحكام ، وهم من أجهل الناس في أمور العقيدة والمنهج الصحيح ، فقد يحفظ الواحد منهم بعض الأحاديث وشيئاً من العلم ، ثم يجعل نفسه مفتياً وشيخاً للإسلام ، فيُكفِّر الأمة ويكون هو الذي على الصواب فقط ، فيتأثر بهم بعض الشباب الذين ليست لديهم حصانة ولم يتسلَّحوا بالعلم .
    وهذا ما حصل لأولئك الذين حصل منهم التفجير ، فإنَّهم ظنوا أن ذلك هو الحق والصواب ، فأتوا باجتهاد خاطئ لا يُعذرون فيه لأنهم لم يلتفوا حول العلماء ، ومِن الضروري الإلتفاف والقرب من نصحاء الأمة ، وعدم البعد عنهم فعن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البركة مع أكابركم " ، وهذا الحديث رواه ابن حبان والخطيب والقضاعى وأبو نعيم بسند صحيح (1) ، لكن للأسف الشديد أفهموهم أن مثل سماحة الشيخ عبدالعزيزبن باز كافر لما يعلمونه من صحة منهج الشيخ ، وأنه على منهج مشايخه مثل الشيخ محمد بن إبراهيم ، والمشايخ الذين قبله إلى الشيخ محمد ابن عبدالوهاب إلى ابن القيم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الأئمة الأربعة إلى سلف الأمة إلى التابعين إلى الصحابة وهو المنهج الصحيح السليم ، وخافوا أن يرجع أولئك فيسألوا مثل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ويُبيِّن لهم أنهم على باطل ، فأقنعوهم أن سماحته كافرٌ ، وأنه لا يُقبل منه فلهذا ابتعدوا عنه .
    وما أشبه اليوم بالبارحة فقد كان الخوارج زمن عليٍّ رضى الله عنه يظنون بل يؤمنون بأنهم على صواب وأن ما يفعلونه إنما يفعلونه تقرباً إلى الله - سبحانه وتعالى - ففي النهروان كانوا يقولون : لا حكم إلا لله ، الرواح .. الرواح إلى الجنة ، وقال أبو أيوب : وطعنت رجلاً من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره ، وقلت لـه : أبشر ياعدو الله بالنار ، فقال : ستعلم أيُّنا أولى بها صِليًّا .
    فانظر كيف ثبات هؤلاء وصبرهم عند اللقاء وإيمانهم الشديد بما يعتقدونه مع أنهم على ضلال كبير حتى حين خروج أرواحهم .
    وهذا سبب هام من أسباب وقوع الفتن ، ومن أسباب الضلال ، وهو الالتفاف حول أنصاف متعلمين ، وترك العلماء الذين لهم ستون وسبعون وثمانون سنة في العلم والتعلم عن مشايخهم وفى قراءتهم للكتب والتعليم وفهمهم للمنهج الصحيح ، فمن يلتف حولهم ويأخذ بأقوالهم فإنه - بإذن الله - سينجو .
    أما الذي يبتعد عنهم ويجتهد ويعتمد على معرفته بأحاديث قليلة ، أو على نصيحة بعض من يجهل كثيراً من العلم فهذا - والعياذ بالله - يضل ، ففي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البركة مع أكابركم " قال المناوي في فيض القدير شارحاً لهذا الحديث : " البركة مع أكابركم المجربين للأمور المحافظين على تكثير الأجور فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم ". (1)
    وإن كنّا نعتقد أن لامعصوم إلاّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن كل أحد يُؤخذ من قوله ويُرد ، وأن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم عندنا على الرأي وعلى الذوق والاستحسان والمصالح المتوهمة المزعومة .
    واستمع إلى قوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلاّ قليلاً  (2) .
    قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية : هذا تأديب من الله لعباده ، عن فعلهم هذا ، غير اللائق .
    وأنه ينبغي لهم ، إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة ، والمصالح العامة ، مما يتعلق بالأمن ، وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم ، أن يتثبتوا ، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر .
    بل يردونه إلى الرسول ، وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي ، والعلم ، والنصح ، والعقل ، والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ، ويعرفون المصالح وضدها .اهـ (1)
    والذي عنده بعض العلم لكنه لم يجرِّب الأمور ليس مثل من له تجربة ، و يعرف المصالح والمفاسد ، ولذلك تُرتكب أدني المفسدتين لدفع أعلاهما ، هذه قاعدة يجهلها كثير من الناس فيأخذ بحديث : " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " (2) ويظن أنه انتهى إلى أنْ يستطيع أن يخرج على من اجتهد في تكفيره من حكام المسلمين ، ويرى أنه مجاهد في سبيل الله .
    وهذا مفهوم خاطئ في الجهاد ، فيظن البعض أنه يستطيع أن يحمل سلاحه ويجاهد أي كافر ويكون مجاهداً في سبيل الله ، وهذا خطأ وضلال ، وقد سطَّر أهل السنة والجماعة في كتب العقيدة بأنَّ الجهاد ماضٍ مع كل إمام براً كان أو فاجراً (3) ، ولا يجوز أن يكون الجهاد إلا مع الأئمة ، فإذا جاهد الحاكم وأقام الجهاد فجاهِدْ معه ، وإن لم يقم الجهاد فلا يجوز ذلك منك ، ولا يعتبر جهاداً صحيحاً ، فإنْ هم عطَّلُوا الجهاد وكان بمقدورهم ذلك ، أَثِمُوا ولا يجوز لك وإن عطَّلوه أن تقيمه ، ثم لو حصل أن الإمام كفر واتفقنا على كفره كيف يكون الخروج عليه ؟ يقول أبو المعالي الجويني (4) : ولا يكون ذلك لآحاد الرعية بل لأهل الحل والعقد .اهـ (5)
    فإذا كفر الحاكم قام أهل الحل والعقد بعزله وإبداله بغيره ، ولكن بشرط أن لا يترتب على ذلك سفك دماء ، وحصول فتنة ، وهذا ما قرَّرَه الإمام أحمد عندما كان خلفاء بني العباس يقولون بخلق القرآن ، ويُلزمون الناس بالقول به ، وضربوا الإمام أحمد وغيره من العلماء على أن يقولوا بخلق القرآن وهو كفر ، والإمام أحمد يُكفِّر من يقول بخلق القرآن ، لكن لَمَّا جاءه بعضهم وقال : نريد الخروج على أولئك ، فالفتنة عَظُمَت ، قال : لا أُحِلّ لكم ذلك ، إذا وقع السيف وقت الفتنة ، تسفك الدماء وتنتهك الحرمات وتنقطع السبل ، اصبروا حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجر .(1)
    هذا هو المبدأ الذي فهمه أئمة المسلمين وأئمة السلف وهو أنه لو كفر الحاكم ؛ فإنه إنما يجوز لأهل الحل والعقد أن يعزلوه بشرط أن يكون ذلك دون فتنة وسفك دماء .
    وليس ذلك لآحاد الرعية للأسباب الآتية :
    أولا : أنهم قد يخطئون في التكفير .
    ثانياً : أنه إذا قام بعضهم دون بعض وقعت الفتنة وحصل الاختلاف .
    ثالثاً : أنهم لا يُراعون مايترتب على الخروج عليه وعزله بخلاف أهل الحل والعقد.
    فإذا قال قائل : إنَّ الحاكم الفلاني يُحكِّم القوانين الوضعية ، فهو كافر خارج عن مِلّة الإسلام !
    فإنَّنا نقول لـه : لقد تكلم في هذا الأمر علماء أجلاء ، وهى مسألة الحكم بغير ما أنزل الله :
    فابن عباس - رضى الله عنهما - يقول : كفر دون كفر ، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم .(2)
    فالذي يحكُم بقوانين وضعية ، ولم يحكم بما أنزل الله فلا يجوز لنا أن نكفِّره ونخرجه عن ملة الإسلام ، إلاّ إذا فتَّشنا عن أمره أولاً ، وهل يعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ؟ أولا يعترف بحكم الله ؟ فإنَّ هذا يكون كافراً ولا شك .
    لكن لو حكم بغير ما أنزل الله لشهوة في نفسه ، او لمصلحة دنيوية ، أو لخوف على منصب ، أو أنه قد لا يُستجاب لحكمه ، وهو يعتقد في باطن الأمر أن حكم الله أحسن ، فلو كان شخص بِهذه المثابة وهذه الصفة فلا نطلق عليه إنه كافر ، وخارج عن ملة الإسلام مثله مثل القاضي الذي يحكم بغير ما أنزل الله بسبب رشوة ، فقد أجمع المسلمون على أن مثل هذا ليس بكافر ، وأنه مرتكب كبيرة .
    هذا القول الصحيح من أقوال أهل العلم (1) ، ولو لم يكن إلاّ وجود الشبهة في تكفيره لكفى .
    والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالستر على المسلمين ، وأن تُلتمس لهم الأعذار ، وقد قيل : التمس لأخيك عذراً (1) ، وينبغي للمسلم أن يحاول ستر عيوب المسلمين ، ودرء الحدود والقتل عنهم ، فكل هذا مطلوب لدى الشارع .
    ولا يجتهد في تكفير شخص قد توجد شبهة في تكفيره فليس هذا من الورع .
    والورع الأهم هو البعد عن تكفيرهم ، وصيانة اللسان عن أعراضهم وصيانة اليد عن دمائهم .
    كما أننا ننبه إلى أن الإنسان يجب عليه أن يحمد الله - تبارك وتعالى - على النعمة التي هو فيها ، فبعض الناس يقول وهو في وضع ما : لِماذا أنا في هذا الوضع ؟ أو لِماذا المسلمين في هذا البلد في هذا الوضع ؟
    ويتذمر ويحصل منه سبٌّ وشتمٌ ، وتَمنِّي زوال هذا الوضع ، وهذا خطأ كبير فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى من أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله " (2) .
    فلو أنَّ شخصاً به مرض فلا ينظر إلى الأصحاء ويقول : أنا مريض وهؤلاء أصحاء ؛ بل ينظر إلى من هو أشد منه مرضاً ، فإذا نظر إليهم حمد الله لأنه في نعمة .
    وكذلك متوسط الحال لا ينظر إلى الأثرياء ؛ بل ينظر إلى الفقراء المدقعين الذين لا يجدون ما يأكلون ، فيحمد الله .
    كذلك شخص في مثل هذا البلد فإنه يحمد الله - تبارك وتعالى - على نعمة هو فيها ، ولا ينظر إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته - رضى الله عنهم - ويريد أن يكون الوضع كذلك ، صحيح أنه يُتمنى عودة ذلك العصر لكن هيهات .
    لم يعُد ذلك الوضع موجوداً فيمن بعدهم إلا ما كان في زمن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.
    فالأزمنة مليئة بالفتن وعلى الإنسان أن ينظر الآن إلى أوضاع أناس دونه .
    فهناك من يكون في بلد لا يستطيع أن يظهر بمظهر الصالحين من إعفاء اللحية ونحو ذلك، وإذا فعل فإنه يجازى ويحاسب ويعاقب ، والآخر لا يستطيع الذهاب إلى صلاة الفجر، فعلى المسلم أن يقول : أنا أحمد الله - تبارك وتعالى - أنني أستطيع أن افعل ذلك بحرية ، وأرفع رأسي بأنني من أهل الدين والخير والصلاح .
    وفى هذا البلد يُعظَّم أهل العلم والخير والصلاح ، ولايعني هذا أنه ليس هناك أخطاء ، أو مخالفات ؛ بل موجودة ولكن أيّ زمن لا يخلوا من الأخطاء والمخالفات !
    فيجب على المسلم أن يحافظ على الوضع الذي هو فيه ، ويسعي لإيجاد وضع أحسن بالطرق الصحيحة ، فمن الحماقة أن تتسبب بزوال الوضع الذي أنت فيه بحجة أنك تريد وضعاً أحسن ؛ بل حافظ عليه ، ثم اسعَ بالطرق الصحيحة ليحصل لك وضع أحسن .
    وهناك بلد من بلاد المسلمين كان فيه حاكم يوصف بالكفر ، وكان العلماء في ضرر عظيم ، ومنهم من قُتِل ، ومنهم من شُنِق ، ومنهم من عُذِّب ، ثم حصلت فتنة في ذلك البلد، وقامت حروب أهلية ، فاختل النظام وأصبح الناس فوضى ، فسُفِكت الدماء ، وانتُهِكت الحرمات ، وانقطعت السبل ، ومات الناس جوعاً ، لذلك قال بعض العلماء في ذلك البلد : ياليتنا بقينا على ذلك الحال ، فإنه خير من هذا الوضع بكثير وإن كان وضعهم فيه مفسدة ، إلاّ أنه حصلت مفسدة أعظم ، ولم يُحصَّل دين ولادنيا ، لذلك تُرتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما ، وهذه قاعدة من قواعد الشريعة .
    نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يرزقنا جميعاً فَهْمَ كتابه ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفَهْمَ مذهب سلفنا الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - وأن يُريَنا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، وأن يُريَنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن لا يجعله مشتبهاً علينا فنضل ، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلَّم .


      


















    ( ملحق )

    رسالة للشيخ
    عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ
    في مسألة التكفير

    من : عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن(1) ، إلى عبدالعزيز الخطيب السلام على من اتبع الهدى ، وعلى عباد الصالحين .
    وبعد : فقرأت رسالتك ، وعرفت مضمونها ، وما قصدته من الاعتذار ، ولكن أسأت في قولك : أن ما أنكره شيخنا الوالد، من تكفيركم أهل الحق ، واعتقاد إصابتكم؛ أنه : لم يصدر منكم ؛ وتذكر أن إخوانك من أهل النقيع ، يجادلونك ، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور (2) ، وأنت تعرف : أنهم يذكرون هذا غالباً، على سبيل القدح في العقيدة ، والطعن في الطريقة ، وإن لم يصرحوا بالتكفير ، فقد حاموا حول الحمى ، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ، ومن الغي عن سبيل الرشد والعمى .
    وقد رأيت سنة أربع وستين (3)، رجلين من أشباهكم المارقين بالإحساء ، قد اعتزلا الجمعة والجماعة ، وكفّرا مَن في تلك البلاد ، من المسلمين ، وحجـتهم مـن جنس حجتكم(4)، يقولون : أهل الإحساء يجالسون : ابن فيروز ،ويخالطونه هو وأمثاله،ممن لم يَكفُر

    بالطاغوت ، ولم يصرح بتكفير جده (1) ، الذي ردَّ دعوة الشيخ محمد ، ولم يقبلها، وعاداها.
    قالا : ومن لم يصرح بكفره ، فهو كافر بالله ، لم يكفر بالطاغوت ؛ ومن جالسه ، فهو مثله ؛ ورتبوا على هاتين المقدمتين ، الكاذبتين ، الضالتين ، وما يترتب على الردة الصريحة ، من الأحكام ، حتى تركوا رد السلام ، فرفع إليَّ أمرهم ، فأحضرتهم ، وتهددتهم ، وأغلظت لهم القول ؛ فزعموا أولاً : أنهم على عقيدة الشيخ ، محمد بن عبدالوهاب ، وأن رسائله عندهم ، فكشفت شبهتهم ، وأدحضت ضلالتهم ، بما حضرني في المجلس .
    وأخبرتهم ببراءة الشيخ ، من هذا المعتقد ، والمذهب ، وأنه لا يُكفِّر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله ، من الشرك الأكبر ، والكفر بآيات الله ورسله ،أو بشيء منها، بعد قيام الحجة ، وبلوغها المعتبر ، كتكفير من عبَدَ الصالحين ، ودعاهم إلى الله ، وجعلهم أنداداً له ، فيما يستحقه على خلقه ، من العبادات ، والإلهية ، وهذا : مجمع عليه أهل العلم والإيمان ، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة ، يُفردون هذه المسألة ، بباب عظيم ، يذكرون فيه حكمها ، وما يوجب الردة ، ويقتضيها ، وينصون على الشرك (2) ؛ وقد أفرد ابن حجر ، هذه المسألة ، بكتاب سماه : الإعلام بقواطع الإسلام (3) .
    وقد أظهر الفارسيان ، المذكوران ، التوبة والندم ، وزعما : أن الحق ظهر لهما ، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة ، وبلغنا عنهم : تكفير أئمة المسلمين ، بمكاتبة الملوك المصريين ؛ بل كفروا : من خالط من كاتبهم ، من مشائخ المسلمين ، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ، والحور بعد الكور.
    وقد بلغنا عنكم ، نحو من هذا ، وخضتم في مسائل من هذا الباب ،كالكلام في الموالاة، والمعاداة ، والمصالحة ، والمكاتبات ، وبذل الأموال ، والهدايا ، ونحو ذلك ، من مقالة أهل الشرك بالله ، والضلالات ، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ، ونحوهم من الجفاة ، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ، ومن رزق الفهم عن الله ، وأوتي الحكمة ، وفصل الخطاب .
    والكلام في هذا : يتوقف على معرفة ما قدمناه ، ومعرفة أصول عامة ، كلية ، لا يجوز الكلام في هذا الباب ، وفي غيره ، لمن جهلها ، وأعرض عنها ، وعن تفاصيلها ؛ فإن : الإجمال ، والإطلاق ، وعدم العلم ، بمعرفة مواقع الخطاب ، وتفاصيله ، يحصل به من اللبس، والخطأ ، وعدم الفقه عن الله ، ما يفسد الأديان ، ويشتت الأذهان ، ويحول بينها ، وبين فهم السنة والقرآن ؛ قال : ابن القيم ، في كافيته ، رحمه الله تعالى :
    فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ
    قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ
    إطلاق والإجـمال دون بيـان
    أذهان والآراء كل زمان

    وأما : التكفير بهذه الأمور ، التي ظننتموها ، من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب، الحرورية (1)، المارقين ، الخارجين على علي بن أبي طالب ، أمير المؤمنين ، ومن معه من الصحابة ، فإنهم : أنكروا عليه ، تحكيم أبي موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص ، في الفتنة التي وقعت ، بينه وبين معاوية ، وأهل الشام ؛ فأنكرت الخوارج عليه ذلك ، وهم في الأصل من أصحابه ، من قراء الكوفة ، والبصرة ؛ وقالوا : حكّمت الرجال في دين الله ، وواليت معاوية ، وعَمْراً ، وتوليتهما ، وقد قال الله تعالى: إن الحكم إلاَ لله(1) وضربت المدة بينك وبينهم ، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة ، منذ أنزلت : براءة .
    وطال بينهما النـزاع والخصام ، حتى أغاروا على سرح المسلمين ، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضى الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان ، بعد الإعذار والإنذار، والتمس: المخدج المنعوت في الحديث الصحيح ، الذي رواه مسلم (2) ، وغيره من أهل السنن ، فوجده علي ، فَسُّرَ بذلك ، وسجد لله شكراً على توفيقه ، وقال : لو يعلم الذين يقاتلونهم ، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، لنكلوا عن العمل ، هذا : وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة ، وصوماً.







    فصل
    ولفظ : الظلم ، والمعصية ، والفسوق ، والفجور ، والموالاة ، والمعاداة ، والركون، والشرك ، ونحو ذلك من الألفاظ ، الواردة في الكتاب ، والسنة ، قد يراد بها مسماها المطلق ، وحقيقتها المطلقة ، وقد يراد بها مطلق الحقيقة ؛ والأول : هو الأصل عند الأصوليين ؛ والثاني : لا يحمل الكلام عليه ، إلا بقرينة لفظية ، أو معنوية ، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي ، وتفسير السنة ، قال تعالى :  وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم  الآية(1) وقال تعالى :  وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون  (2) .
    وكذلك : اسم المؤمن ، والبر ، والتقى ، يراد بها عند الإطلاق ، والثناء ، غير المعنى المراد ، في مقام الأمر ، والنهي ؛ ألا ترى : أن الزاني ، والسارق ، والشارب ، ونحوهم ، يدخلون في عموم قوله تعالى:  يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة  الآية(3) وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا  الآية(4) وقوله تعالى :  يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم  (5) ولا يدخلون في مثل قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر الله وجلت قلوبهم  (6) وقوله :  إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا  (1) وقوله :  والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون  الآية(2) .
    وهذا : هو الذي أوجب للسلف ، ترك تسمية الفاسق ، باسم الإيمان، والبر؛ وفي الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر، حين يشربها، وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها، وهو مؤمن" (3) وقوله: "لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه" (4) لكن نفى الإيمان هنا، لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا هو الذي فهمه السلف ، وقرروه في باب الردعلى الخوارج، والمرجئة، ونحوهم، من أهل الأهواء؛ فافهم هذافإنه مضلة الأفهام ومزلة الأقدام .
    أما : إلحاق الوعيد المرتب، على بعض الذنوب، والكبائر، فقد يمنع منه مانع، في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة، في الدور الثلاثة، ولذلك، لا يشهدون لمعين من أهل القبلة، بجنة ولا نار(5)، وإن أطلقوا الوعيد، كما أطلقه القرآن، والسنة، فهم يُفرِّقون، بين العام المطلق، والخاص المقيد؛ وكان عبدالله حمار (6)، يشرب الخمر، فأُتِيَ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل ، وقال : ما أكثر ما يُؤتَى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " (1)مع : أنه لعن الخمر، وشاربها ، وبائعها ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها، والمحمولة إليه.
    وتأمل: قصة حاطب بن أبي بلتعة، وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه: أنه كتب بِسِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم، ليتخذ بذلك يداً عندهم، تحمي أهله، وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب: ظعينة، جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، والزبير، في طلب الظعينة، وأخبرهما، أنهما يجدانها في روضة: خاخ، فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: "ماهذا"؟ فقال: يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يداً ، أحمي بها أهلي، ومالي، فقال صلى الله عليه وسلم : "صدقكم، خلو سبيله" واستأذن عمر، في قتله، فقال دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: "وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" (2) وأنزل الله في ذلك، صدر سورة الممتحنة، فقال:  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء  الآيات.
    فدخل حاطب في المخاطبة، باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوصية السبب، الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة، ما يشعر: أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك، قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: "صدقكم، خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب؛ وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي، ولو كفر، لما قال: خلوا سبيله.
    ولا يقال، قوله صلى الله عليه وسلم لعمر : "ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" هو المانع من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته، ما يمنع من لحاق الكفر، وأحكامه؛ فإن الكفر: يهدم ما قبله، لقوله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله (1) وقوله : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (2) والكفر، محبط للحسنات والإيمان ، بالإجماع ؛ فلا يظن هذا.
    وأما قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم (3) وقوله: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله (4) وقوله : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (5) فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة.
    وأصل: الموالاة، هو : الحب، والنصرة، والصداقة، ودون ذلك: مراتب متعددة؛ ولكل ذنب : حظه وقسطه، من الوعيد والذم؛ وهذا عند السلف، الراسخين في العلم، من الصحابة، والتابعين، معروف في هذا الباب، وفي غيره؛ وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني، والتبست الأحكام على خلوف من العجم، والمولدين، الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة، والقرآن.
    ولهذا : قال الحسن - رحمه الله - من العجمة أتوا ؛ وقال أبو عمرو بن العلاء ، لعمرو ابن عبيد، لما ناظره في مسألة: خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد: أن هذا وعد والله لا يخلف وعده؛ يشير إلى ما في القرآن، من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب، بالنار، والخلود ؛ فقال لـه ابن العلا :من العجمة أتيت ؛ هذا وعيد لا وعد ، وأنشد قول الشاعر:
    وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
    وقال : بعض الأئمة ، فيما نقل البخاري، أو غيره : إن من سعادة الأعجمي ، والعربي، إذا أسلما،أن يوفقا لصاحب سنة؛وإن من شقاوتهما:أن يمتحنا،وييسرا لصاحب هوى،وبدعة.
    ونضرب لك مثلاً،هو:أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله،أحدهما خارجي،والآخر مرجئ .قال الخارجي : إن قولـه:  إنما يتقبل الله من المتقين  (1) دليل على حبوط أعمال العصاة، والفجار، وبطلانها؛ إذ لا قائل: إنهم من عباد الله المتقين .
    قال المرجئ : هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك، يقبل منه عمله، لقوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (2) .
    قال الخارجي : قولـه تعالى: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً (3) يرد ما ذهبت إليه.
    قال المرجئ : المعصية هنا: الشرك بالله، واتخاذ الانداد معه، لقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (4) .
    قال الخارجي : قوله: أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون (1) دليل: على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها.
    قال له المرجئ : قوله في آخر الآية :  وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (2) دليل: على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق، من أهل القبلة، مؤمن كامل الإيمان.
    ومن وقف: على هذه المناظرة، من جُهّال الطلبة، والأعاجم، ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضي، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله، لأن الرجوع إلى السنة، المبينة للناس ما نزل إليهم، واجب، وأما أهل البدع، والأهواء، فيستغنون عنها بآرائهم، وأهوائهم، وأذواقهم.
    وقد بلغني: أنكم تأولتم، قوله تعالى في سورة محمد: ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر (3) على بعض ما يجري من أمراء الوقت، من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة، لبعض الرؤساء الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية، وهي قوله: إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى (4) ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف، المذكور في هذه الآية الكريمة؛ وفي قصة: صلح الحديبية ، وما طلبه المشركون، واشترطوه، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم .
    فصل
    وهنا أصول؛ أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية ، هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص، الواردة في كتاب الله، في: باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن، والكافر، والمشرك، والموحد، والفاجر، والبر، والظالم، والتقي؛ وما يراد بالموالاة، والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة، على الوجه المراد، في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها؛ وكذلك: الزكاة، فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، ومعرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها، من الأنعام، والثمار، والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته، إلا ببيان السنة، وتفسيرها.
    وكذلك : الصوم، والحج، جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك، مما توقف بيانه على السنة؛ وكذلك: أبواب الربا، وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه، وبين البيع الشرعي؛ وكل هذا البيان: أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن : أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه، باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني : التنـزيل، والقرآن .
    الأصل الثاني : أن الإيمان أصل، له شعب متعددة، كل شعبة منها تسمى إيماناً، فأعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق؛ فمنها: ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادتين؛ ومنها: ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين، شعب متفاوتة، منها: ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها: ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب؛ والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة، وأئمتها.
    وكذلك الكفر: أيضاً، ذو أصل، وشعب؛ فكما أن شعب الإيمان: إيمان، فشعب الكفر: كفر؛ والمعاصي كلها من شعب الكفر؛ كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ؛ ولايسوَّى بينهما في الأسماء والأحكام ؛ وفرق بين من ترك الصلاة ، أو الزكاة ، أو الصيام ، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف؛ وبين من سرق، أوزنى ، أو انتهب، أو صدر منه نوع موالاة ، كما جرى لحاطب ؛ فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام ، أو سوَّى بين شعب الكفر في ذلك ، فهو مخالف للكتاب والسنة ، خارج عن سبيل سلف الأمة ، داخل في عموم : أهل البدع ، والأهواء .
    الأصل الثالث: أن الإيمان مركب، من قول وعمل؛ والقول: قسمان، قول القلب، وهو: اعتقاده؛ وقول اللسان، وهو: التكلم بكلمة الإسلام؛ والعمل قسمان: عمل القلب، وهو: قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه؛ وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة؛ فإذا زال تصديق القلب، ورضاه ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية؛ وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والحج، والجهاد، مع بقاء تصديق القلب، وقبوله، فهذا: محل خلاف، هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يزول؟ وهل: يكفر تاركه أو لا يكفر؟ وهل : يفرق بين الصلاة، وغيرها، أو لا يفرق؟
    فأهل السنة: مجمعون على أنه لابد من عمل القلب، الذي هو: محبته، ورضاه، وانقياده؛ والمرجئة، تقول: يكفي التصديق، فقط، ويكون به مؤمناً؛ والخلاف، في أعمال الجوارح، هل يكفر، أو لا يكفر، واقع بين أهل السنة؛ والمعروف عند السلف: تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج؛ والقول الثاني: أنه لا يكفر إلاّ من جحدها.
    والثالث: الفرق بين الصلاة، وغيرها؛ وهذه الأقوال، معروفة؛ وكذلك: المعاصي، والذنوب، التي هي: فعل المحظورات؛ فرقوا فيها: بين ما يصادم أصل الإسلام، وينافيه، وما دون ذلك؛ وبين ما سماه الشارع كفراً، وما لم يسمه؛ هذا ما عليه أهل الأثر، المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأدلة هذا: مبسوطة في أماكنها.
    الأصل الرابع: أن الكفر نوعان، كفر عمل؛ وكفر جحود وعناد، وهو: أن يكفر بما علم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله، جحوداً، وعناداً، من : أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، التي أصلها: توحيده، وعبادته وحده لا شريك له؛ وهذا : مضاد للإيمان من كل وجه.
    وأما: كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وسبه؛ وأما : الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل، لا كفر اعتقاد ؛ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض"(1) وقـوله: "من أتى كاهناً، فصدقه، أو امرأة في دبرها،فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "(2) فهذا: من الكفر العملي؛ وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه، وإن كان الكل، يطلق عليه: الكفر.
    وقد سمى الله سبحانه: من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه، مؤمناً بما عمل به، وكافراً بما ترك العمل به، قال تعالى:  وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم  إلـى قوله :  أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض  الآية(3) فأخبر تعالى: أنهم أقروا بميثاقه، الذي أمرهم به، والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به؛ وأخبر: أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا: كفر بما أخذ عليهم؛ ثم أخبر: أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه.
    فالإيمان العملي: يضاده الكفر العملي؛ والإيمان الاعتقادي: يضاده الكفر الاعتقادي؛ وفي الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (1)ففرق بين سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقاً، لا يكفر به، والآخر كفراً؛ ومعلوم: أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر: لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب، من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
    وهذا : التفصيل هو قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمهما؛ فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم؛ والمتأخرون : لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين؛ فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار؛ وفريق جعلوهم مؤمنين، كاملي الإيمان؛ فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا ؛ فهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط، الذي هو في المذاهب، كالإسلام في الملل؛ فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم ؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما – في قوله تعالـى :  ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون  (2) قال : ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه ، رواه عنه سفيان، وعبدالرزاق ؛ وفي رواية أخرى : كفر لاينقل عن الملة ؛ وعن عطاء : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
    وهذا : بيِّن في القرآن ، لمن تأمله ؛ فإن الله سبحانه : سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً ، وليس الكفران على حد سواء ، وسمى الكافر ظالماً ، في قوله : والكافرون هم الظالمون (1) وسمى من يتعد حدوده ، في النكاح ، والطلاق، والرجعة، والخلع، ظالماً، وقال: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه (2) وقال يونس عليه السلام: إني كنت من الظالمين (3) وقال آدم عليه السلام : ربنا ظلمنا أنفسنا (4) وقال موسى: رب إني ظلمت نفسي (5) وليس هذا الظلم، مثل ذلك الظلم؛ وسمى الكافر فاسقاً، في قوله: وما يضل به إلاّ الفاسقين (6) وقوله: ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون (7) وسمى العاصي فاسقاً، في قوله: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا (8) وقال في الذين يرمون المحصنات: وأولئك هم الفاسقون (9) وقال: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (10) وليس الفسوق ، كالفسوق .
    وكذلك: الشرك، شركان؛ شرك: ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر؛ وشرك: لا ينقل عن الملة، وهو الشرك الأصغر، كشرك الرياء؛ وقال تعالى، في الشرك الأكبر: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (11) وقال تعالـى: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير الآية(1) وقال تعالـى، في شرك الرياء : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ً  (2) وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" (3) وفي الحديث: "من حلف بغير الله، فقد أشرك" (4)ومعلوم: أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار؛ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم : "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" (5)فانظر: كيف انقسم الشرك، والكفر، والفسوق، والظلم، إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة.
    وكذلك: النفاق، نفاقان؛ نفاق اعتقادي؛ ونفاق عملي؛ والنفاق الاعتقادي: مذكور في القرآن، في غير موضع، أوجب لهم تعالى به: الدرك الأسفل من النار؛ والنفاق العملي، جاء في قوله صلى الله عليه وسلم "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها؛ إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان" (1)وكقوله صلى الله عليه وسلم : "آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" (2)قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلاّ منافقاً خالصاً، انتهى.
    الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به ، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً؛ وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: "اثنتان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت" (3)وحديث: "من حلف بغير الله فقد كفر" (4) ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق.
    فمن عرف: هذا، عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم؛ قال ابن مسعود: من كان متأسياً، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً؛ قوم : اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم؛ وقد كاد الشيطان بني آدم، بمكيدتين، عظيمتين، لا يبالي بإيِّهما ظفر؛ أحدهما: الغلو ومجاوزة الحد، والإفراط . والثاني : هو الإعراض، والترك، والتفريط.
    قال ابن القيم (1) : لما ذكر شيئاً من مكائد الشيطان، قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير؛ وإما إلى مجاوزة وغلو؛ ولا يبالي بأيها ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل، في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي؛ والقليل منهم الثابت، على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وعد رحمه الله كثيراً من هذا النوع – إلى أن قال – وقصر بقوم، حتى قالوا : إيمان أفسق الناس، وأظلمهم، كإيمان جبريل، وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر، وعمر؛ وتجاوز بآخرين، حتى أخرجوا من الإسلام، بالكبيرة الواحدة.
    قال جامع الرسائل :-
    هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والأدلة القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. (2)
    19 ذي 1331هـ.












    سفهرس الـمحتويات
    الموضوع الصفحة

    مقدمة .................................................. ....................
    3
    التعريف بفرقة الخوارج .................................................. .... 7
    مقدمة المحاضرة .................................................. ............ 13
    الأمر بلزوم جماعة المسلمين وطاعة الإمام ..................................... 17
    ظهور فرقة الخوارج .................................................. ....... 23
    القول الحق فيما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ...................... 25
    الخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ............................ 27
    قصة حاطب بن أبي بلتعة وما يُستفاد منها ..................................... 29
    قصة الإسرائيلي وما تدل عليه ............................................... 30
    الأمر بقتال من بغى على المسلمين وشق عصى الطاعة ......................... 31
    فكر الخوارج مستمر لم يندثر ................................................. 32
    صفات الخوارج في هذا العصر ، والإشارة إلى أحداث الحرم ................... 32
    القول الصحيح في حكم الخوارج ............................................ 34
    أسباب ظهور الخوارج حديثاً ................................................. 37
    الإلتفاف حول العلماء هو طريق النجاة ....................................... 38
    القول الصحيح فيمن حكم بغير ما أنزل الله .................................. 40
    الأمن نعمة يجب شكرها والمحافظة عليها ...................................... 44
    ملحق رسالة الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب في مسألة التكفير ................................................
    49
    سن العبيكان
    قال الإمام وكيع بن جراح(من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة ومن طلبه ليقوى به رأيه فهو صاحب بدعة ) ذم الكلام للهروي 2ص 274

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •