النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: إتحاف المسلمين بترجمة الملك العادل محمود بن زنكي نور الدين

مشاهدة المواضيع

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    اليمن
    المشاركات
    2,483

    إتحاف المسلمين بترجمة الملك العادل محمود بن زنكي نور الدين

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج 4 ص22:( ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه كان الإسلام والسنة في مملكته أعز فإنه غزا المشركين من أهل الهند ونشر من العدل ما لم ينشره مثله فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه مقموعة
    وكذلك السلطان نور الدين محمود الذي كان بالشام عز أهل الإسلام والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم وكذلك ما كان في زمنه من خلافة بني العباس ووزارة ابن هبيرة لهم فإنه كان من أمثل وزارء الإسلام ولهذا كان له من العناية بالإسلام والحديث ما ليس لغيره)
    وقال رحمه الله في ج 13 ص 178:( فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة وأخذوا الثغور الشامية شيئا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة إلى أن تولى نور الدين الشهيد وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه ثم استنجد به ملوك مصر بنوا عبيد على النصارى فانجدهم وجرت فصول كثيرة الى أن أخذت مصر من بنى عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن شادى وخطب بها لبنى العباس فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدى المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببا لخير الدنيا والآخرة وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة
    *** وقال رحمه الله ج 17ص 500، 501:( وذلك كالمشهد الذي بنى بالقاهرة على رأس الحسين وهو كذب باتفاق أهل العلم ورأس الحسين لم يحمل إلى هناك أصلا وأصله من عسقلان وقد قيل أنه كان رأس راهب ورأس الحسين لم يكن بعسقلان وإنما أحدث هذا في أواخر دولة الملاحدة بني عبيد وكذلك مشهد علي رضي الله عنه إنما أحدث في دولة بني بويه وقال محمد بن عبد الله مطين الحافظ وغيره إنما هو قبر المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر خوفا عليهم إذا دفنوا في المقابر البارزة أن ينبشهم الخوارج المارقون فإن الخوارج كانوا تعاهدوا على قتل الثلاثة فقتل ابن ملجم عليا وجرح صاحبه معاوية وعمرو كان استخلف رجلا اسمه خارجة فقتله الخارجي وقال أردت عمرا وأراد الله خارجة فسارت مثلا فالمقصود أن هذا المشهد إنما أحدث في دولة الملاحدة دولة بني عبيد وكان فيهم من الجهل والضلال ومعاضدة الملاحدة وأهل البدع من المعتزلة والرافضة أمور كثير ولهذا كان في زمنهم قد تضعضع الإسلام تضعضعا كثيرا ودخلت النصارى إلى الشام فإن بني عبيد ملاحدة منافقون ليس لهم غرض في الإيمان بالله ورسوله ولا في الجهاد في سبيل الله بل الكفر والشرك ومعاداة الإسلام بحسب الإمكان وأتباعهم كلهم أهل بدع وضلال فاستولت النصارى في دولتهم على أكثر الشام ثم قيض الله من ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين وأخوته وأتباعهم ففتحوا بلاد الإسلام وجاهدوا الكفار والمنافقين)
    *** وقال رحمه الله في ج 27 ص54، 55:( إذا عرف ذلك فهذه السواحل الشامية كانت ثغورا للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان رضي الله عنه فتحها معاوية فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام سواحله وغير سواحله وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل ( نور الدين ( وصلاح الدين ( وغيرهما فاستنقذوا عامة الشام من النصارى)
    *** وقال رحمه الله ج28 ص637 ، 638:( وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهوديا ومرة نصرانيا أرمينيا وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الارميني وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة المنافقين وكانوا ينادون بين القصرين من لعن وسب فله دينار وإردب وفى أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين وفى أيامهم جاءت الفرنج إلى بلبيس وغلبوا من الفرنج فإنهم منافقون وأعانهم النصارى والله لا ينصر المنافقين الذين هم يوالون النصارى فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة فأمدهم بأسد الدين وابن أخيه صلاح الدين فلما جاءت الغزاة المجاهدون إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى فطلبوا قتال الغزاة المجاهدين المسلمين وجرت فصول يعرفها الناس حتى قتل صلاح الدين مقدمهم شاور ومن حينئذ ظهرت بهذه البلاد كلمة الإسلام والسنة والجماعة وصار يقرأ فيها أحاديث رسول الله عليه وسلم كالبخاري ومسلم و نحو ذلك ويذكر فيها مذاهب الأئمة ويترضى فيها عن الخلفاء الراشدين وإلا كانوا قبل ذلك من شر الخلق فيهم قوم يعبدون الكواكب ويرصدونها وفيهم قوم زنادقة دهربة لا يؤمنون بالآخرة و لا جنة و لا نار ولا يعتقدون وجوب الصلاة و الزكا ة والصيام والحج و خير من كان فيهم الرافضة والرافضة شر الطوائف المنتسبين إلى القبلة)
    وقال رحمه الله في ج 28 ص 643: (وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته)
    *** وقال رحمه الله في ج 35 ص 137، 138 :(
    وفى دولة المستنصر كانت فتنة البساسرى في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسرى خارجا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلى العراق و أظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف وأذنوا على المنابر ( حي على خير العمل ( حتى جاء الترك ( السلاجقة ( الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلى مصر وكان من أواخرهم ( الشهيد نور الدين محمود ( الذي فتح أكثر الشام واستنقذه من أيدي النصارى ثم بعث عسكره إلى مصر لما استنجدوه على الإفرنج وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذى فتح مصر فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية وأظهر فيها شرائع الإسلام حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام
    وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروى حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل كما حكى ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبدا لغني بن سعيد وامتنع من رواية الحديث خوفا أن يقتلوه وكانوا ينادون بين القصرين من لعن وسب فله دينار و إردب وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة بل يتكلم فيها بالكفر الصريح وكان لهم مدرسة بقرب ( المشهد ( الذي بنوه ونسبوه إلى الحسين وليس فيه الحسين ولا شيء منه باتفاق العلماء وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين بل المنطق والطبيعة والالهى ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة وبنوا أرصادا على الجبال وغير الجبال يرصدون فيها الكواكب يعبدونها ويسبحونها ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل على المشركين الكفار كشياطين الأصنام ونحو ذلك ( والمعز بن تميم بن معد ( أول من دخل القاهرة منهم في ذلك فصنف كلاما معروفا عند أتباعه وليس هذا ( المعز بن باديس ( فان ذاك كان مسلما من أهل السنة وكان رجلا من ملوك المغرب وهذا بعد ذاك بمدة ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان حتى قالت فيها العلماء إنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب)
    وقال ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة :ج 3 ص 1073 إلى 1077:( ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رمي بها والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما إلى أن جاء أول المائة الثالثة وولي على الناس عبدالله المأمون وكان يحب أنواع العلوم وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم فغلب عليه حب المعقولات فأمر بتعريب كتب يونان وأقدم لها المترجمين من البلاد فعربت له واشتغل بها الناس والملك سوق ما سوق فيه جلب إليه فغلب على مجلسه جماعة ممن الجهمية مما كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتبعهم بالحبس والقتل فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها واستحسنها ودعا الناس إليها وعاقبهم عليها فلم تطل مدته فصار الأمر بعده إلى المعتصم وهو الذي ضرب الإمام أحمد بن حنبل فقام بالدعوة بعده والجهمية تصوب فعله وتدعوه إليه وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتمثيل والتجسيم وهم الذين قد غلبوا على قربه ومجلسه والقضاة والولاة منهم فإنهم تبع لملوكهم ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص وتقديم الآراء والعقول عليها فإن الإسلام كان في ظهور وقوة وسوق الحديث نافقة ورؤوس السنة على ظهر الأرض ولكن كانوا على ذلك يحومون وحوله يدندنون وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة فمن بين أعمى مستجيب ومن بين مكره مقيد نفسه منهم بإعطاء ما سألوه وقلبه مطمئن بالإيمان وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد وأقامهم لنصر دينه وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين قال الله تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) < السجدة24 > .
    فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد ولم يتركوا سنة رسول الله لما أرغبوهم به من الوعد وما تهددوهم به من الوعيد ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة وأخمد تلك الكلمة ونصر السنة نصرا عزيزا وفتح لأهلها فتحا مبينا حتى خرج بها على رؤوس المنابر ودعي إليها في كل باد وحاضر وصنف ذلك الزمان في السنة مالا يحصيه إلا الله ثم انقضى ذلك العصر وأهله وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله على بصيرة إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به وهم جنود إبليس حقا المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم من القرامطة والباطنية والملاحدة ودعوتهم إلى العقل المجرد وأن أمور الرسل تعارض المعقول فهم القائمون بهذه الطريقة حق القيام بالقول والفعل فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى وكسروا عسكر الخليفة مرارا عديدة وقتلوا الحاج قتلا ذريعا وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها وقلعوا الحجر الأسود من مكانه وقويت شوكتهم واستفحل أمرهم وعظمت بهم الرزية واشتدت بهم البلية وأصل طريقهم أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل وإذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل قالوا فنحن أنصار العقل الداعون إليه المخاصمون به المحاكمون إليه وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام في الشرق والغرب وكاد الإسلام أن ينهد ركنه لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق وظهرت من المغرب قليلا قليلا حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد المغرب ثم أخذوا يطوون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها غير متحاشين منها هم وولاتهم وقضاتهم وأتباعهم وفي زمانهم صنفت رسائل إخوان الصفا والإشارات والشفا وكتب ابن سينا فإنه قال كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية بحيث يكون قارؤها وذاكرها وكاتبها على أعظم خطر وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي واستولوا على بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز واستولوا على العراق سنة وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم مالا يصل إليه أحد من أهل السنة ولا يطمع فيه فكم أغمدت سيوفهم في أعناق العلماء وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء وكم ماتت بهم سنة وقامت بهم بدعة وضلالة حتى استنقذ الله الأمة والملة من أيديهم في أيام نور الدين وابن أخيه صلاح الدين فأبل الإسلام من علته بعدما وطن المسلمون أنفسهم على العزاء وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق وثابت إليه روحه بعدما بلغت التراقي وقيل من راق واستنقذ الله سبحانه بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب وأخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب وعلت كلمة الإسلام والسنة وأذن بها على رؤوس الأشهاد ونادى المنادي يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد فإنه أبلغ الزاد ليوم المعاد فعاش الناس في ذلك النور مدة)
    تنبيه : صلاح الدين ليس ابن أخي نور الدين ولعل ما وقع في الكلام خطأ من بعض النساخ والله أعلم
    **********************************************
    شذرات الذهب، - لابن العماد الحنبلي
    الجزء الرابع [ص 2]
    سنة تسع وستين وخمسمائة (س 569).
    فيها ثارت الفرنج لموت نور الدين الملك العادل أبو القسم محمود بن زنكي ابن أق سنقر تملك حلب بعد أبيه ثم أخذ دمشق فملكها عشرين سنة وكان مولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة وكان أجل ملوك زمانه وأعدلهم وأدينهم وأكثرهم جهاداً وأسعدهم في دنياه وآخرته هزم الفرنج غير مرة وأخافهم وجرعهم المر وكان أولاً متحكماً الملوك السلاجقة ثم استقل وكان في الإسلام زيادة ببقائه افتتح من بلاد الروم عدة حصون ومن بلاد الفرنج مايزيد على خمسين حصناً وكان أسمر طويلاً مليحاً تركي اللحية نقي الخد شديد المهابة حسن التواضع طاهر اللسان كامل العقل والرأي سليماً من التكبر خائفاً من اللّه قل أن يوجد في الصلحاء مثله فضلاً عن الملوك ختم اللّه له بالشهادة ونوله الحسنى إن شاء وزيادة وخطب له في الدنيا وأزال الأذان بحي على خير العمل وبنى المدارس وسور دمشق وأسقط ما كان يؤخذ من جميع المكوس وبنى المكاتب للأيتام ووقف عليها الأوقاف وبنى الربط والبيمارستان وأقطع العرب الاقطاعات لئلا يتعرضوا للحاج وبنى الخانات والربط وكان حسن الخط كثير المطالعة مواظباً على الصلوات الخمس كثير تلاوة القرآن لم تسمع منه [ص 229] كلمة فحش ذو عقل متين يحب الصالحين ويزورهم في أماكنهم قال ابن الأثير طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وإلى يومنا فلم أرفيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سيرة منه ولا أكثر تحرياً للعدل والأنصاف ثم ذكر زهده وعدله وفضله وجهاده واجتهاده وكان لا يأكل ولا يشرب ولا يتصرف في شيء يخصه إلا من ملك اشتراه من سهمه من غنائم الكفار ولم يلبس حريراً قط ولا ذهبا ولا فضة وكان كثير الصيام وله أوراد في النهار والليل وكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتمم وكان يلعب بالكرة في ميدان دمشق فجاء رجل فوقف بإزائه فقال للحاجب ساه ما حاجته فقال لي مع نور الدين حكومة فرمى الصولجان من يده وجاء إلى مجلس القاضي كمال الدين الشهرزوري وقال له لا تنزعج وأسلك معي ما تسلكه مع آحاد الناس فلما حضر سوى بينه وبين خصمه وتحاكماً يثبت للرجل عليه حق وكان يدعي ملكاً في يد نور الدين فقال نور الدين للقاضي هل ثبت له على حق قال لا قال فأشهدوا أني قد وهبت الملك له وقد كنت أعلم أنه لاحق له عندي وإنما حضرت معه لئلا يقال عني أني طلبت إلى مجلس الشرع فأبيت وكبى دار العدل وكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام ويحضر عنده الفقهاء ويأمر بإزالة الحجاب والبواب حتى يصل إليه الشيخ الكبير والضعيف ويسأل الفقهاء عما أشكل وإذا حضر الحرب شد تركاشين وحمل قوسين وبنى جامعة بالموصل وفوض أمره إلى الشيخ عمر الملا وكان من الأخيار وإنما قيل الملا لأنه كان يملأ أتون الآجر ويتقوت بالأجرة وليس عليه قميص ولاعمامة ولا يملك شيئاً فقيل له أن هذا لا يصح لمثل هذا العمل فقال إذا وليت بعض الأجناد لا يخلو.من الظلم وهذا الشيخ لا يظلم فإن ظلم كان الظلم عليه فدفع إلى الشيخ ستين ألف دينار وقيل ثلثمائة ألف دينار فتم بناؤه في ثلاث سنين فلما دخل نور الدين الموصل دخله وصلى فيه ووقف عليه قرية فدخل عليه الملا وهو [ص 230] جالس على دجلة وترك بين يديه دفاتر الخرج وقال يامولانا اشتهى أشتهي أن تنظر فيها فقال نور الدين ياشيخ نحن عملنا هذا للّه تعالى دع الحساب ليوم الحساب ثم رمى الورق إلى دجلة، ووقع في يده ملك من ملوك الفرنج فبذل في نفسه مالاً عظيماً فشاور الأمراء فأشار ببقائه في الأسر خوفاً من شره فقال له نور الدين أحضر المال ثلثمائة ألف دينار فأطلقه فلما وصل إلى بلده مات وطلب الأمراء سهمهم فقال ما تستحقون شيئاً لأنكم أشرتم بغير الفداء وقد جمع اللّه تعالى بين الحسنيين الفداء وموت اللعين فبنى بذلك الفداء المارستان الذي بدمشق والمدرسة ودار الحديث ووقف عليها الأوقاف وذكر المطري في كتابه تاريخ المدينة أن السلطان محمود رأي النبي صلى اللّه عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات وهو يقول له في كل واحدة منها يا محمود أنقذني من هذين الشخصين لشخصين أشقرين تجاه فأستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره فقال هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى اللّه عليه وسلم ليس له غيرك فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك حتى دخل المدينة على غفلة فلما زار طلب الناس عامة للصدقة وقال لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التي تعرف اليوم بدار العشرة رضي اللّه عنهم قالا نحن في كفاية فجد في طلبهما حتى جيء بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان فسألهما عن حالهما وما جاء بهما فقالا لمجاورة النبي صلى اللّه عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة فأقرأ أنهما من النصارى وصلا لكي ينقلا النبي صلى اللّه عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عندهما في البيت فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة [ص 231] النبي صلى اللّه عليه وسلم خارج المسجد ثم أحرقا وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً فصاح به من كان نازلاً خارج السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم ومثل هذا لا يجري إلا على يد ولي للّه تعالى توفي رحمه اللّه تعالى بعلة الخوانيق وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع وكان مهيباً فما روجع ودفن في بيت كان يخلو فيه بقلعة دمشق ثم نقل إلى مدرسته التي عند سوق الخواصين.
    ***************
    البداية والنهاية، - للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي.
    الجزء الثاني عشر : ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة :من الأعيان والمشاهير:
    وفيها توفي:
    محمود بن زنكي بن آقسنقر
    السلطان الملك العادل نور الدين، صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهداً في الفرنج، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، محباً للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضاً للظلم، صحيح الاعتقاد، مؤثراً لأفعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحداً في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمناً لقيام الليل يصوم كثيراً، ويمنع نفسه عن الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله وبل ثراه بالرحمة والرضوان. (ج/ص: 12/353)
    قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة، وقد كان يكاتبني وأكاتبه.
    قال: ولما حضرته الوفاة أخذ العهد على الأمراء من بعده لولده - يعني الصالح إسماعيل - وجدد العهد مع صاحب طرابلس أن لا يغير على الشام في المدة التي كان ماده فيها، وذلك أنه كان قد أسره في بعض غزواته وأسر معه جماعة من أهل دولته، فافتدى نفسه منه بثلاثمائة ألف دينار وخمسمائة حصان وخمسمائة وردية ومثلها برانس، أي: لبوس، وقنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وعاهده أن لا يغير على بلاد المسلمين لمدة سبعة سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه رهائن على ذلك مائة من أولاده وأولاد أكابر الفرنج وبطارقتهم، فإن نكث أراق دماءهم، وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله، فوافته المنية في شوال من هذه السنة، والأعمال بالنيات، فحصل له أجر ما نوى، وكانت ولايته ثمان وعشرين سنة وأشهراً، وقد تقدم ذلك.
    وهذا مقتضى ما ذكره ابن الجوزي ومعناه.
    ***************
    البداية والنهاية، - للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي.
    الجزء الثاني عشر : ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة
    فصل
    في وفاة الملك نور الدين محمود زنكي، وذكر شيء من سيرته العادلة.
    هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الأتابك قسيم الدولة عماد الدين أبي سعيد زنكي، الملقب بالشهيد بن الملك آقسنقر الأتابك، الملقب بقسيم الدولة التركي السلجوقي مولاهم، ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهماً شجاعاً ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة.
    فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر جعبر كما ذكرنا، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين هذا، وأعطاه أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم، ثم افتتح دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط، ووسع لهم الطرق على المارة، وبنى عليها الرصافات ووسع الأسواق، ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ والعرصد، وغير ذلك. (ج/ص: 12/344)
    وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم، ويحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك، ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة، حتى يساويهم، وأحاط السور على حارة اليهود، وكان خراباً، وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية.
    وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لأن شعار الرفض كان ظاهراً بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مراراً عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة.
    وأقطع العرب إقطاعات لئلا يتعرضوا للحجيج، وبنى بدمشق مارستاناً لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضاً، ووقف وقفاً على من يعلم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف داره على جميع أبواب الخير، وعلى الأرامل والمحاويج.
    وكان الجامع دائراً فولى نظره القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهزوري الموصلي، الذي قدم به فولاه قضاء قضاة دمشق، فأصلح أموره وفتح المشاهد الأربعة، وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الأوقاف التي لا يعرف واقفوها، ولا يعرف شروطهم فيها، وجعلها قلما واحداً، وسمى مال المصالح، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك.
    وقد كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، محباً لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب ولا رضى، صموتاً وقوراً.
    قال ابن الأثير: لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئاً، ولو مات جوعاً، وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد.
    وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه، وركب يوماً مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه ثم رجعا فصار الظل وراءهما، ثم ساق نور الدين فرسه سوقاً عنيفاً وظله يتبعه، فقال لصاحبه: أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه ؟
    شبهته بالدنيا تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها.
    وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى: (ج/ص: 12/345)
    مثل الرزق الذي تطلبه * مثل الظل يمشي معك
    أنت لا تدركه مستعجلاً * فإذا وليت عنه تبعك
    وكان فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يركب:
    جمع الشجاعة والخشوع لديه * ما أحسن الشجعان في المحراب
    وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجراً جزيلاً، وجراية كثيرة:
    فألبس الله هاتيك العظام وإن * بلين تحت الثرى عفواً وغفرانا
    سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت * مثوى قبورهم روحاً وريحانا
    وذكر ابن الأثير: أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقاً يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده، وأقبل مع خصمه ماشياً إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي: أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم.
    فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان: إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه، فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.
    قال ابن الأثير: وهو أول من ابتنى داراً للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل: أربع مرات، وقيل: خمس.
    ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره، بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم. (ج/ص: 12/346)
    وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادي كان قد عظم شأنه عند نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك العدل، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد إلى نوابه أن لا يدعوا لأحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك.
    فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحداً يستعدي على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرا لله، وقال: الحمد لله الذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم.
    وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة، وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده، ثم يرميها إلى آخر الميدان، ولم ير جوكانة يعلو على رأسه، ولا يرى الجوكان في يده، لأن الكم ساتر لها، ولكنه استهانة بلعب الكرة، وكان شجاعاً صبوراً في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنية.
    وقال له يوماً قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين.
    فقال له: اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود ؟
    قال: فبكى من كان حاضراً، رحمه الله.
    وقد أسر بنفسه في بعض الغزوات بعض ملوك الإفرنج، فاستشار الأمراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل له من المال ؟
    وكان قد بذل له في فداء نفسه مالاً كثيراً، فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعاً فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه فلا يمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه فلا يمنع من شرابه، ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه، رحمه الله.
    قلت: ويقول بعض الناس: إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا، فالله أعلم.
    وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات والأبراج، ورتب الخفراء في الأماكن المخوفة، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة، وبنى الربط والخانقات، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم، وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وهو قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين: ويحك إن كان ما تقول حقاً فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقاً، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحداً غيره عندي بسوء لأوذينك.
    فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك. (ج/ص: 12/347)
    وقد ابتنى بدمشق داراً لاستماع الحديث وإسماعه.
    قال ابن الأثير: وهو أول من بنى دار حديث، وقد كان مهيباً وقوراً شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.
    وقد سمع عليه جزء حديث وفيه ((فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلداً السيف)) فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحمه الله.
    وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد، وقال له: هذا تأويل رؤياك.
    وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم: إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم.
    وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، وكان يقول في سجوده: اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب.
    وقيل: إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة: كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور ؟
    ويقال: إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار، وكان هذا الرجل ليس له شيء ولا يقبل من أحد شيئاً، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج إلى مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس - أنشد نور الدين أبياتاً تتضمن ما هو متلبس في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له:
    مثل وقوفك أيها المغرور * يوم القيامة والسماء تمور
    إن قيل نور الدين رحت مسلماً * فاحذر بأن تبقى وما لك نور
    أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور
    عطلت كاسات المدام تعففاً * وعليك كاسات الحرام تدور
    ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فرداً وجاءك منكر ونكير
    (ج/ص: 12/348)
    ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فرداً ذليلاً والحساب عسير
    وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور
    وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور
    ووددت أنك ما وليت ولاية * يوماً ولا قال الأنام أمير
    وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير
    وحشرت عرياناً حزيناً باكياً * قلقاً وما لك في الأنام مجير
    أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور
    أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبداً وأنت معذب مهجور
    مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور
    فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديداً، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد.
    وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل - وكان قد أمر الولاة والأمراء بها أن لا يفصلوا بها أمراً حتى يعلموا الملا به، فما أمرهم به من شيء امتثلوه، وكان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان - فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له ؟
    فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم.
    فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب، وجعل يقول: انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد.
    وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه.
    فقال له السلطان: أليس الله تعالى يقول: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان: 63].
    وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
    فسكت الشيخ ولم يحر جواباً.
    وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائراً مرات، ووقف عليه وقفاً.
    وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال: وكان نور الدين محافظاً على الصلوات في أوقاتها، في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها. (ج/ص: 12/349)
    وحكى الشيخ أبو شامة: أن نور الدين وقف بستان الميدان سوى الغيضة التي تليه نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنيفة، والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة، وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وجامع القلعة، ومسجد عطية، ومسجد ابن لبيد بالعسقار، ومسجد الرماحين المعلق، ومسجد العباس بالصالحية، ومسجد دار البطيخ المعلق، والمسجد الذي جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، لكل من هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف.
    ومناقبه ومآثره كثيرة جداً، وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما وراءها.
    وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في أول (الروضتين) كثيراً من محاسنه، وذكر ما مدح به من القصائد، وذكر أنه لما فتح أسد الدين الديار المصرية ثم مات، ثم تولى صلاح الدين هم بعزله عنها، واستنابة غيره فيها غير مرة، ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج، واقتراب أجله، فلما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وستين وخمسمائة - وهي آخر مدته، أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه، وأرسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشام حفظاً لها من الفرنج في غيبته ويركب هو في جمهور الجيش إلى مصر، وقد خاف منه الملك صلاح الدين خوفاً شديداً.
    فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الأخضر القبلي، وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الأحد، ورمى القبق في الميدان الأخضر الشمالي، والقدر يقول له: هذا آخر أعيادك.
    ومد في ذلك اليوم سماطاً حافلاً، وأمر بانتهابه، وطهر ولده الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فحصل له غيظ من بعض الأمراء - ولم يكن ذلك من سجيته - فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه، واحتبس أسبوعاً عن الناس، والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لأجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا يجود بموجوده، سروراً بذلك، فانعكست تلك الأفراح بالأتراح، ونسخ الجد ذلك المزاح، وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فلم يفعل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. (ج/ص: 12/350)
    فلما كان يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلي عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه ويطيب ويتبرك به كل مار، فيقول: قبر نور الدين الشهيد، لما حصل له في حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له: القسيم ابن القسيم.
    وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد:
    عجبت من الموت لما أتى * إلى ملك في سجايا ملك
    وكيف ثوى الفلك المستد * ير في الأرض وسط فلك
    وقال حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة نور الدين لما دفن بها، رحمه الله تعالى:
    ومدرسة ستدرس كل شيء * وتبقى في حمى علم ونسك
    تضوع ذكرها شرقاً وغرباً * بنور الدين محمود بن زنكي
    يقول وقوله حق وصدق * بغير كناية وبغير شك
    دمشق في المدائن بيت ملكي * وهذي في المدارس بنت ملكي
    صفة نور الدين رحمه الله تعالى
    كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه، مهيباً متواضعاً عليه جلالة ونور، يعظم الإسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع. (ج/ص: 12/351)
    فصل
    فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل، وكان صغيراً، وجعل أتابكه الأمير شمس الدين بن مقدم، فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور، وكثرت الخمور، وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئاً منها، ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته - وكان محصوراً منه - نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب، ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
    وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم، لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئاً من المناكر والفواحش، فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الأرض فساداً وتحقق قول الشاعر:
    ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سراً وقد أمكن الجهر
    وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين، فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم، فهادنهم مدة، ودفع إليهم أموالاً جزيلة عجلها لهم، ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه.
    ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الأمراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الأموال إلى الفرنج، وهم أقل وأذل، وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج، فردوا إليه كتاباً فيه غلظة، وكلام فيه بشاعة، فلم يلتفت إليهم ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر، فلم يفعل لأنه خاف أن يكون مكيدة منهم له، وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين الذي كان قد جعله الملك نور الدين عيناً عليه، وحافظاً له من تعاطي ما لا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو.
    فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سراً، فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله، ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتفق مع الأمراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده، وتكون دمشق مسلمة إلى الأتابك شمس الدولة بن مقدم، والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان.
    فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والأمراء من دمشق إلى حلب، وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين، وإخوته الثلاثة، وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن أن ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه، لأنه أحق الناس بذلك، فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب. (ج/ص: 12/352)
    فكتب الملك صلاح الدين إلى الأمراء يلومهم على ما فعلوا على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب، ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الأمراء ورؤس الكبراء، ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم.
    فكتبوا إليه يسيئون الأدب عليه، وكل ذلك يزيده حنقاً عليهم، ويحرضه على القدوم إليهم، ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الأمر الهائل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية.
    ***************
    سِيَرُ أَعْلاَمِ النُّبَلاَءِ، - للإمام الذَّهبي
    المُجَلَّدُ العِشْرُوْنَ : الطَّبَقَةُ الثَّلاَثُوْنَ : 340 - نُوْرُ الدِّيْنِ، مَحْمُوْدُ بنُ مَحْمُوْدِ بنِ زِنْكِي التُّرْكِيُّ
    340 - نُوْرُ الدِّيْنِ، مَحْمُوْدُ بنُ مَحْمُوْدِ بنِ زِنْكِي التُّرْكِيُّ
    صَاحِبُ الشَّامِ، المَلِكُ العَادِلُ، نُوْرُ الدِّيْنِ، نَاصِرُ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، تَقِيُّ المُلُوْكِ، لَيْثُ الإِسْلاَمِ، أَبُو القَاسِمِ مَحْمُوْدُ ابنُ الأَتَابَكِ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ أَبِي سَعِيْدٍ زِنْكِي ابنِ الأَمِيْرِ الكَبِيْرِ آقْسُنْقُرَ التُّرْكِيُّ، السّلطَانِيُّ، المَلِكْشَاهِيُّ.
    مَوْلِدُهُ: فِي شَوَّالٍ، سَنَة إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
    وَلِي جدُّه نِيَابَةَ حَلَبَ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاه بنِ أَلب آرسلاَن السَّلْجُوْقِيِّ.
    وَنَشَأَ قسيمُ الدَّوْلَة بِالعِرَاقِ، وَنَدبَهُ السُّلْطَانُ مَحْمُوْدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَلِكْشَاه بِإِشَارَةِ المُسْتَرشِدِ لإِمْرَةِ المَوْصِلِ وَدِيَارِ بَكْرٍ وَالبِلاَدِ الشَّامِيّةِ، وَظَهَرَتْ شَهَامتُهُ وَهَيبَتُهُ وَشَجَاعَتُه، وَنَازَلَ دِمَشْقَ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ، فَقُتِلَ عَلَى حِصَارِ جَعْبَرَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ، فَتَمَلَّكَ ابْنُه نُوْر الدِّيْنِ هَذَا حلبَ، وَابْنُه الآخِر المَوْصِلَ. (20/532)
    وَكَانَ نُوْر الدِّيْنِ حَامِل رَايَتَيِ العَدْل وَالجِهَاد، قلَّ أَنْ تَرَى العُيُونُ مِثْلَه، حَاصرَ دِمَشْق، ثُمَّ تَمَلَّكَهَا، وَبَقِيَ بِهَا عِشْرِيْنَ سَنَةً.
    افتَتَح أَوَّلاً حُصُوْناً كَثِيْرَة، وَفَامِيَةَ، وَالرَّاوندَانَ، وَقَلْعَةَ إِلبِيْرَةَ، وَعزَازَ، وَتلَّ بَاشرَ، وَمَرْعَشَ، وَعَيْنَ تَابَ، وَهَزَمَ البُرْنُسَ صَاحِبَ أَنطَاكيَة، وَقتلَهُ فِي ثَلاَثَة آلاَفٍ مِنَ الفِرَنْجِ، وَأَظهرَ السُّنَّةَ بِحَلَبَ، وَقمعَ الرَّافِضَّةَ.
    وَبَنَى المَدَارِسَ بِحَلَبَ وَحِمْصَ وَدِمَشْقَ وَبَعْلَبَكَّ وَالجَوَامِعَ وَالمَسَاجِدَ، وَسُلِّمت إِلَيْهِ دِمَشْقُ لِلْغلاَءِ وَالخوف، فَحَصَّنهَا، وَوسَّع أَسواقهَا، وَأَنشَأَ المَارستَان وَدَار الحَدِيْث وَالمدَارس وَمَسَاجِدَ عِدَّةً، وَأَبطل المُكُوْس مِنْ دَار بطيخ وَسُوْقِ الغنمِ وَالكيَالَة وَضمَان النَّهْرِ وَالخَمْر، ثُمَّ أَخَذَ مِنَ العَدُوّ بَانِيَاسَ وَالمُنَيْطِرَةَ، وَكسر الفِرَنْجَ مَرَّات، وَدوَّخهُم، وَأَذَلَهَّم.
    وَكَانَ بَطَلاً، شُجَاعاً، وَافر الهَيْبَة، حسن الرَّمْي، مليح الشّكل، ذَا تَعبُّد وَخوف وَورعٍ، وَكَانَ يَتعرَّضُ لِلشَّهَادَة، سَمِعَهُ كَاتِبه أَبُو اليُسْرِ يَسْأَل الله أَنْ يَحشُرَهُ مِنْ بُطُوْنِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِل الطَّير.
    وَبَنَى دَار العَدْل، وَأَنْصَفَ الرَّعِيَّة، وَوَقَفَ عَلَى الضُّعَفَاء وَالأَيْتَام وَالمُجَاوِرِيْنَ، وَأَمر بِتكمِيْل سُور المَدِيْنَة النَّبَوِيَّة، وَاسْتخرَاجِ العينِ بِأُحُد دَفَنهَا السَّيْل، وَفتح درب الحِجَاز، وَعَمَّر الخوَانق وَالرُّبط وَالجسور وَالخَانَات بِدِمَشْقَ وَغَيْرهَا، وَكَذَا فَعلَ إِذْ ملك حَرَّانَ وَسِنْجَارَ وَالرُّهَا وَالرَّقَّة وَمَنْبِجَ وَشَيْزَر وَحِمْص وَحَمَاة وَصَرْخَد وَبَعْلَبَكَّ وَتَدمُرَ.
    وَوَقَفَ كُتباً كَثِيْرَةً مُثَمَّنَة، وَكسر الفِرَنْج وَالأَرمنَ عَلَى حَارم وَكَانُوا ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً، فَقَلَّ مَنْ نَجَا، وَعَلَى بَانِيَاس. (20/533)
    وَكَانَتِ الفِرَنْج قَدِ اسْتضرَّت عَلَى دِمَشْقَ، وَجَعَلُوا عَلَيْهَا قطيعَةً، وَأتَاهُ أَمِيْر الجُيُوْش شَاور مُسْتجيراً بِهِ، فَأَكْرَمَه، وَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشاً لِيَرُدَّ إِلَى منصبِهِ، فَانْتصرَ، لَكنه تَخَابثَ وَتلاَءم، ثُمَّ اسْتنجَدَ بِالفِرَنْجِ، ثُمَّ جَهَّز نُوْرُ الدِّيْنِ -رَحِمَهُ اللهُ- جَيْشاً لَجِباً مَعَ نَائِبِهِ أَسَدِ الدِّيْنِ شِيرْكُوْه، فَافْتَتَحَ مِصْرَ، وَقهرَ دَوْلَتهَا الرَّافضيَة، وَهربت مِنْهُ الفِرَنْج، وَقُتِلَ شَاور، وَصَفَتِ الدِّيَار المِصْرِيَّة لِشِيرْكُوْه نَائِب نُوْر الدِّيْنِ، ثُمَّ لِصَلاَح الدِّيْنِ، فَأَبَاد العُبَيْدِيِّيْنَ، وَاسْتَأْصَلَهُم، وَأَقَامَ الدعوَة العَبَّاسِيَّة.
    وَكَانَ نُوْر الدِّيْنِ مَلِيْح الخَطِّ، كَثِيْر المُطَالَعَة، يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ، وَيَصُوْم، وَيَتلو، وَيُسَبِّح، وَيَتحرَّى فِي القُوْت، وَيَتجنَّب الكِبْر، وَيَتَشَبَّه بِالعُلَمَاءِ وَالأَخيَار.
    ذكر هَذَا وَنَحْوَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، ثُمَّ قَالَ:
    رَوَى الحَدِيْثَ، وَأَسْمَعَهُ بِالإِجَازَةِ، وَكَانَ مَنْ رَآهُ شَاهَد مِنْ جَلاَلِ السَّلطَنَةِ وَهَيْبَةِ المُلْكِ مَا يَبْهَرُهُ، فَإِذَا فَاوضه، رَأَى مِنْ لَطَافته وَتوَاضعه مَا يُحَيِّرُه.
    حَكَى مَنْ صَحِبَه حَضَراً وَسفراً أَنَّهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ كلمَة فُحشٍ فِي رِضَاهُ وَلاَ فِي ضَجَرِه، وَكَانَ يُوَاخِي الصَّالِحِيْنَ، وَيزُورهُم، وَإِذَا احْتَلَم مَمَالِيْكُه أَعتَقَهُم، وَزَوَّجَهُم بِجَوَارِيه، وَمتَى تَشَكَّوْا مِنْ وُلاَتِهِ عَزَلَهُم، وَغَالِبُ مَا تَمَلَّكَه مِنَ البُلْدَانِ تَسَلَّمه بِالأَمَانِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَخَذَ مدينَةً، أَسقطَ عَنْ رَعِيَّتِهِ قِسطاً. (20/534)
    وَقَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ: جَاهدَ، وَانتزعَ مِنَ الكُفَّارِ نَيِّفاً وَخَمْسِيْنَ مَدِينَةً وَحِصناً، وَبَنَى بِالمَوْصِلِ جَامِعاً غَرِمَ عَلَيْهِ سَبْعِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، وَتَرَكَ المُكُوسَ قَبْل مَوْتِه، وَبَعَثَ جُنُوْداً فَتَحُوا مِصْرَ، وَكَانَ يَمِيْلُ إِلَى التَّوَاضُعِ وَحُبِّ العُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَكَاتَبَنِي مِرَاراً، وَعَزَمَ عَلَى فَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَتُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
    وَقَالَ المُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ: كَانَ نُوْرُ الدِّيْنِ لَمْ يَنشفْ لَهُ لِبدٌ مِنَ الجِهَاد، وَكَانَ يَأْكُل مِنْ عَمل يَده، يَنسخ تَارَة، وَيَعْمَل أَغلاَفاً تَارَة، وَيَلْبَس الصُّوف، وَيُلاَزم السجَّادَة وَالمُصْحَف، وَكَانَ حنفِياً، يُرَاعِي مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك، وَكَانَ ابْنُهُ الصَّالِح إِسْمَاعِيْل أَحْسَنَ أَهْل زَمَانِهِ.
    وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: ضُربت السِّكَّة وَالخطبَة لنُوْر الدِّيْنِ بِمِصْرَ، وَكَانَ زَاهِداً، عَابِداً، متمسِّكاً بِالشَّرع، مُجَاهِداً، كَثِيْر البِرِّ وَالأَوقَافِ، لَهُ مِنَ المَنَاقِب مَا يَسْتَغرقُ الوَصْفَ.
    تُوُفِّيَ: فِي حَادِي عَشَرِ شَوَّالٍ، بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، بِالخَوَانِيْقِ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالفصدِ، فَامْتَنَعَ، وَكَانَ مَهِيْباً فَمَا رُوجِعَ، وَكَانَ أَسْمَرَ، طَوِيْلاً، حَسنَ الصُّوْرَة، لَيْسَ بِوجهِهِ شَعرٌ سِوَى حَنَكِهِ، وَعهد بِالملك إِلَى ابْنِهِ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً.
    وَقَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: كَانَ أَسْمَر، لَهُ لِحيَة فِي حنكه، وَكَانَ وَاسِع الجبهَة، حسن الصُّوْرَة، حلو العينِيْنَ، طَالعتُ السِّيَر، فَلَمْ أَرَ فِيْهَا بَعْد الخُلَفَاء الرَّاشدين وَعُمَر بن عَبْدِ العَزِيْزِ أَحْسَنَ مِنْ سِيرته، وَلاَ أَكْثَر تَحرِّياً مِنْهُ لِلْعدل، وَكَانَ لاَ يَأْكُل وَلاَ يَلبس وَلاَ يَتصرف إِلاَّ مِنْ ملك لَهُ قَدِ اشترَاهُ مِنْ سهمه مِنَ الغَنِيْمَة، لَقَدْ طلبت زوجته مِنْهُ، فَأَعْطَاهَا ثَلاَثَة دَكَاكِيْنَ، فَاسْتقلَّتْهَا، فَقَالَ: لَيْسَ لِي إِلاَّ هَذَا، وَجَمِيْع مَا بِيدِي أَنَا فِيْهِ خَازنٌ لِلمُسْلِمِيْنَ.
    وَكَانَ يَتهجَّد كَثِيْراً، وَكَانَ عَارِفاً بِمَذْهَب أَبِي حَنِيْفَةَ، لَمْ يَتركْ فِي بِلاَدِه عَلَى سَعَتهَا مُكساً، وَسَمِعْتُ أَن حَاصل أَوقَافه فِي البِرِّ فِي كُلِّ شَهْر تِسْعَةُ آلاَف دِيْنَارٍ صُوْرِيَّةٍ. (20/535)
    قَالَ لَهُ القطب النَّيْسَابُوْرِيّ: بِاللهِ لاَ تُخَاطر بِنَفْسِك، فَإِنْ أُصبتَ فِي مَعْرَكَة لاَ يَبْقَى لِلمُسْلِمِيْنَ أَحَدٌ إِلاَّ أَخَذَهُ السَّيْف، فَقَالَ: وَمَنْ مَحْمُوْدٌ حَتَّى يُقَالَ هَذَا؟! حَفِظ الله البِلاَدَ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.
    قُلْتُ: كَانَ دَيِّناً، تَقِيّاً، لاَ يَرَى بذلَ الأَمْوَال إِلاَّ فِي نَفع، وَمَا لِلشُّعَرَاء عِنْدَهُ نَفَاق، وَفِيْهِ يَقُوْلُ أُسَامَةُ:
    سُلْطَانُنَا زَاهِد وَالنَّاس قَدْ زَهِدُوا*لَهُ فُكُلٌّ عَلَى الخيرَات مُنْكَمِشُ
    أَيَّامُه مِثْلُ شَهْر الصَّوْم طَاهِرَةٌ*مِنَ المَعَاصِي وَفِيْهَا الجوع وَالعطشُ
    قَالَ مَجْد الدِّيْنِ ابْن الأَثِيْرِ فِي نَقل سِبْط الجَوْزِيّ عَنْهُ: لَمْ يَلبس نُوْر الدِّيْنِ حَرِيْراً وَلاَ ذهباً، وَمَنَع مِنْ بيع الخَمْر فِي بِلاَده - قُلْتُ: قَدْ لبس خِلْعَة الخَلِيْفَة وَالطّوق الذَّهَبِ - قَالَ: وَكَانَ كَثِيْرَ الصَّوْم، وَلَهُ أَورَاد فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُكثر اللعب بِالكُرَة، فَأَنْكَر عَلَيْهِ فَقير، فَكتب إِلَيْهِ: وَاللهِ مَا أَقصدُ اللعبَ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي ثَغرٍ، فَرُبَّمَا وَقَعَ الصوت، فَتكُوْنُ الخَيلُ قَدْ أَدمَنَتْ عَلَى الانعطَافِ وَالكَرِّ وَالفَرِّ.
    وَأُهدِيَتْ لَهُ عِمَامَةٌ مِنْ مِصْرَ مُذَهَّبَةٌ، فَأَعْطَاهَا لابْنِ حَمُّوَيْه شَيْخِ الصُّوْفِيَّةِ، فَبِيعتْ بِأَلفِ دِيْنَارٍ. (20/536)
    قَالَ: وَجَاءهُ رَجُل طلبه إِلَى الشَّرع، فَجَاءَ مَعَهُ إِلَى مَجْلِس كَمَال الدِّيْنِ الشَّهْرُزُوْرِيّ، وَتَقدمه الحَاجِب يَقُوْلُ للقَاضِي: قَدْ قَالَ لَكَ: اسلك مَعَهُ مَا تَسلكُ مَعَ آحَادِ النَّاسِ.
    فَلَمَّا حَضَر سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ خصمه، وَتَحَاكمَا، فَلَمْ يثبتْ لِلرَّجُلِ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَكَانَ مِلْكاً، ثُمَّ قَالَ السُّلْطَانُ: فَاشْهَدُوا أَنِّي قَدْ وَهَبْتُهُ لَهُ.
    وَكَانَ يَقعد فِي دَارِ العَدْل فِي الجُمُعَة أَرْبَعَة أَيَّام، وَيَأْمر بِإِزَالَة الحَاجِب وَالبوَّابين، وَإِذَا حَضَرت الحَرْب، شدَّ قَوسَينِ وَتَرْكَاشَيْنِ، وَكَانَ لاَ يَكِلُ الجُنْدَ إِلَى الأُمَرَاءِ، بَلْ يُباشر عدَدَهُم وَخُيُولَهُم، وَأَسَرَ إِفرنجياً، فَافْتكَّ نَفْسه مِنْهُ بِثَلاَثِ مائَةِ أَلْف دِيْنَار، فَعند وُصُوْلِهِ إِلَى مَأْمنه مَاتَ، فَبنَى بِالمَالِ المَارستَانَ وَالمَدْرَسَةَ.
    قَالَ العِمَادُ فِي (البَرْقِ الشَّامِيِّ): أَكْثَر نُوْر الدِّيْنِ عَام مَوْته مِنَ البِرّ وَالأَوقَاف وَعمَارَة المَسَاجِد، وَأَسقط مَا فِيْهِ حَرَام، فَمَا أَبقَى سِوَى الجِزْيَة وَالخَرَاج وَالعُشر، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى جَمِيْع البِلاَد، فَكَتَبتُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلف مَنْشُوْر.
    قَالَ: وَكَانَ لَهُ بِرَسْمِ نَفَقَةٍ خَاصَّةٍ فِي الشَّهْرِ مِنَ الجِزْيَةِ مَا يَبلُغُ أَلْفَي قِرْطَاسٍ يَصْرِفُهَا فِي كسوتِهِ وَمَأْكُوله وَأُجْرَةِ طَبَّاخِهِ وَخَيَّاطِهِ كُلّ سِتِّيْنَ قِرْطَاساً بِدِيْنَارٍ. (20/537)
    قَالَ سِبْط الجَوْزِيّ: كَانَ لَهُ عجَائِزُ، فَكَانَ يَخِيطُ الكوَافِي، وَيَعْمَلُ السَّكَاكِرَ، فَيَبِعْنهَا لَهُ سرّاً، وَيُفْطِر عَلَى ثمنهَا.
    قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: كَانَ مِنْ أَقوَى النَّاس قَلْباً وَبدناً، لَمْ يُرَ عَلَى ظهر فَرَس أَحَد أَشدَّ مِنْهُ، كَأَنَّمَا خلق عَلَيْهِ لاَ يَتحرك، وَكَانَ مِنْ أَحْسَن النَّاس لعباً بِالكرَة، يَجرِي الفرسُ وَيَخطِفهَا مِنَ الهوَاء، وَيَرمِيهَا بِيَدِهِ إِلَى آخِر المَيْدَان، وَيُمْسِك الجُوْكَانَ بِكُمِّه تَهَاوُناً بِأَمره، وَكَانَ يَقُوْلُ: طَالمَا تَعرضتُ لِلشَّهَادَة، فَلَمْ أُدْرِكْهَا.
    قُلْتُ: قَدْ أَدْركهَا عَلَى فِرَاشه، وَعَلَى أَلسَنَة النَّاس: نُوْر الدِّيْنِ الشَّهِيْد، وَالَّذِي أَسقط مِنَ المُكُوْس فِي بِلاَده ذكرتُه فِي (تَارِيْخِنَا الكَبِيْر) مفصَّلاً، وَمَبْلَغُه فِي العَامِ خَمْسُ مائَةِ أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَسِتَّةٌ وَثَمَانُوْنَ أَلفَ دِيْنَارٍ، وَأَرْبَعَة وَسَبْعُوْنَ دِيْنَاراً مِنْ نَقد الشَّام، مِنْهَا عَلَى الرّحبَة سِتَّةَ عَشَرَ أَلفَ دِيْنَار، وَعَلَى دِمَشْقَ خَمْسُوْنَ أَلْفاً وَسَبْعُ مائَةٍ وَنَيِّف، وَعَلَى المَوْصِل ثَمَانِيَة وَثَلاَثُوْنَ أَلْفَ دِيْنَار، وَعَلَى جَعْبَر سَبْعَة آلاَف دِيْنَار وَنَيِّف، وَفِي الكِتَابِ: فَأَيقنُوا أَنَّ ذَلِكَ إِنعَام مُسْتمر عَلَى الدّهور، باقٍ إِلَى يَوْم النُّشُوْر، فَـ {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُم وَاشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُوْر} [سَبَأُ: 15]، {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِيْنَ يُبَدِّلُوْنَهُ} [البَقَرَةُ: 181].
    وَكَتَبَ فِي رَجَبٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ. (20/538)
    قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: حَكَى لِي نَجْمُ الدِّيْنِ بنُ سَلاَّمٍ عَنْ وَالِدِه:
    أَنَّ الفِرَنْجَ لَمَّا نَزلَتْ عَلَى دِمْيَاطَ، مَا زَال نُوْرُ الدِّيْنِ عِشْرِيْنَ يَوْماً يَصُوْمُ، وَلاَ يُفْطِرُ إِلاَّ عَلَى المَاءِ، فَضَعُفَ وَكَادَ يَتلَفُ، وَكَانَ مَهِيْباً، مَا يَجسُرُ أَحَدٌ يُخَاطِبَه فِي ذَلِكَ.
    فَقَالَ إِمَامُه يَحْيَى: إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ يَقُوْلُ: يَا يَحْيَى، بَشِّرْ نُوْرَ الدِّيْنِ بِرَحِيْلِ الفِرَنْجِ عَنْ دِمْيَاطَ.
    فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! رُبَّمَا لاَ يُصدِّقُنِي.
    فَقَالَ: قُلْ لَهُ: بِعَلاَمَةِ يَوْمِ حَارِمَ.
    وَانتَبَهَ يَحْيَى، فَلَمَّا صَلَّى نُوْرُ الدِّيْنِ الصُّبْحَ، وَشَرَعَ يَدْعُو، هَابَهُ يَحْيَى، فَقَالَ لَهُ: يَا يَحْيَى، تُحَدِّثُنِي أَوْ أُحَدِّثُكَ؟
    فَارْتَعَدَ يَحْيَى، وَخَرسَ، فَقَالَ: أَنَا أُحَدِّثُكَ، رَأَيْتَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَقَالَ لَكَ كَذَا وَكَذَا.
    قَالَ: نَعَمْ، فَبِاللهِ يَا مَوْلاَنَا، مَا مَعْنَى قَوْلِه بِعَلاَمَةِ يَوْمِ حَارِمَ؟
    فَقَالَ: لَمَّا التَقَينَا العَدُوَّ، خِفْتُ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَانْفرَدْتُ، وَنَزَلْتُ، وَمَرَّغْتُ وَجْهِي عَلَى التُّرَابِ، وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي مَنْ مَحْمُوْدٌ فِي البين، الدِّيْنُ دِيْنُكَ، وَالجُنْدُ جُنْدُكَ، وَهَذَا اليَوْمَ افْعَلْ مَا يَلِيْقُ بِكَرَمِكَ.
    قَالَ: فَنَصَرَنَا اللهُ عَلَيْهِم.
    وَحَكَى لِي تَاج الدِّيْنِ، قَالَ: مَا تَبسَّم نُوْر الدِّيْنِ إِلاَّ نَادراً، حَكَى لِي جَمَاعَة مِنَ المُحَدِّثِيْنَ أَنَّهُم قَرَؤُوا عَلَيْهِ حَدِيْث التَّبَسُّمِ، فَقَالُوا لَهُ: تَبسَّمْ.
    قَالَ: لاَ أَبتسمُ مِنْ غَيْرِ عجب.
    قُلْتُ: الخَبَر لَيْسَ بصَحِيْح، وَلَكِنَّ التَّبَسُّم مُسْتَحَبٌّ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيْكَ صَدَقَةٌ).
    وَقَالَ جَرِيْرُ بنُ عَبْدِ اللهِ: مَا حَجَبنِي رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ أَسلمتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبسَّم. (20/539)
    وَتَمَلَّكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الملك الصَّالِحُ أَشْهُراً، وَسلَّم دِمَشْق إِلَى السُّلْطَانِ صَلاَحِ الدِّيْنِ، وَتَحَوَّلَ إِلَى حَلَبَ، فَدَامَ صَاحِبُهَا تِسْع سِنِيْنَ، وَمَاتَ بِالقُوْلَنْجِ، وَلَهُ عِشْرُوْنَ سَنَةً، وَكَانَ شَابّاً دَيِّناً -رَحِمَهُ اللهُ-.
    التعديل الأخير تم بواسطة الناصر ; 12-25-2005 الساعة 09:40 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •