قال الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة تحت حديث 6203 :(كما فعل الشيخ التويجري في "الرد
على من أجاز تهذيب اللحية" (ص 7 - 8 و15 و51) ، ولقد أصاب في رده على
ذاك الكاتب الذي زعم : "أن اللحية رمز عربي ، وليس من الإسلام في شيء! " ،
ورسالته تدور حول إبطال هذا الزعم ، ولقد كان موفقاً في ذلك ، بخلاف عنوانه
للرسالة ، فلقد كان مخطئاً فيه من ناحيتين :
الأولى : أنه لا يطابق المعنون عنه ؛ لأن تهذيب اللحية غير حلقها بداهة ،
وهو لم يرد فيها على الذين يذهبون إلى جواز تهذيبها مع قولهم بحرمة حلقها .
والأخرى : أنه - أعني : العنوان - يشمل الحنفية وغيرهم الذين من مذهبهم
جواز أخذ ما زاد على القبضة ؛ بل يشمل ابن عمر وأبا هريرة وغيرهم من السلف
الذين احتج بهم الحنفية ؛ وإن لم يسلم بذلك الفاضل المعلق على رسالة : "وجوب
إعفاء اللحية" للشيخ الكاندهلوي ؛ فإنه قد خالف السلف ، ومنهم إمام السنة
أحمد بن حنبل ؛ فقد روى الخلال في "كتاب الترجل " : قال : أخبرني حوب ،
قال : سئل أحمد عن الأخذ من اللحية ؟ قال :
كان ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة . وكأنه ذهب إليه . قلت له : ما
(الإعفاء) ؟ قال : يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قال : كان هذا عنده الإعفاء .
أخبرني محمد بن أبي هارون : أن إسحاق حدثهم قال : سألت أحمد عن
الرجل يأخذ من عارضيه ؟ قال : يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة . قلت :
فحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
"أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى" ؟ قال : يأخذ من طولها ومن تحت حلقه ورأيت
أبا عبدالله يأخذ من طولها ومن تحت حلقه ، وروى ابن هاني مثله في "مسائله "
(2/151/1848) .
قلت : ثم قال الخلال : أخبرني عبيد الله بن حنبل قال : حدثني أبي قال :
قال أبو عبدالله : ويأخذ من عارضيه ، ولا يأخذ من الطول ، وكان ابن عمر يأخذ
من عارضيه إذا حلق رأسه في حج أو عمرة ، لا بأس بذلك .
فأقول : هذا الرواية شاذة ؛ إن لم أقل : منكرة عن الإمام أحمد ، من ناحيتين :
الأولى : في قول أحمد : "ولا يأخذ من الطول " . فإنه مخالف لرواية حرب
لاسحاق المتقدمتين ، ولعل ذلك من عبيدالله بن حنبل ؛ فإنه غير معروف بالرواية ؛
فإن الخطيب لما ذكره في "التاريخ " (10/347) لم يزد على أن ذكر ما في هذا
الإسناد ، فقال :
"حدث عن أبيه ، سوى عنه أبو بكر الخلال " .
فمثله لا يحتج به بما تفرد به ، فكيف إذا خالف ؟!
والأخرى : في قوله في أثر ابن عمر : وكان يأخذ من عارضيه " ؛ فإنه مخالف
لزيادة فِي حَدِيثِ ابن عمر في "الصحيحين " :
"خالفوا المشركين ، ووفروا اللحى ، وأحفوا الشوارب " .
وهو مخرج في "الإرواء" (1/119) ، وزاد البخاري في رواية (5892 - فتح) . :
"وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر ؛ قبض على لحيته ، فما فضل ؛ أخذ" .
فهذا هو الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وعن أحمد أيضاً . وله عَنْ ابْنِ عُمَرَ طريق
أخرى ، رواها ابن أبي شيبة (8/563) ، وابن سعد (4/178) . وله عنده طرق أخرى .
ثم روى الخلال ، ومن قبله ابن أبي شيبة عن أبي زرعة بن جرير قال :
"كان أبو هريرة يقبض على لحيته ، ثم يأخذ ما فضل عن القبضة" .
وإسناده صحيح على شرط مسلم .
قلت : والآثار السلفية بهذا الماس كثيرة ؛ حتى قال منصور عن إبراهيم :
" كانوا يأخذون من جوانبها ، وينظفونها . يعني : اللحية " .
أخرجه ابن أبي شيبة (8/564) ، والبيهقي في "شعب الإيمان " (5/220/
6438) بإسناد صحيح عن إبراهيم ، وهو : ابن يزيد النخعي ، وهو تابعي فقيه
جليل ، قال الذهبي في "الكاشف " :"كان عجباً في الورع والخير ، متوقياً للشهرة ، رأساً في العلم ، مات سنة
(96) كهلاً " .
قلت : فالظاهر أنه يعني من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين وأجلائهم ،
كالأسود بن يزيد - وهو خاله - وشريح القاضي ، ومسروق وأبي زرعة - وهو الراوي
لأثر أبي هريرة المذكور آنفاً - وأبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود ، والآثار في الباب
كثيرة ؛ بل إن بعضهم جعل الأخذ من اللحية من تمام تفسير قوله تعالى في
الحُجَّاج : {ثم ليقضوا تفثهم} ، فقال محمد بن كعب القرظي :
"رمي الجمار ، وذبح الذبيحة ، وأخذ من الشاربين واللحية والأظفار" .
أخرجه ابن جرير بسند جيد عنه .
ثم روى عن مجاهد مثله . وسنده صحيح .
ومجاهد ، ومحمد بن كعب من أجلة التابعين المكثرين من الرواية عن ترجمان
القرآن عبدالله بن عباس ، والآخذين العلم عنه والتفسير ، ولعلهما تلقيا منه تفسير
آية الحج هذه ؛ فقد قال عطاء : عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ أنه قال في قوله : {ثم ليقضوا
تفئهم} ، قال :
"التفث : حلق الرأس ، وأخذ من الشاربين ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقص
الأظفار ، والأخذ من العارضين ، ورمي الجمار ، والموقف بعرفة والمزدلفة " .
أخرجه ابن جرير أيضاً ، وإسناده صحيح .
ورواه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن عطاء بن أبي رباح قال :
"كانوا يحبون أن يعفوا اللحية ؛ إلا في حج أو عمرة . وكان إبراهيم يأخذ من
عارض لحيته " .وإسناده صحيح أيضاً .
وإذا عرفت ما تقدم من هذه الآثار المخالفة لحديث الترجمة ؛ فالعجب كل
العجب من الشيخ التويجري وأمثاله من المتشددين بغير حق ، كيف يتجرأون على
مخالفة هذه الآثار السلفية ؟! فيذهبون إلى عدم جواز تهذيب اللحية مطلقاً ؛ ولو
عند التحلل من الإحرام ، ولا حجة لهم تذكر سوى الوقوف عند عموم حديث :
" ... وأعفوا اللحى" ، كأنهم عرفوا شيئاً فات أولئك السلف معرفته ، وبخاصة
أن فيهم عبدالله ابن عمر الراوي لهذا الحديث ؛ كما تقدم ، وهم يعلمون أن الراوي
أدرى بمرويه من غيره ، وليس هذا من باب العبرة بروايته لا برأيه ؛ كما توهم البعض ،
فإن هذا فيما إذا كان رأيه مصادماً لروايته ، وليس الأمر كذلك هنا كما لا يخفى على
أهل العلم والنهى ؛ فإن هؤلاء يعلمون أن العمل بالعمومات التي لم يجر العمل بها
على عمومها هو أصل كل بدعة في الدين ، وليس هنا تفصيل القول في ذلك ،
فحسبنا أن نذكر بقول العلماء وفي مثل هذا المجال ؛ "لو كان خيراً ؛ لسبقونا إليه " .
أضف إلى ما تقدم أن من أولئك السلف الأول الذين خالفهم أولئك المتشددون
ابن عباس ترجمان القرآن )0