قال المحدث الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة ج5 ص 375: وما بعدها تحت حديث 2355: (و اعلم أنه لم يثبت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ من اللحية
, لا قولا , كهذا , و لا فعلا كالحديث المتقدم برقم ( 288 ) .
نعم ثبت ذلك عن بعض السلف , و إليك المتيسر منها :
1 - عن مروان بن سالم المقفع قال :
" رأيت ابن عمر يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف " .
رواه أبو داود و غيره بسند حسن ; كما بينته في " الإرواء " ( 920 ) ,و " صحيح
أبي داود " ( 2041 ) .
2 - عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان إذا أفطر من رمضان و هو يريد الحج , لم
يأخذ من رأسه و لا من لحيته شيئا حتى يحج .
و في رواية :
أن عبد الله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته و شاربه .
أخرجه مالك في " الموطأ " ( 1/353 ) .
و روى الخلال في " الترجل " ( ص 11 - المصورة ) بسند صحيح عن مجاهد قال : رأيت
ابن عمر قبض على لحيته يوم النحر , ثم قال للحجام : خذ ما تحت القبضة .
قال الباجي في " شرح الموطأ " ( 3/32 ) :
" يريد أنه كان يقص منها مع حلق رأسه , و قد استحب ذلك مالك رحمه الله , لأن
الأخذ منها على وجه لا يغير الخلقة من الجمال , و الاستئصال لهما مثلة " .
3 - عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : *( و ليقضوا تفثهم )* :
" التفث : حلق الرأس , و أخذ الشاربين , و نتف الإبط , و حلق العانة , و قص
الأظفار , و الأخذ من العارضين , ( و في رواية : اللحية ) , و رمي الجمار ,
و الموقف بعرفة و المزدلفة " .
رواه ابن أبي شيبة ( 4/85 ) و ابن جرير في " التفسير " ( 17/109 ) بسند صحيح .
4 - عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : *( ثم ليقضوا تفثهم )*
, فذكر نحوه بتقديم و تأخير , و فيه :
و أخذ من الشاربين و اللحية " .
رواه ابن جرير أيضا , و إسناده صحيح , أو حسن على الأقل .
5 - عن مجاهد مثله بلفظ :
" و قص الشارب ... و قص اللحية " .
رواه ابن جرير بسند صحيح أيضا .
6 - عن المحاربي ( و هو عبد الرحمن بن محمد ) قال : سمعت رجلا يسأل ابن جريج عن
قوله : *( ثم ليقضوا تفثهم )* , قال :
" الأخذ من اللحية و من الشارب ... " .
7 - في " الموطأ " أيضا أنه بلغه :
أن سالم بن عبد الله كان إذا أراد أن يحرم , دعا بالجملين , فقص شاربه و أخذ من
لحيته قبل أن يركب , و قبل أن يهل محرما .
8 - عن أبي هلال قال : حدثنا شيخ - أظنه من أهل المدينة - قال :
رأيت أبا هريرة يحفي عارضيه : يأخذ منهما . قال : و رأيته أصفر اللحية .
رواه ابن سعد في " الطبقات " ( 4/334 ) .
قلت : و الشيخ المدني هذا أراه عثمان بن عبيد الله , فإن ابن سعد روى بعده
أحاديث بسنده الصحيح عن ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبيد الله قال :
رأيت أبا هريرة يصفر لحيته و نحن في الكتاب .
و قد ذكره ابن حبان في " الثقات " ( 3/177 ) , فالسند عندي حسن . والله أعلم .
قلت : و في هذه الآثار الصحيحة ما يدل على أن قص اللحية , أو الأخذ منها كان
أمرا معروفا عند السلف , خلافا لظن بعض إخواننا من أهل الحديث الذين يتشددون في
الأخذ منها , متمسكين بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " و أعفوا اللحى " , غير
منتبهين لما فهموه من العموم أنه غير مراد لعدم جريان عمل السلف عليه و فيهم من
روى العموم المذكور , و هم عبد الله بن عمر , و حديثه في " الصحيحين " ,
و أبو هريرة , و حديثه عن مسلم , و هما مخرجان في " جلباب المرأة المسلمة " ( ص
185 - 187/ طبعة المكتبة الإسلامية ) , و ابن عباس , و حديثه في " مجمع الزوائد
" ( 5/169 ) .
و مما لا شك أن راوي الحديث أعرف بالمراد منه من الذين لم يسمعوه من النبي
صلى الله عليه وسلم , و أحرص على اتباعه منهم . و هذا على فرض أن المراد بـ (
الإعفاء ) التوفير و التكثير كما هو مشهور , لكن قال الباجي في " شرح الموطأ "
( 7/266 ) نقلا عن القاضي أبي الوليد :
" و يحتمل عندي أن يريد أن تعفى اللحى من الإخفاء . لأن كثرتها أيضا ليس بمأمور
بتركه , و قد روى ابن القاسم عن مالك : لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية و شذ
. قيل لمالك : فإذا طالت جدا ? قال : أرى أن يؤخذ منها و تقص . و روي عن
عبد الله بن عمر و أبي هريرة أنهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة " .
قلت : أخرجه عنهما الخلال في " الترجل " ( ص 11 - مصورة ) بإسنادين صحيحين ,
و روى عن الإمام أحمد أنه سئل عن الأخذ من اللحية ? قال :
كان ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة , و كأنه ذهب إليه . قال حرب : قلت له
: ما الإعفاء ? قال : يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : كان هذا عنده
الإعفاء .
قلت : و من المعلوم أن الراوي أدرى بمرويه من غيره , و لا سيما إذا كان حريصا
على السنة كابن عمر , و هو يرى نبيه صلى الله عليه وسلم - الآمر بالإعفاء -
ليلا نهارا . فتأمل .
ثم روى الخلال من طريق إسحاق قال :
" سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه ? قال : يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة
.
قلت : حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
" احفوا الشوارب , و أعفوا اللحى " ?
قال : يأخذ من طولها و من تحت حلقه . و رأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها و من
تحت حلقه " .
قلت : لقد توسعت قليلا بذكر هذه النصوص عن بعض السلف و الأئمة ; لعزتها , و لظن
الكثير من الناس أنها مخالفة لعموم : " و أعفوا اللحى " , و لم يتنبهوا لقاعدة
أن الفرد من أفراد العموم إذا لم يجر العمل به , دليل على أنه غير مراد منه ,
و ما أكثر البدع التي يسميها الإمام الشاطبي بـ ( البدع الإضافية ) إلا من هذا
القبيل , و مع ذلك فهي عند أهل العلم مردودة , لأنها لم تكن من عمل السلف ,
و هم أتقى و أعلم من الخلف , فيرجى الانتباه لهذا فإن الأمر دقيق و مهم .