بسم الله الرحمن الرحيم

رد الخرافات حول أبوي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ

وسئل الشيخ ـ رحمه الله ـ‏:‏ هل صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك ‏؟‏

فأجاب ‏(6)‏ لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث ‏(7)‏، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكرة - يعني الخطيب - في كتابه - السابق واللاحق ـ وذكره أبو القاسم السهيلي في - شرح السير - بإسناد فيه مجاهيل‏.‏ وذكره أبو عبد الله القرطبي في التذكرة وأمثال هذه المواضع‏.‏ فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبًا كما نص عليه أهل العلم‏.‏ وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من الكتب المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين؛ فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فإنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة‏.‏

ويرد الشيخ ـ رحمه الله ـ على رواية أن أبوي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحييا له وأسلما ثم ماتا، فيقول‏:‏ ثم هذا خلاف الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏:‏ 18‏]‏ فبين الله تعالى‏:‏ أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏ فأخبر ـ سبحانه ـ أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت‏؟‏ وفي صحيح مسلم ‏(8) ‏:‏ أن رجلًا قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ أين أبي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن أباك في النار‏)‏‏.‏ فلما أدبر دعاه فقال‏:‏ ‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏، وفي صحيح مسلم ‏(9)‏ أيضًا أنه قال‏:‏ ‏(‏استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة‏)‏‏.‏ وفي الحديث الذي في المسند وغيره قال‏:‏ ‏(‏إن أمي مع أمك في النار‏)‏ ‏(10) فإن قيل‏:‏ هذا في عام الفتح، والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع ولهذا ذكر ذلك من ذكره، وبهذا اعتذر صاحب التذكرة‏؟‏ وهذا باطل لوجوه‏.‏

الأول‏:‏ أن الخبر عما كان ويكون لا يدخله نسخ، كقوله في أبي لهب‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏ وقوله في الوليد‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 17‏]‏ وكذلك في‏:‏ ‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏، و‏:‏ ‏(‏إن أمي وأمك في النار‏)‏ وهذا ليس خبرًا عن نار يخرج منها صاحبها، كأهل الكبائر، لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما، ولو كان قد سبق في علم الله إيمانهما لم ينهه عن ذلك، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنًا فإن الله يغفر له فلا يكون الاستغفار له ممتنعًا‏.‏

الثاني‏:‏ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زار قبر أمه لأنها كانت بطريقه بالحجون عند مكة عام الفتح، وأما أبوه فلم يكن هناك ولم يزره إذ كان مدفونًا بالشام في غير طريقه؛ فكيف يقال‏:‏ أحييا له ‏؟‏

الثالث‏:‏ أنهما لو كانا مؤمنين إيمانًا ينفع؛ كانا أحق بالشهر والذكر من عميه‏:‏ حمزة والعباس، وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم من أن أبا طالب آمن، ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت ـ ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ عمك الشيخ الضال كان ينفعك؛ فهل نفعته بشيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏وجدته في غمرة من نار، فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار، في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏ ‏(11)

هذا يعني أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت باطل مخالف لما في الصحيح وغيره فإنه كان آخر شيء قاله‏:‏ هو على ملة عبد المطلب‏.‏ وأن العباس لم يشهد موته‏.‏ مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس، فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة خلفًا من سلف أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين، كحمزة والعباس وعلي وفاطمة والحسن والحسين ـ رضي الله عنهم ـ كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب‏.‏

الرابع‏:‏ أن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ من الآية4‏]‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ من الآية114‏]‏ فأمر بالتأسي بإبراهيم والذين معه، إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏.‏ والله أعلم‏.‏


وسئل ـ رحمه الله ـ عن الخضر وإلياس؛ هل هما معمران ‏؟‏

فأجاب ‏(12) ‏:‏ إنهما ليسا من الأحياء ولا معمران وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما‏؟‏ فقال الإمام أحمد‏:‏ من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا شيطان‏.‏ وسئل البخاري عن الخضر وإلياس‏:‏ هل هما في الأحياء‏؟‏ فقال‏:‏ كيف يكون هذا؛ وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد ‏؟‏‏)‏ ‏(13)

وقال أبو الفرج ابن الجوزي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏ وليس هما في الأحياء‏.‏ والله أعلم‏.‏ انتهى كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ‏.‏

وأقول‏:‏ بهذا الجواب الواضح يبطل ما نسب إلى الشيخ في هذه المسألة مما يخالفهما من أن الخضر حي الآن؛ فإما أن يكون ذلك ليس من كلام الشيخ، أو يكون قد تراجع عنه، وتبين له أن الخضر ميت‏.‏ وعلى كل حال فالحق ما قامت عليه الأدلة، وقد قامت الأدلة على موت الخضر كغيره من البشر، وقد قال الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏، والقول باستمرار حياة الخضر لم يقم عليه دليل صحيح‏.‏ فالواجب الأخذ بما دل عليه الدليل الصحيح‏:‏ من موت الخضر كغيره من البشر حتى لا يتعلق بذلك المخرفون والهارفون بما لا يعرفون؛ من أجل إفساد عقائد الناس، وتركهم الأدلة الصحيحة إلى شبهات ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن صاحب الهوى يتعلق بما هو أوهى من نسج العنكبوت، ويترك الأدلة الصحيحة‏.‏ فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏
كتاب {أضواء من فتاوى ابن تيمية }
سماحة الشيخ العلامة صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله