مسئولية طالب العلم في المجتمع

لفضيلة الشيخ العلامة سماحة الوالد الإمام:
عبد العزيز ين عبد الله بن باز
-رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى-
محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في كلية الشريعة بجامعة الإمام بالرياض عام 1410 هـ


بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أما بعد :
أيها الإخوة في الله.. أيها الأبناء الكرام..
فإني أشكر الله عز وجل على ما مَنّ به من هذا اللقاء ، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا ، وأن ينفعنا به جميعا ، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ، وأن يهدينا جميعا سواء السبيل. فنعم الله لا تحصى ، وفضله لا يستقصى ، فهو المنعم بكل النعم ، كما قال سبحانه : وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وقال عز وجل : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا فنشكره سبحانه ونسأله المزيد من فضله لنا ولكم ولجميع المسلمين في كل مكان.
أيها الإخوة في الله ، أيها الأبناء الأعزاء ،
سمعتم عنوان الكلمة وهي : مسئولية طالب العلم في المجتمع ، فالموضوع موضوع عظيم ، ومسئولية طالب العلم مسئولية كبيرة ، وهي متفاوتة على حسب ما عنده من العلم ، وعلى حسب حاجة الناس إليه ، وعلى حسب قدرته وطاقته.
فهناك مسئولية من جهة نفسه : من جهة إعداد هذه النفس للتعليم والدعوة ، وأداء الواجب ، ومن جهة العناية بالعلم والتفقه في الدين ، ومراجعة الأدلة الشرعية ، والعناية بها ، فإن طالب العلم بحاجة شديدة إلى أن يكون لديه رصيد عظيم من الأدلة الشرعية ، والمعرفة بكلام أهل العلم وخلافهم ، ومعرفة بالراجح في مسائل الخلاف بالدليل من كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بدون تقليد لزيد وعمرو ، فالتقليد كل يستطيعه ، وليس من العلم في شيء. قال الإمام أبو عمر بن عبد البر الإمام المشهور صاحب التمهيد وغيره : (أجمع العلماء على أن المقلد لا يعد من العلماء).
فطالب العلم عليه مسئولية كبيرة ومفترضة ، وهي أن يعنى بالدليل ، وأن يجتهد في معرفة براهين المسائل ، وبراهين الأحكام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ومن القواعد المعتبرة.. وأن يكون على بينة كبيرة ، وعلى صلة وثيقة بكلام العلماء ، فإن معرفته بكلام أهل العلم تعينه على فهم الأدلة ، وتعينه على استخراج الأحكام ، وتعينه على التمييز بين الراجح والمرجوح.
ثم عليه مسئولية أخرى من جهة الإخلاص لله سبحانه ، ومراقبته وأن يكون هدفه إرضاءه عز وجل ، وأداء الواجب وبراءة الذمة ، ونفع الناس ، فلا يهدف إلى مال وعرض عاجل ، فذلك شأن المنافقين وأشباههم من أهل الدنيا ، ولا يهدف للرياء والسمعة ، ولكن هدفه أن ينفع عباد الله ، وأن يرضي ربه قبل ذلك ، وأن يكون على بينة فيما يقول ، وفيما يفتي به ، وفيما يعمل به ولا يجوز له التساهل ، لأن طالب العلم متَّبع متأسي بتصرفاته وأعماله. فإن كان مدرسا تأسى به الطلبة ، وإن كان مفتيا أخذ الناس فتواه ، وإن كان داعية كذلك خطره عظيم ، وإن كان قاضيا فالأمر أعظم.
فالواجب على طالب العلم أن يكون له موقف مع ربه ، موقف يرضاه مولاه ، موقف يشتمل على الإخلاص لله ، والصدق في طلب رضاه ، والحرص الذي لا حدود له ، في معرفة الأدلة الشرعية ، والتفتيش عنها حتى يقف على الدليل ، وبذلك تنفسح أمامه الدنيا ، ويفتي على بصيرة ، ويدعو إلى الله على بصيرة ، ويعلّم الناس على بصيرة ، ويأمر بالمعروف على بصيرة ، وينهى عن المنكر على بصيرة ، كما قال تعالى : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وقد فسّرت البصيرة بالعلم.
أما من ليس له بصيرة ، فلا يعد من أهل العلم ، ولا ينفع الناس ، لا في دعوة ولا في غيرها من جهة أمور الدين ، أعني النفع الحقيقي المثمر ، وإن كان قد ينفع بعض الناس بنصيحة يعرفها ، أو مسألة يحفظها ، أو مساعدة ماديّة يقدمها. ولكن النفع الحقيقي من طالب العلم ، يترتب على صدقه وإخلاصه ، وعلى كثرة علمه. وتمكّن فقهه ، وعلى صبره ومصابرته.
وهناك مسألة مهمة ، وهي المسئولية الملقاة على طالب العلم من جهة البلاغ والتعليم للناس ، فإن العلماء هم خلفاء الرسل ، وهم ورثتهم ، ولا يخفى مرتبة الرسل ، وأنهم هم القادة. وهم الهداة للأمة ، وهم أسباب سعادتها ونجاتها ، فالعلماء حلوا محلهم ، ونزلوا منزلتهم في البلاغ والتعليم؛ لأنهم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، فلم يبق إلا البيان والتبليغ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، والدعوة إليها وبيانها ونشرها بين الناس ، وليس لذلك أهل إلا أهل العلم ، هم الذين أهّلهم الله لهذا الأمر دعاة وقادة بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الظاهرة والباطنة.
فواجبهم عظيم ، والخطر عليهم عظيم ، والأمة في ذمتهم؛ لأنها بأشد الحاجة إلى البلاغ والبيان بالطرق الممكنة.
والطرق اليوم كثيرة : منها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.. فلها آثارها العظيمة في إضلال الناس ، وفي هدايتهم.. وهكذا الخطب في الجمع والأعياد والمناسبات والندوات ، والاحتفالات لأي سبب ، لها أثرها أيضا. والنشرات المستقلة والمؤلفات والرسائل لها أثرها العظيم.
فالطرق بحمد الله اليوم ميسرة وكثيرة ، وإنما المصيبة ضعف الطالب ، وقلة نشاطه ، وإعراضه وغفلته.. هذه هي المصيبة العظمى.. فالله يقول عز وجل : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فليس في الوجود من هو أحسن قولا من هؤلاء ، وعلى رأسهم الرسل الكرام والأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، ثم يليهم أهل العلم.
فكلما كثر العلم ، وكملت التقوى والخوف من الله عز وجل ، والإخلاص له سبحانه صار النفع أكثر ، وصار التبليغ عن الله وعن رسوله أكمل. وكلما ضعفت التقوى ، أو قل العلم ، أو قل الخوف من الله ، أو بُلي العبد بمشاغل الدنيا والشهوات العاجلة - قل هذا العلم وقل هذا الخير. يقول سبحانه : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي بين سبحانه أن مهمة النبي الدعوة إلى الله على بصيرة ، وأمره أن يبلغ الناس ذلك ، قُلْ أي : قل يا أيها الرسول للناس هَذِهِ سَبِيلِي أي هذه التي أنا عليها ، هذه الشريعة وهذه الطريقة التي أنا عليها من القول والعمل هي سبيلي ، وهي منهجي وطريقي إلى الله.
فوجب على أهل العلم أن يسيروا على الطريق الذي سلكه المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة. فذلك سبيله وسبيل أتباعه أيضا. فلا يكون العبد من أتباعه على الحقيقة وعلى الكمال إلا إذا سلك ذلك المسلك ، فمن دعا إلى الله على بصيرة ، وتبرأ من الشرك ، واستقام على الحق ، فهو من أتباعه عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال بعدها : وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فالداعي إلى الله الصادق في الدعوة هو المتبع للرسول على بصيرة ، وعلى علم - وليس بالكذب والقول على الله بغير علم تعالى الله عما لا يليق به - مع وصفه سبحانه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن مشابهة خلقه ، وتوحيده والإخلاص له ، والبراءة من الشرك وأهله.
والداعي إلى الله يجب أن يوحد الله ، ويستقيم على شريعته ، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين ، ووصفه سبحانه بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتنزيهه عن صفات النقص والعجز ، وإثبات أسمائه الحسنى ، وصفاته العلى الكاملة له جل وعلا التي جاء بها كتابه العظيم ، أو جاءت بها سنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم إثباتا يليق بجلاله وعظمته ، بلا تمثيل ، وتنزيها له سبحانه بلا تعطيل.
فيثبت العبد صفات الله وأسماءه إثباتا كاملا ، ليس فيه تمثيل ، ولا تشبيه ، وينزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين في جميع صفاته ، تنزيها بريئا من التعطيل.
فهو يسمي الله بأسمائه الحسنى ، ويصف الله بصفاته العليا الواردة في الكتاب العظيم ، والسنة الصحيحة ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل ، ولا زيادة ولا نقصان ، فهو متبع لا مبتدع ، سائر على النهج القويم ، الذي سلكه الرسل ، وسلكه أتباعهم بإحسان ، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وصحابته رضي الله عنهم من بعده ، ثم أتباعهم بإحسان ، وعلى رأسهم الأئمة المشهورون بعد الصحابة : كالإمام مالك بن أنس ، والإمام محمد بن إدريس الشافعي ، والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت ، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل ، والإمام الأوزاعي ، والإمام سفيان الثوري ، والإمام إسحاق بن راهويه ، وغيرهم من أئمة العلم والهدى ، الذين ساروا على النهج القويم ، في إثبات أسماء الله وصفاته ، وتنزيه الله عن مشابهة خلقه.
ثم طالب العلم بعد ذلك حريص جدا أن لا يكتم شيئا مما علم ، حريص على بيان الحق والرد على الخصوم لدين الإسلام ، لا يتساهل ولا ينزوي ، فهو بارز في الميدان دائما حسب طاقته ، فإن ظهر خصوم للإسلام يشبهون ويطعنون - برز للرد عليهم كتابة ومشافهة وغير ذلك لا يتساهل ولا يقول هذه لها غيري ، بل يقول : أنا لها.. أنا لها.. ولو كان هناك أئمة آخرون يخشى أن تفوت المسألة ، فهو بارز دائما لا ينزوي ، بل يبرز في الوقت المناسب لنصر الحق ، والرد على خصوم الإسلام بالكتابة وغيرها.. من طريق الإذاعة ، أو من طريق الصحافة ، أو من طريق التلفاز ، أو من أي طريق يمكنه ، وهو أيضا لا يكتم ما عنده من العلم ، بل يكتب ويخطب ، ويتكلم ويرد على أهل البدع ، وعلى غيرهم من خصوم الإسلام بما أعطاه الله من قوة ، حسب علمه وما يسَّر الله له من أنواع الاستطاعة.. قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
فينبغي أن نقف عند هاتين الآيتين وقفة عظيمة : فربنا حذّر من كتمان العلم وتوعد على ذلك ، ولعن من فعل ذلك ، ثم بين الله أن لا سلامة من هذا الوعيد ، وهذا اللعن إلا بالتوبة والإصلاح والبيان. التوبة مما مضى من التقصير والذنوب. وإصلاح للأوضاع التي يستطيع إصلاحها من نفسه وبنفسه ، وبيان لما لديه من العلم الذي قد يقال إنه كتمه ، أو فعلا قد كتمه لحظ عاجل ، أو تأويل باطل ، ثم من الله عليه بالهدى فلا توبة إلا بهذا البيان ، ولا نجاة إلا بهذه التوبة وهي تشتمل : على الندم على ما مضى من التقصير واقتراف الذنب وإقلاع وترك لهذا الذنب خائفا من ربه عز وجل ، حذرا من عقابه.
وشرط ثالث وهو العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية ، ثم بيان مع ذلك وإصلاح ، لأنه قد يتوب ولا يعلم الناس توبته ، فإذا أظهر ذلك وبينه للناس برئت ذمته وصحت توبته ، وهنا أمر آخر يتعلق بطالب العلم أمام الله سبحانه أولا ، ثم بعد هذا أمام إخوانه وزملائه ومجتمعه ، وهو أن يتقي الله في نفسه.. فكلما علم شيئا بادر بالعمل لا يتساهل : يعلم ويعمل. لا بد من العلم ، ولا بد من العمل ، فهو يحاسب نفسه أبدا ، ويجتهد في تطبيق أحكام الله على نفسه ، الواجب واجب ، والمستحب مستحب ، حتى يمثل العلم في أخلاقه وأعماله وسيرته ، وحلقات علمه وخطبة وأسفاره وإقامته في البر والبحر والجو ، بل في كل مكان؛ لأن هذا الأمر يهمه ويحرص على أن يأخذ عنه إخوانه وزملاؤه وطلبته ، ليعطيهم مما لديه من العلم : من قول وعمل.. وهكذا كان نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام ، كانت دعوته كاملة في القول والعمل ، فسيرته أحسن السير ، وكلامه أطيب الكلام بعد كلام الله عز وجل ، وأخلاقه أحسن الأخلاق ، كما قال تعال : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها.. يأتمر بأوامره ، وينتهي عن نواهيه ، ويتأدب بآدابه ، ويعتبر بما فيه من الأمثال والقصص العظيمة ، ويدعو الناس إلى ذلك.
وأهل العلم عليهم أن يتأسوا به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق العظيم ، وأن يصدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم ، وأن يبلغوا عن الله أمره ونهيه ، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، حسب الطاقة وأن يبذلوا المستطاع والنصائح لولاة الأمور بالتوجيه والإرشاد والتنبيه.. ولأهليهم ولجيرانهم ولسائر مجتمعهم ، وللناس جميعا بكل وسيلة حسب الطاقة. لا يجوز التساهل في هذه الأمور ولا سيما في عصرنا هذا لقلة العلماء وانتشار الشرور وكثرة الرذائل والمنكرات في أرجاء الدنيا في الدول الإسلامية وغيرها.
وكل ذي بصيرة يعلم ما ينشر في هذا العصر من الشرور العظيمة ، في الإذاعات والصحافة ، والتلفاز وفي النشرات الأخرى. وفي المؤلفات الداعية إلى النار.
وهذا الجيش المتنوع الذي يدعو إلى طرق النار ، يحتاج إلى جيش مثله ، وقوة مثله. بل وأكثر منه. هذه الجيوش التي يسوقها أعداء الإسلام إلى المسلمين ، وهذه الوسائل الخطيرة المتنوعة الكثيرة ، كلها يسوقها وينشرها أعداء الإسلام إلى المسلمين ، وإلى غير المسلمين ، لإهلاكهم وقيادتهم إلى النار. وأن يكونوا معهم في أخلاقهم الخبيثة ، وسيرتهم الذميمة ، وأن يكونوا معهم في النار ، لأن قائدهم يريد هذا كما قال الله سبحانه : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ
فلا يليق بطالب العلم أن ينزوي ويقول : حسبي نفسي ، لا ، فإن عليه واجبات.. حسبه نفسه من جهة عمله أن يعمل.. وعليه واجبات من جهة البلاغ والبيان والدعوة فربنا يقول سبحانه : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ويقول سبحانه : وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ فالله سبحانه يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة ، وأمره له أمر لنا جميعا ، ليس المقصود له وحده عليه الصلاة والسلام.. فإذا وجه له الأمر فليس له وحده بل هو له ولنا ولأهل العلم جميعا إلا ما خصه الدليل به.
فعليك يا عبد الله أن تبتعد عن الخمول والانزواء وأن تبلغ أمر الله إلى عباد الله ، وعليك أيضا أن تنصح من استطعت نصيحته في كل مكان : أمير القرية ، وعالم القرية ، وقاضي القرية ، وعريف القرية ، ومن له شأن في القرية ، وفي المدينة وفي القبيلة وفي كل مكان تتصل به اتصالا حسنا ، وتناصحه وتوجهه إلى الخير ، وتتعاون معه على البر والتقوى بالأساليب الحسنة ، بالعظة والتذكير بالكلام الطيب ، بالرفق لا بالعنف.
وهكذا مع الإمام الأعظم في الدولة ، ومع الوزراء في مسئولياتهم ، ومع القضاة ومع الدعاة ومع إخوانك في الله جميعا تتعاون معهم.
هكذا يكون طالب العلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أخرجه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم
وقال عليه الصلاة والسلام : نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أدَّاها كما سمعها فرب مبلِّغ أوعى من سامع وفي لفظ : رب حامل فقه ليس بفقيه وفي لفظ : ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال في إحدى خطبه عليه الصلاة والسلام : فليبلّغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع والناس بخير ما تعاونوا على البر والتقوى ، مع ملوكهم وأمرائهم ، ومع قضاتهم ومع الدعاة إلى الله ، وجميع المسلمين ، لكن مع مراعاة الأساليب الحسنة ، والرفق والحكمة ، وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من يحرم الرفق يحرم الخير كله رواه في الصحيح عن جرير بن عبد الله ، وعن عائشة رضي الله عنهما.
وفي رواية له عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح : إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه
ويكفي في هذا قول الله سبحانه : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقول الله تبارك وتعالى : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون يقول الله سبحانه لهما : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
وأسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه ، وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم ، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع ، والعمل به ، والتأدب بالآداب الشرعية ، والخلق العظيم ، الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام ، ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام : من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة فالأمر في طلب العلم عظيم ، والخطب في التفقه في الدين كبير.. ولنذكر أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه ، وهذا الحديث العظيم يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا ، ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فذلك مخذول لم يرد الله به خيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه ، وأن يتوفانا مسلمين ، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، وأن يول عليهم خيارهم ، ويصلح قادتهم ، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى ، وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه ، والعمل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .. والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد.

الأسئلة


السؤال الأول : مما يشاع بين طلاب العلم وخاصة في الكليات والمؤسسات العلمية قولهم : العلم ذهب مع أهله ، وأنه لا يوجد أحد يتعلم في المؤسسات العلمية إلا من أجل الشهادات والدنيا ، فبماذا يرد عليهم ، وما الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه؟
الجواب : هذا الكلام ليس بصحيح ، ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام وأمثاله ، ومن قال : هلك الناس فهو أهلكهم.
ولكن ينبغي التشجيع والتحريض على طلب العلم ، والتفرغ لذلك ، والصبر والمصابرة على ذلك ، وحسن الظن بطلبة العلم ، إلا من علم منه خلاف ذلك. ولما حضرت المنية معاذا - فيما يذكر - أوصى من حوله بطلب العلم ، وقال : (إن العلم والإيمان مكانهما من أرادهما وجدهما) يعني : مكانها في كتاب الله العظيم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين.. وإنما العالم يقبض بعلمه.. فالعلم يقبض بموت العلماء ، لكن لا تزال بحمد الله طائفة على الحق منصورة. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا رواه البخاري في صحيحه. وهذا هو الذي يخاف منه ، يخاف أن يتقدم للإفتاء والتعليم الجهلة ، فيَضلون ويُضلون ، وهذا الكلام الذي يقال : ذهب العلم ، ولم يبق إلا كذا وكذا ، يخشى منه التثبيط لبعض الناس ، وإن كان الحازم والبصير لا يثبطه ذلك ، بل يدفعه إلى طلب العلم ، حتى يسد الثغرة. والفاهم المخلص ، والصادق البصير بمثل هذا الكلام لا يثبطه ذلك ، بل يتقدم ويجتهد ، ويثابر ويتعلم ويسارع لشدة الحاجة للعلم ، وليسد الثغرة التي زعمها هؤلاء القائلون : إنه لم يبق أحد ، والحاصل أنه وإن نقص العلم وذهب أكثر أهله ،
فإنه ولله الحمد لا تزال طائفة على الحق منصورة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله فعلينا أن نجتهد في طلب العلم ، وأن نشجّع عليه ، وأن نحرص على سد الثغرة ، والقيام بالواجب في مصرنا وغيره ، عملا بالأدلة الشرعية المرغبة في ذلك ، وحرصا على نفع المسلمين ، وتعليمهم ، كما ينبغي أن نشجع على الإخلاص والصدق في طلب العلم ، من أراد الشهادة ليتقوى بها على تبليغ العلم ، والدعوة إلى الخير ، فقد أحسن في ذلك ، وإن أراد المال ليتقوى به فلا بأس أن يدرس ليتعلم وينال الشهادة التي يستعين بها على نشر العلم ، وأن يقبل الناس منه هذا العلم ، وأن يأخذ المال الذي يعينه على ذلك ، فإنه لولا الله سبحانه ثم المال لم يستطع الكثير من الناس التعلم وتبليغ الدعوة. فالمال يساعد المسلم على طلب العلم ، وعلى قضاء حاجته ، وعلى تبليغه للناس ، ولما ولي عمر رضي الله عنه أعمالا ، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا ، قال : أعطه من هو أفقر مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خذ هذا المال فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك خرجه مسلم في صحيحه. وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم.
ورغبهم حتى دخلوا في دين الله أفواجا ، ولو كان حراما لم يعطهم ، بل أعطاهم قبل الفتح وبعده. وفي يوم الفتح أعطى بعض الناس على مائة من الإبل ، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام ، ترغيبا في الإسلام ودعوة إليه. وقد جعل الله سبحانه للمؤلفة قلوبهم حقا في الزكاة ، وجعل في بيت المال حقا لهم ولغيرهم من المدرسين والقضاة ، وغيرهم من المسلمين. والله ولي التوفيق.

السؤال الثاني : لقد ظهر بين الشباب ظاهرة ألا وهي أنهم يقولون لا نتبع شيئا من المذاهب الأربعة ، بل نجتهد مثلهم ، ونعمل مثلما عملوا ولا نرجع إلى اجتهادهم. فما رأيكم في هذا وما نصيحتك لهؤلاء؟
الجواب : هذا الكلام قد يستنكر بالنسبة لبعض الناس. ولكن معناه في الحقيقة لمن تأهل صحيح ، فلا يجب على الناس أن يقلدوا أحدا ، ومن قال : إنه يجب تقليد الأئمة الأربعة فقد غلط ، إذْ لا يجب تقليدهم ، ولكن يستعان بكلامهم وكلام غيرهم من أئمة العلم ، وينظر في كتبهم رحمهم الله ، وما ذكروا من أدلة ، ويستفيد من ذلك طالب العلم الموفق ، أما القاصر فإنه ليس أهلا لأن يجتهد ، وإنما عليه أن يسأل أهل الفقه ، ويتفقه في الدين ، ويعمل بما يرشدونه إليه ، حتى يتأهل ويفهم الطريق التي سلكها العلماء ، ويعرف الأحاديث الصحيحة والضعيفة ، والوسائل لذلك في مصطلح الحديث ، ومعرفة أصول الفقه. وما قرره العلماء في ذلك ، حتى يستفيد من هذه الأشياء ، ويستطيع الترجيح فيما تنازع فيه الناس.
أما ما أجمع عليه العلماء فأمره ظاهر ، وليس لأحد مخالفته ، وإنما النظر لأهل العلم فيما تنازع فيه العلماء.
والواجب في ذلك رد مسائل النزاع إلى الله ورسوله ، كما قال الله تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية.
وقال تعالى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أما أن يجتهد وهو لا يستطيع ذلك ، فهذا من الأغلاط الكبيرة ، ولكن يسعى بالهمة العالية في طلب العلم ، ويجتهد ويتبصّر ، ويسلك مسالك أهل العلم.
فهذه هي طرق العلم في دراسة الحديث وأصوله ، والفقه وأصوله ، واللغة العربية وقواعدها ، والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.
فيستعين بهذه الأمور على ترجيح الراجح في مسائل الخلاف ، مع الترحم على أهل العلم ، ومع السير على منهجهم الطيب ، والاستعانة بكلامهم وكتبهم الطيبة ، وما أوضحوه من أدلة وبراهين في تأييد ما ذهبوا إليه ، وتزييف ما ردوه.
وبذلك يوفق طالب العلم لمعرفة الحق إذا أخلص لله ، وبذل وسعه في طلب الحق ، ولم يتكبر.. والله سبحانه ولي التوفيق.
السؤال الثالث : ينفر كثير من طلبة العلم من المناصب الدينية فما هو السبب ، وهل من نصيحة للحضور ، كما يلاحظ أن كثيرا من الطلبة في كليات الشريعة ، يبحث بشتى الطرق للتخلص من القضاء ، فما نصيحة فضيلتكم لهم؟
الجواب : المناصب الدينية من القضاء والتعليم والفتوى والخطابة ، مناصب شريفة ومهمة ، والمسلمون في أشد الحاجة إليها. وإذا تخلى عنها العلماء تولاها الجهال ، فضلوا وأضلوا.
فالواجب على من دعت الحاجة إليه من أهل العلم والفقه في الدين أن يمتثل؛ لأن هذه الأمور من القضاء والتدريس والخطابة والدعوة إلى الله وأشباه ذلك من فروض الكفايات ، فإذا تعينت على أحد من المؤهلين وجبت عليه ، ولم يجز له الاعتذار منها والامتناع. ثم لو قدّر أن هناك من يظن أنه يكفي ، وأنها لا تجب عليه هذه المسألة ، فينبغي له أن ينظر الأصلح ، كما ذكر الله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام ، أنه قال لملك مصر :
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ لما رأى المصلحة في توليه ذلك ، طلب الولاية ، وهو نبي ورسول كريم ، والأنبياء هم أفضل الناس ، طلبها للإصلاح : يصلح أهل مصر ، ويدعوهم إلى الحق.
فطالب العلم إذا رأى المصلحة في ذلك طلب الوظيفة ورضي بها قضائية أو تدريسا أو وزارة أو غير ذلك. على أن يكون قصده الإصلاح والخير ، وليس قصده الدنيا ، وإنما يقصد وجه الله ، وحسن المآب في الآخرة ، وأن ينفع الناس في دينهم أولا ، ثم في دنياهم ، ولا يرضى أن يتولى المناصب الجهال ، والفساق ، فإذا دعي إلى منصب صالح يرى نفسه أهلا له ، وأن فيه قوة عليه ، فليجب إلى ذلك ، وليحسن النية ، وليبذل وسعه في ذلك ولا يقل أخشى كذا ، وأخشى كذا.
ومع النية الصالحة والصدق في العمل يوفق العبد ويعان على ذلك ، إذا أصلح الله نيته وبذل وسعه في الخير وفقه الله.
ومن هذا الباب حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي ، أنه قال : يا رسول الله : اجعلني إمام قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح. فطلب رضي الله عنه إمامة قومه للمصلحة الشرعية ، ولتوجيههم للخير ، وتعليمهم وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، مثلما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام.
قال العلماء : إنما نهي عن طلب الإمرة والولاية إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك ، لأنه خطر كما جاء في الحديث النهي عن ذلك ، لكن متى دعت الحاجة والمصلحة الشرعية إلى طلبها جاز ذلك ، لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام ، وحديث عثمان رضي الله عنه المذكور.
السؤال الرابع : من أكبر المشكلات التي يعاني منها طالب العلم مشكلة انصراف المجتمع عنه ، وعن علمه ، فهو لا يشعر بمكانه المناسب له في المجتمع ، لأن المجتمع المادي في هذا العصر لا يقيس الأشخاص إلا بمقدار الكسب المادي الحاصل من أي عمل فما هو العلاج في نظر فضيلتكم؟ و كيف يعمل طالب العلم هل يكون في مجتمع خاص يستطيع أن يتعلم ويعيش فيه ، أم ماذا يصنع ؟ أرجو أن تقدموا لنا النصيحة التي استفدتموها عن شيوخكم. واستفادها شيوخكم عن شيوخهم؟
الجواب : هذا الذي قاله السائل ليس بصحيح ، ولكن الصحيح أن العلم يقدم أهل العلم ، ويرفع أهله في كل مجتمع.. فلو ذهب إلى أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو أي مكان لرفعه علمه بين الأقليات الإسلامية ، وبين من يدعوهم إلى الله على بصيرة من نفس المشركين ، لأنهم سينقادون إلى الحق إذا عرفوه بأدلته الواضحة ، وبأخلاق أهله الكريمة.
فالإسلام هو دين الفطرة ، وهو دين العدالة والأخلاق ، ودين القوة ، ودين النشاط ، ودين المواساة ، ودين كل فضيلة. فطالب العلم الذي يسير على بصيرة ، يعرف الأدلة الشرعية ، ويعرف أحكام الإسلام ، ويعمل بها ، مرفوع الرأس أينما كان ، ومحترم أينما حل ، ولا سيما بين جماعته وأهل بلده إذا عرفوا منه العلم والنصح ، والصدق وعدم العجلة ، التي ليس لها ما يبررها ، بل يكون طبيبا حكيما ، يدعو إلى الله بالحكمة والرفق.
فهذا مرفوع الرأس ، ومحترم أينما كان : في قرية أو قبيلة ، أو غير ذلك إذا كان متخلقا بالعلم قولا وعملا ، مبتعدا عن أخلاق الفسّاق ، والمجرمين. فإن هذا وأمثاله محبوب عند الله ، وعند عباده الصالحين ، ما دام يعلم ويعمل ، وينصح إخوانه ، ويعطف عليهم ، ويحرص على نفعهم بعلمه ، وأخلاقه ، وماله ، وجاهه. كما فعل الأنبياء والصالحون.
والقول بأن طالب العلم لا محل له في المجتمع ، ولا يلتفت إليه قول في عمومه باطل غير موافق للواقع كما بيّنا.
فطالب العلم البصير بدينه الناصح لله ولعباده مرفوع الرأس ، ومحترم أينما كان في الطائرة وفي القطار وفي البر والبحر ، وفي أي مكان إذا أخلص لله ، وأظهر العلم والدعوة إلى الله ، وأحسن إلى الناس بالرفق والكلام الطيب فله البشرى والعاقبة الحميدة ، والثناء الحسن من المجتمع ، والأجر العظيم من الله عز وجل ، كما قال تعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وكما قال سبحانه : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ وقال جل وعلا يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم : فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ثم لو قدّر أن بعض الدعاة إلى الله لم يحصل مطلوبة ، بل أوذي وامتحن ، أليس له قدوة في الرسل الذين أوذوا وامتحنوا وأهانهم الناس بل قتلوا بعضهم؟ فلطالب العلم أسوة فيهم ، عليهم الصلاة والسلام وفي تحملهم وصبرهم. ولو فرضنا أن طالب العلم ما وجد الاحترام بين الناس ، فإن ذلك لا يضره ، لأنه لم يطلب العلم لهذا ، وإنما طلب العلم لإنقاذ نفسه من الجهالة ، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فإن قبلوا منه ، ورفعوا مكانته فالحمد لله ، وإلا فهو على خير ، ولو قتلوه أو أهانوه ، فله أسوة بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وبخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد أوذي وأخرج من بلاده مكة إلى المدينة.
فالداعي إلى الله سبحانه الصادق المخلص له البشرى بالخير والعزة والكرامة ، وحسن العاقبة ، إذا سلك الطريق السوي. وكان على خلق عظيم وهدى وسيرة حميدة ، من غير عنف ولا شدة ، ولا دخول فيما لا يعنيه ، فإنه على خير عظيم ، كما حصل للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولخاتمهم وأفضلهم ، وإمام الدعاة والمجاهدين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ما حصل للتابعين لهم بإحسان..
والله ولي التوفيق.
السؤال الخامس : نجد في هذا الزمان فجوة بين العلماء وبين طلاب العلم ، وعموم المجتمع ، وهذه الفجوة تعتبر مشكلة من المشكلات.. فما هي الحلول التي تراها لهذه المشكلة؟
الجواب : الفجوة تنشأ عن انحراف الطالب أو انحراف العالم الذي ينسب إلى العلم ، فإذا كان الطالب رديئا في الصلاة ، أو يتظاهر بالمعاصي ، أو بالعجلة والشدة ، كرهه العلماء ، وكرهه الأخيار ، فلم يفرحوا بطلبه. وكذلك العالم الفاسق ، والعالم المعرض ، يكرهه الطلبة الطيبون والمجتهدون في الدعوة إلى الخير ، الراغبون في الأجر ، فيكون بينهم فجوة ، أما العلماء الصالحون ، والطلاب الصالحون ، فليس بينهم فجوة أبدا ، بل بينهم التعاون الصادق في كل خير.
ولكن الفجوة بين المنحرف الذي يدعي العلم ، وهو مع الفساق والمدخنين ، ومع شراب الخمر ، ومع المنحرفين عن الصلاة ، وأشباه ذلك.
فمن يحب هذا ، ومن يقبل منه وهذه أخلاقه ، فهو يحتاج إلى دعوة ونصيحة ، وعناية وصبر ومصابرة ، حتى يستقيم.
فالفجوة جاءت من جهته هو ، الذي بعد بأقواله وأعماله عن أهل العلم ، وسيرتهم الحميدة ، والعالم الذي لا يمثل علمه بالتقوى والسيرة الحميدة ، بل هو مع الخرافيين ، ومع عباد القبور ، ومع الخمارين ، ومع أشباههم ليس بعالم ، ولا يستحق التقدير ، بل يستحق أن يجفوه أهل العلم النافع ، والطلبة الصالحون ، حتى يرجع إلى الحق ، ويستقيم مع أهل الحق.
ولا شك أن طلبة العلم يمقتونه ، ولا يفرحون بقربه لسوء سيرته ، بل تسرهم الفجوة التي تكون بينهم وبينه ، لعدم الفائدة منه ، ولضرره على المجتمع ، وعلى طلبة العلم ، فهو بحاجة إلى أن يدعى إلى الله وينصح ، حتى ينفعه علمه ، وحتى ينفع الناس أيضا.
والواجب على الجميع التعاون على البر والتقوى ، بصدق وإخلاص ، والاستقامة على أمر الله ، والحرص على ما يبعد الشحناء ، وما يضيّق الفجوة بينهم ، وذلك بالعلم النافع والعمل الصالح ، والسيرة الحميدة والصبر على ذلك والله الموفق.

السؤال السادس : ما معنى قولك حفظك الله ، على طالب العلم أن يجتهد ، وهل
كل واحد منا مهيأ لذلك وما موقفنا من مذاهب الأئمة الأربعة التي انتشرت في البلاد ، وبين العباد ، وقلدها الكثير في كل مكان وزمان؟
الجواب : على طالب العلم أن يجتهد حسب طاقته : المبتدئ يجتهد في الاستمرار في طلب العلم ، ويحرص على أن يكون أهلا للترجيح في المسائل الخلافية ، وعلى طالب العلم المتأهل الذي رزقه الله العلم ، وتخرج من الدراسات العليا ، ونظر في الكتب ، وعرف أقوال الناس أن يجتهد في ترجيح الراجح ، وتزييف الزائف بالأدلة الشرعية والصبر والمطالعة.
فالعلم ليس بالسهل ، العلم يحتاج إلى صبر ومصابرة ، ومراجعة الأحاديث التي تتعلق بموضوع البحث ، فقد تمكث أياما كثيرة ما وجدت الحديث الذي تريد أو ما قدرت على تكوين رأي فيه من جهة صحته أو ضعفه.
وهكذا مراجعة كلام أهل العلم. وترجيح الراجح يحتاج إلى صبر ونظر في الأدلة ، فالاجتهاد معناه بذل الجهد في تحصيل العلم والترقي فيه ، حتى تكون من أهله العارفين بالأحكام الشرعية ، ومواقف أهل العلم في المسائل الخلافية ، وأن تقف في ذلك موقف الناصح والمحب لهم ، المترضي عنهم الذي يعرف أقدارهم وما يبذلون من جهود في تحصيل العلم ونشره بين الناس ، والاستفادة من كلامهم وعلومهم ، وعدم سبهم وكراهتهم ، أو إظهار الانتقاد على سبيل التنقص لهم ، وعدم الفائدة منهم ، وما أشبه ذلك.
فطالب العلم ، يعرف قدر من قبله ، وما ألفوا وما جمعوا ، ونصحهم لله ولعباده ، ويستفيد من كلامهم ، وليس معناه أن يقلدهم في الحق والباطل ، بل يعرف الحق بدليله.. قال مالك رحمه الله : (ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال الشافعي رحمه الله : (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس).
وقال رحمه الله : (إذا قلت قولا يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط) ، وهكذا قال أحمد وأبو حنيفة : معنى ما قاله مالك والشافعي رحم الله الجميع.
وهكذا قال غيرهم من الأئمة كلهم نصحوا الناس ، وأوصوهم باتباع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، وألا يقدم على قول الله ورسوله قول أحد من الناس ، بل يجب أن يقدم قول الله ، وقول رسوله وما أجمع عليه سلف الأمة على من خالف ذلك.
هذا هو موقف العلماء المعتبرين ، وهذا هو موقف طالب العلم منهم ، حتى ينشأ على أخلاقهم ، في تقديم قول الله ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، وترجيح الراجح بالأدلة ، واحترام العلماء ، ومعرفة أقدارهم ، والترضي عنهم ، والترحم عليهم.
أما علماء السوء من الجهمية والمعتزلة وأشباههم فهؤلاء يجب أن يمقتوا ، ويبغضوا في الله ، وأن يحذر الناس من شرهم وأعمالهم القبيحة ، وعقائدهم الباطلة ، نصحا لله ولعباده ، وعملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والله الموفق.
السؤال السابع : ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة التي تتردد على ألسنة كثير من طلبة العلم وهي من كان شيخه كتابه ضل عن صوابه ؟
الجواب : المعروف : أن من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه هذه هي العبارة التي نعرفها.
وهذا صحيح : أن من لم يدرس على أهل العلم ، ولم يأخذ عنهم ، ولا عرف الطرق التي سلكوها في طلب العلم ، فإنه يخطئ كثيرا ، ويلتبس عليه الحق بالباطل ، لعدم معرفته بالأدلة الشرعية ، والأحوال المرعية التي درج عليها أهل العلم ، وحققوها وعملوا بها.
أما كون خطئه أكثر فهذا محل نظر ، لكن على كل حال أخطاؤه كثيرة ، لكونه لم يدرس على أهل العلم ، ولم يستفد منهم ، ولم يعرف الأصول التي ساروا عليها فهو يخطئ كثيرا ، ولا يميز بين الخطأ والصواب في الكتب المخطوطة والمطبوعة.
وقد يقع الخطأ في الكتاب ولكن ليست عنده الدراية والتمييز فيظنه صوابا ، فيفتي بتحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، لعدم بصيرته ، لأنه قد وقع له خطأ في كتاب ، مثلا : لا يجوز كذا وكذا ، بينما الصواب أنه يجوز كذا وكذا ، فجاءت لا زائدة أو عكسه : يجوز كذا وكذا والصواب : ولا يجوز فسقطت لا في الطبع أو الخط فهذا خطأ عظيم.
وكذلك قد يجد عبارة : ويصح كذا وكذا ، والصواب : ولا يصح كذا وكذا ، فيختلط الأمر عليه لعدم بصيرته ، ولعدم علمه ، فلا يعرف الخطأ الذي وقع في الكتاب ، وما أشبه ذلك.
السؤال الثامن : إذا سئل شخص عن مسألة فأفتى فيها وبعد مدة تبيّن له أن ما أفتى به غير صحيح فماذا عليه أن يفعل ؟
الجواب : عليه أن يرجع إلى الصواب ، ويفتي بالحق ، ويقول أخطأت ، كما قال عمر : الحق قديم ، فعليه أن يرجع إلى الصواب ، ويفتي بالحق ، ويقول أخطأت في المسألة الأولى : أفتيت بكذا وكذا ، ثم اتضح لي أنها خطأ ، والصواب كذا وكذا. ولا بأس عليه في ذلك ، بل هذا هو الواجب عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رأس المفتين ، لما سأله الناس عن التلقيح ، وهو تأبير النخل ، قال : ما أظنه يضره لو ترك ، ثم أخروه بأنه يضره : فقال : إنما أخبرتكم عن رأيي والرأي يخطئ ويصيب أما ما أحدثكم به عن الله فإني لن أكذب على الله وأمرهم أن يرجعوا إلى التلقيح.
كذلك عمر رضي الله عنه أفتى بإسقاط الإخوة في مسألة المشرَّكة ، ثم أفتى بالتشريك بناء على ما ترجح لديه في ذلك.
فالرجوع إلى ما يعتقد العالم أنه الصواب والحق أمر معروف ، وهو طريق أهل العلم والإيمان ، ولا حرج في ذلك ولا نقص بل ذلك يدل على فضله ، وقوة إيمانه ، حيث رجع إلى الصواب وترك الخطأ.
ولو قال بعض الناس أو بعض الجهلة : إن هذا عيب ، فهذا ليس بشيء ، والصواب أنه فضل وأنه منقبة وليس بنقص.
السؤال التاسع : أنا طالب علم ، كثيرا ما توجه إليَّ المسائل عن أمر من الأمور ، سواء في العبادة أو غيرها ، فأعرف الإجابة جيدا ، إما عن سماع أحد المشايخ ، أو في الفتاوى ، ولكن يصعب عليّ استحضار الدليل الصحيح فقد يصعب علي ترجيحه فبماذا توجهون طلبة العلم في ذلك ؟
الجواب : لا تفتي إلا على بصيرة ، وأرشدهم إلى غيرك ممن تظن في البلد أنه خير منك وأعلم بالحق ، وإلا فقل أمهلوني حتى أراجع الأدلة وأنظر في المسألة ، فإذا اطمأننت إلى الصواب بالأدلة ، فأفتهم بما ظهر لك من الحق.
وأوصي المدرسين لأجل هذا السؤال وغيره : أن يعنوا بتوجيه الطلبة إلى هذا الأمر العظيم ، وأن يحثوهم على التثبت في الأمور ، وعدم العجلة في الفتوى والجزم في المسائل إلا على بصيرة ، وأن يكونوا قدوة لهم في ذلك بالتوقف عما يشكل والوعد
بالنظر فيه بعد يوم أو يومين ، أو في الدرس الآتي ، حتى يتعود الطالب ذلك من الأستاذ بعدم العجلة في الفتوى والحكم ، إلا بعد التثبت والوقوف على الدليل ، والطمأنينة إلى أن الحق ما يقوله الأستاذ ، ولا حرج أن يؤجل إلى وقت آخر ، حتى يراجع الدليل ، وحتى يراجع كلام أهل العلم في ذلك.
فقد أفتى مالك في مسائل قليلة ، وردّ مسائل كثيرة ، قال فيها : لا أدري. وهكذا غيره من أهل العلم.
فطالب العلم من مناقبه أن لا يعجل ، وأن يقول لا أدري فيما يجهل.
والمدرسون عليهم واجب عظيم ، بأن يكونوا قدوة صالحة ، في أخلاقهم وأعمالهم للطلبة ، ومن الأخلاق الكريمة أن يعود الطالب كلمة لا أدري ، وتأجيل المسائل. حتى يفهم دليلها وحتى يعرف حكمها. مع التحذير من الفتوى بغير علم ، والجرأة عليها..
والله ولي التوفيق.