يبدو أن ظاهرة القصص بدأ ت مبكرة في تاريخنا , فقد جاء كل من تميم الداري رضي الله عنه , وهو صحابي متوفي سنة 40ه والحارث ابن معاوية الكندي , وهو مختلف في صحبته , عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنانه في القصص , فأبى أن يأذن لهما وحذرهما ... ثم اشترط على تميم بعد الحاحه في الاستئذان أن يتكلم في موضوعات معينة وفي وقت محدد.
وعندما ظهر عددمن القصاص ارتفعت أصوات عدد من الصحابة في استنكار هذا الأمر وكشف دوافعه التي تتلخص في :
ابتغاء الشهرة ،وكسب المال ، والحصول على الجاه ، حتى استعان بعض الصحابة برجال الشرطة لطردهم من المسجد، وهذا- دون شك – يدل علىعمق في النظرة عندهم رضي الله عنهم ، لان التحدث الى الناس في امور الدين ودعوتهم الى التحلي بفضائله في مجتمع يقوم على الدين يعطي المتحدث قوة وجاها وسلطانا، والنفس الانسانية مفطورة على حب الذات والرغبة في اكتساب الجاه والسلطان فان لم تكن مخافة الله عاصمة للمرء من ان يبتغي بمثل هذا الحديث عرض الدنيا انساق الى قول الزور واسترضاء العامة ولو كان ذلك مخالفا للحق والشرع والعياذ بالله .. وهذا ما حصل لكثير من القصاص فيما بعد.
وهناك آثار عدة تحكي لنا مواقف الصحابة والتابعين من هؤلاء القصاص وتوالى على مهمة الانكار تابعوا التابيعن والعلماء العاملون في كل عصر.
وقد تعرض بعض العلماء في عصور مختلفة الى مضايقات هؤلا ءالقصاص , وقدتفاقم أمرهم واثروا أثرا واضحا
في نشر الاحاديث الضعيفة والموضوعة بين العامة . وكان التصوف يمد القصاص بالخرافات والأباطيل وكذلك فقد كانت الاسرائيليات مصدرمن مصادرالقصاص .
ومما يؤسف أن بعض هؤلاء القصاص كانوا يعبثون بالناس ويسخرون منهم كما ذكر الجاحظ عن أبي كعب القاص وكما ذكر أبو الفرج عن كلثوم بن عمرو .
ويبدو أن نفرا منهم كان يتدخل في الشؤون العامة حتى كان بعضهم سببا في فتنة فمنعوا من الجلوس ومن الكلام , ثم سمح لهم بمعاودة نشاطهم بعد أن أخذت عليهم العهود بعدم التعرض لما يثير القلاقل .
وامام هذه القوة العارمة للقصاص آثر فريق ممن ينتسبون الى العلم السلامة فسكتوا خوفا من القصاص وايثارا للعافية ... بل حمل ذلك بعضهم على تأييد الباطل ... وكانت ظاهرة المجاملة اكثر وضوحا في الازمان المتأخرة ، حتى اصبحت مهمة هؤلاء – مع الاسف- كانها مقصورة على تلمس المعاذير لهم ، وتكلف التأويلات للكلمات المنكرة التي قد يروونها عن الصوفية ولتصرفاتهم الشادة ...ولكن يابى الله الأّ ان يقوم في كل عصر . عدد من العلماء الصادقين والدعاة المجاهدين ينكرون المنكر ، ويكشفون زيف الدجالين .
ومن اهم آثارهم السيئة وضعهم الحديث او نشرهم الموضوع واذاعته ببيان مشرق ومقدرة على الكلام بالغة .. لقد شوهوا السنة المرفوعة الى النبي صلى الله عليه وسلم في اذهان الناس اذ ادخلوا فيها كثيرا من الخرافات والاباطيل مما يحيل العقل وقوعه ومما يتعارض مع اصول الشريعة المطهرة . ولو نظرنا الى الاحاديث الموضوعة لوجدنا ان نصيب القصاص في اختلاقها كان كبيرا ، وهذا امر طبيعي ، لان هذا القص المستمر يتطلب مادة كثيرة وجديدة ، فكانوا مدفوعين لذلك دفعا .
ان عددا كبيرا من هؤلاء القصاص اتخذ القصص مهنة له يعيش من عمله فيها ، ولم يكن خوف الله متوافرا عندهم ، ومن هنا غدت هذه المهنة وسيلة للكسب يسعى صاحبها وراء رزقه ، ولذلك نراه يسارع في ابتغاء مرضات العوام ، فهو حريص على رضاهم واعجابهم ، وليس حريصا على تقويمهم ولا تعليمهم .
والعامة ابدا وفي كل عصر يولعون بالغريب ، ويعجبون بالخرافة ... ويستمتعون بالغرائب والعجائب ، حتى اضحى القاص كالمغني الذي لا هم له الأّ اطراب السامعين ... وهكذا كانت دوافع المبالغة والكذب عند القصاصين قوية ليجدوا المادة التي تجلب السامعين وعطاياهم ، وليكتسبوا في كثير من الاحيان ثقة الحكام ورضاهم ، مما يمنحهم حصانة تحول دون انتقاد العلماء الواعين لهم.
ذكر السيوطي في " اللالىء المصنوعة ":
ان هارون الرشيد لما قدم المدينة اعظم ان يرتقي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة، فقال ابو البختري – وهو قاص كذاب – حدثني جعفر بن محمد عن ابيه عن جابر ان جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة فتحجر فيها تحجيرا .
ومن المفاسد التي كانت تحدث بسسبب القصاص اختلاط الرجال بالنساء ، فقد ذكروا ان هؤلاء القصاص كانوا يقصون في الطرقات والمساجد ، فيجتمع الرجال والنساء فيرفعون اصواتهم بالدعاء ويمدون ايديهم وكان هذا الحال هو سبب انتقاد العلماء لهم ، وكانوا يسلكون في معاملة العوام مسلك المحتالين والمشعوذين ، حتى ينالوا اعطياتهم ومنحهم ، وكانوا يجمعون مالا كثيرا ، ولا يبالون بالذين ينتقدونهم ، ويأتون بالاساطير والخرافات والنوادر المضحكات ، والاحاديث الموضوعة ، يقولون ما ليس لهم به علم.
اخرج ابو شيبة زهير بن حرب في " كتاب العلم " عن مسروق قال : كنا عند عبدالله جلوسا وهو مضطجع ، فاتاه رجل فقال : يا ابا عبدالرحمن ان قاصا عند ابواب كندة يزعم ان آية الدخان تجيء فتأخذ بانفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام .
فقال عبدالله - فجلس وهو غضبان - :
يايها الناس ! اتقوا الله ، فمن علم منكم شيئا فليقل بما يعلم ، ومن لا يعلم فليقل : الله اعلم .فانه اعلم لاحدكم ان يقول لما لايعلم : الله اعلم فان الله تعالى قال لنيه عليه السلام :
( قل ما اسالكم عليه من اجر وما انا من المتكلفين ).
ومن المفاسد ما اشار اليه ابن الاخوة في " معام القربة " حيث يقول :
وفي زماننا هذا لا يطلب الواعظ الاّ لتمام شهر ميت ، او لعقد نكاح ، او لاجتماع هذيان ، ولا يجتمع الناس عنده لسماع موعظة او لفائدة ، وانما صار ذلك من الفرح واللعب والاجتماع ، ويجري في المجلس امور لا تليق : من اجتماع الرجال والنساء ورؤية بعضهم لبعض واشياء لا يليق ذكرها . وهذا من البدع المضلة.
ان من اشد الناس اساءة للدين هم اولئك الذين يستغلونه لمنافعهم ومصالحهم . فهم على الرغم من حملهم لشعارات دينية مستعدون الاستعداد كله ليضعوا هذا الدين العظيم في خدمة رجل او دولة او مخططات ان كان في ذلك نفع لهم .
ومن هنا غدت الحاجة ملحة لفضح هؤلاء الدجالين وتحذير الناس منهم بالحكمة والاسلوب المناسب .
وقد كانوا في احقاب من التاريخ سببا في قيام بعض الاضطرابات بين اهل السنة والفرق المنحرفة عندما يشحنون العامة بما يثيرهم .
كل هذا يدل على اثرهم الفعال في المجتمع واستجابة العامة لما يطلبه هؤلاء القصاص منهم على نحو ما فعل العامة من ايذاء بابن جرير والشعبي والسيوطي وليس من شك في ان اثرهم الديني والخلقي كان كبيرا ولقد لاقى كلامهم رواجا عند الدهماء وكان اشد استهواء لهم من كلام العلماء الجاد الرصين.
فالحذر الحذر........