الفُرْقَان
بين أولياء الله
وأولياء الشيطان



لشيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى









بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .
أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأرشد به من الغي وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي والمؤمنين والكفار .
والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار وبين أولياء الله وأعداء الله فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أولياء الشيطان .
وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس وللشيطان أولياء ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { الذين آمنوا وكانوا يتقون } { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم } وقال تعالى { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } { ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقال تعالى { هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا } .
وذكر " أولياء الشيطان " فقال تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } وقال تعالى { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } وقال تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } وقال تعالى { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } . وقال تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } وقال تعالى { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } إلى قوله { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } وقال تعالى { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وقال الخليل عليه السلام { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } الآيات إلى قوله { إنك أنت العزيز الحكيم } .
فصل
وإذا عرف أن الناس فيهم " أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يقول الله : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة - أو فقد آذنته بالحرب - وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي . ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } وهذا أصح حديث يروى في الأولياء فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة .
وفي حديث آخر { وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب } أي آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا بما يسخط وأمروا بما يأمر ونهوا عما نهى وأعطوا لمن يحب أن يعطى ومنعوا من يحب أن يمنع كما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله } وفي حديث آخر رواه أبو داود قال { ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان } .
و " الولاية " ضد العداوة وأصل الولاية المحبة والقرب وأصل العداوة البغض والبعد . وقد قيل : إن الولي سمي وليا من موالاته للطاعات أي متابعته لها والأول أصح . والولي القريب فيقال : هذا يلي هذا أي يقرب منه . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم { ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر } أي لأقرب رجل إلى الميت . وأكده بلفظ " الذكر " ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيها الذكور والإناث كما قال في الزكاة { فابن لبون ذكر } . فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه كان المعادي لوليه معاديا له كما قال تعالى : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } فمن عادى أولياء الله فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه فلهذا قال { ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة } .
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم وأفضل المرسلين أولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } { ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما } .
وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ؛ فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه - يعني يوم الجمعة - فهدانا الله له : الناس لنا تبع فيه غدا لليهود وبعد غد للنصارى } . وقال صلى الله عليه وسلم { أنا أول من تنشق عنه الأرض } وقال صلى الله عليه وسلم { آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت . فأقول أنا محمد فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك . } .
وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله ؛ بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } قال الحسن البصري رحمه الله ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه . قال تعالى : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } الآية . وقال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم } إلى قوله { ولا هم يحزنون } . وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى { قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون } { مستكبرين به سامرا تهجرون } وقال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك } إلى قوله { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون .
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا من غير سر : { إن آل فلان ليسوا لي بأولياء - يعني طائفة من أقاربه - إنما وليي الله وصالح المؤمنين } وهذا موافق لقوله تعالى { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } الآية . وصالح المؤمنين هو من كان صالحا من المؤمنين وهم المؤمنون المتقون أولياء الله . ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة } ومثل هذا الحديث الآخر : { إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا } .
كما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله وليس وليا لله ؛ بل عدو له فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه مرسل إلى جميع الإنس ؛ بل إلى الثقلين الإنس والجن ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك مثل ألا يقروا في الباطن بأنه رسول الله وإنما كان ملكا مطاعا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه ؛ بل لهم طريق إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها أو لم يكن يعرفها أو هم أعرف بها منه أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته .
وقد يقول بعض هؤلاء : إن " أهل الصفة " كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم ومنهم من يقول : إن الله أوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج فصار أهل الصفة بمنزلته وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة كما قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة وكانت صفة في شمالي مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم ؛ فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ؛ فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به ومن تعذر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه . ولم يكن " أهل الصفة " ناسا بأعيانهم يلازمون الصفة بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى ويقيم الرجل بها زمانا ثم ينتقل منها : والذين ينزلون بها من جنس سائر المسلمين ؛ ليس لهم مزية في علم ولا دين ؛ بل فيهم من ارتد عن الإسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعرنيين الذين اجتووا المدينة - أي استوخموها - فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح - أي إبل لها لبن - وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتي بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس وفيه أنهم نزلوا الصفة فكان ينزلها مثل هؤلاء ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة ثم انتقل عنها ونزلها أبو هريرة وغيره . وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخ من نزل الصفة . وأما " الأنصار " فلم يكونوا من أهل الصفة وكذلك أكابر المهاجرين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة . وقد { روي أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذا واحد من السبعة } وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحلية وكذا كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة " الأولياء " و " الأبدال " و " النقباء " و " النجباء و " الأوتاد " و " الأقطاب " مثل أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر أو القطب الواحد فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ " الأبدال " . وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي رضي الله عنه وهو حديث منقطع ليس بثابت . ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق } وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه ؛ وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما ؟ وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه أنشد منشد قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه } فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث وأكذب منه ما يرويه بعضهم : { أنه مزق ثوبه وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش } فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحاديث كذبا عليه صلى الله عليه وسلم . وكذلك ما يروونه عن عمر رضي الله عنه أنه قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي } وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث . والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر من يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما عنادا وإما جهلا كما أن كثيرا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله وأن محمدا رسول الله ؛ ولكن يقولون إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب وأنه لا يجب علينا اتباعه لأنه أرسل إلينا رسلا قبله فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { الذين آمنوا وكانوا يتقون } . ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله كما قال تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } وقال تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } إلى آخر السورة . وقال في أول السورة : { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } . فلا بد في الإيمان من أن تؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن ؛ فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ؛ ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن كما قال الله تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } { أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما } ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه . ووعده ووعيده وحلاله وحرامه ؛ فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان . وأما خلق الله تعالى للخلق ورزقه إياهم وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل . ثم لو بلغ الرجل في " الزهد والعبادة والعلم " ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم : وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمنا بجميع ما جاء به فهو كافر عدو لله وإن ظن طائفة أنه ولي لله كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا . وكذلك حكماء " اليونان " مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني وهو الذي تؤرخ به تواريخ الروم واليونان وتؤرخ به اليهود والنصارى ؛ وليس هذا هو ذو القرنين الذي ذكره الله في كتابه كما يظن بعض الناس أن أرسطو كان وزيرا لذي القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الإسكندر وهذا قد يسمى بالإسكندر ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه وليس الأمر كذلك ؛ بل هذا الإسكندر المشرك الذي قد كان أرسطو وزيره متأخر عن ذاك ولم يبن هذا السد ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج وهذا الإسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعروف . وفي أصناف المشركين من مشركي العرب ومشركي الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ؛ ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاءوا به ولا يصدقهم بما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء لله وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين . قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } . وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم . ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة ؛ ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن . قال الله تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } وذكر الرحمن هو الذكر الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم مثل القرآن فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به قال تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } وقال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد وعبده مجتهدا في عبادته ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله - وهو القرآن - كان من أولياء الشيطان ولو طار في الهواء أو مشى على الماء ؛ فإن الشيطان يحمله في الهواء . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .

فصل ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ؛ وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر } وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها وقد ثبت في الصحيحين أنه { قال لأبي ذر - وهو من خيار المؤمنين - إنك امرؤ فيك جاهلية فقال يا رسول الله أعلى كبر سني قال : نعم } . وثبت في الصحيح عنه أنه قال { أربع في أمتي من أمر الجاهلية : الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم } وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان } وفي صحيح مسلم { وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم . } وذكر البخاري عن ابن أبي مليكة قال : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وقد قال الله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين } { وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى . وإذا كان " أولياء الله " هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل ولاية لله . فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق قال الله تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } وقال تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } وقال تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال تعالى في المنافقين { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } . فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه ؛ وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه . وقال تعالى { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } وقال تعالى { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } .

فصل وأولياء الله على " طبقتين " سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون . ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان ؛ والمطففين وفي سورة فاطر فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها { إذا وقعت الواقعة } { ليس لوقعتها كاذبة } { خافضة رافعة } { إذا رجت الأرض رجا } { وبست الجبال بسا } { فكانت هباء منبثا } { وكنتم أزواجا ثلاثة } { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } { وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } { والسابقون السابقون } { أولئك المقربون } { في جنات النعيم } { ثلة من الأولين } { وقليل من الآخرين } فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع . ثم قال تعالى في آخر السورة : فلولا أي : فهلا { إذا بلغت الحلقوم } { وأنتم حينئذ تنظرون } { ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون } { فلولا إن كنتم غير مدينين } { ترجعونها إن كنتم صادقين } { فأما إن كان من المقربين } { فروح وريحان وجنة نعيم } { وأما إن كان من أصحاب اليمين } { فسلام لك من أصحاب اليمين } { وأما إن كان من المكذبين الضالين } { فنزل من حميم } { وتصلية جحيم } { إن هذا لهو حق اليقين } { فسبح باسم ربك العظيم } . وقال تعالى في سورة الإنسان : { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } { إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا } { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا } { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } { يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا } { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } { وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا } الآيات . وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال : { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين } إلى أن قال : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } { وما أدراك ما عليون } { كتاب مرقوم } { يشهده المقربون } { إن الأبرار لفي نعيم } { على الأرائك ينظرون } { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } { يسقون من رحيق مختوم } { ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } { ومزاجه من تسنيم } { عينا يشرب بها المقربون } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا يمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا وهو كما قالوا . فإنه تعالى قال { يشرب بها } ولم يقل : يشرب منها لأنه ضمن ذلك قوله يشرب يعني يروى بها فإن الشارب قد يشرب ولا يروى فإذا قيل يشربون منها لم يدل على الري فإذا قيل يشربون بها كان المعنى يروون بها فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها ؛ فلهذا يشربون منها صرفا بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان { كان مزاجها كافورا } { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } . فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ؛ وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه } رواه مسلم في صحيحه . وقال صلى الله عليه وسلم { الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } قال الترمذي : حديث صحيح . وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن { يقول الله تعالى : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته } وقال { ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله } ومثل هذا كثير . وأولياء الله تعالى على نوعين : مقربون وأصحاب يمين كما تقدم . وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال { يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها } . فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ؛ ولا الكف عن فضول المباحات . وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما كما قال تعالى : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } يعني الحب المطلق كقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه فلم يشربوا صرفا ؛ بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا . ونظير هذا انقسام الأنبياء عليهم السلام إلى عبد رسول ونبي ملك وقد خير الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا فاختار أن يكون عبدا رسولا فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام قال الله تعالى في قصة سليمان الذي { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } { والشياطين كل بناء وغواص } { وآخرين مقرنين في الأصفاد } { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } أي أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه . وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم [ من يشاء بل روي عنه ] أنه قال { إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت } ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } وقوله تعالى { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } وقوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } . ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف ويذكر هذا رواية عن أحمد وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه وقيل : على ثلاثة كقول أبي حنيفة رحمه الله . و " المقصود هنا " أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك .
فصل وقد ذكر الله تعالى " أولياءه " المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } { جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور } { الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب } لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } . وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة وليس ذلك مختصا بحفاظ القرآن ؛ بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء وقسمهم إلى ظالم لنفسه ومقتصد وسابق ؛ بخلاف الآيات التي في الواقعة والمطففين والانفطار فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم وهذا التقسيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ف " الظالم لنفسه " أصحاب الذنوب المصرون عليها ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين و " المقتصد " المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم . و " السابق للخيرات " هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } { الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } و " المقتصد " المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم و " السابق بالخيرات " هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات . وقوله { جنات عدن يدخلونها } مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد . وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره . فمن قال : إن أهل الكبائر مخلدون في النار وتأول الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها كما تأوله من المعتزلة فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع سلف الأمة وأئمتها . وقد دل على فساد قول " الطائفتين " قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من المعتزلة لأن الشرك يغفره الله لمن تاب وما دون الشرك يغفره الله أيضا للتائب فلا تعلق بالمشيئة ؛ ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } . فهنا عمم المغفرة وأطلقها فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه فمن تاب من الشرك غفر الله له ومن تاب من الكبائر غفر الله له وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له . ففي آية التوبة عمم وأطلق وفي تلك الآية خصص وعلق فخص الشرك بأنه لا يغفره وعلق ما سواه على المشيئة ومن الشرك التعطيل للخالق وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب . ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق أو يجوز ألا يعذب بذنب فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة . وقوله تعالى { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } دليل على أنه يغفر البعض دون البعض فبطل النفي والوقف العام .
فصل وإذا كان " أولياء الله عز وجل " هم المؤمنون المتقون . والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك . وأصل الإيمان والتقوى : الإيمان برسل الله وجماع ذلك : الإيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة ؛ فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة . قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا } { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال تعالى عن أهل النار { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } فأخبر أنه كلما ألقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير . وقال تعالى في خطابه لإبليس { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه ؛ فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم . فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له فإنه ممن لم يتبع الشيطان ولم يكن مذنبا وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل .
فصل ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا مجملا وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك فيؤمن بما بلغه عن الرسل وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به ؛ ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع إيمانه وتقواه فهو من أولياء الله تعالى له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه وما لم تقم عليه الحجة فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به فلا يعذبه على تركه ؛ لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به إيمانا مفصلا وعمل به فهو أكمل إيمانا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به ؛ وكلاهما ولي لله تعالى . والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم . قال تبارك وتعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا } { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } . فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه وأن عطاءه ما كان محظورا من بر ولا فاجر ثم قال تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } . فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا وقد بين تفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين فقال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } وقال تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا } . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان } وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } . وقد قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } وقال تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } { درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما } وقال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } { خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } وقال تعالى : { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب } وقال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير } .
فصل وإذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا لقوله تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { الذين آمنوا وكانوا يتقون } وفي صحيح البخاري الحديث المشهور - وقد تقدم - يقول الله تبارك وتعالى فيه : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار أهل اليمين ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله . وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة - وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسول - فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين ؛ فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله . وكذلك المجانين والأطفال ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم . وعن النائم حتى يستيقظ } . وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما . واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول . لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء . وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء . ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات ؛ بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة . فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا ولا تصح عقوده باتفاق العلماء . فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته . ولا غير ذلك من أقواله بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي ولا ثواب ولا عقاب . بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع وفي مواضع فيها نزاع . وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل وامتنع أن يكون وليا فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله ؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه أو نوع من تصرف مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع ؛ فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين - من المشركين وأهل الكتاب - لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا ؛ بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة . أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم السلام . أو يقول : إن الأنبياء ضيقوا الطريق أو هم على قدوة العامة دون الخاصة ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان . فضلا عن ولاية الله عز وجل . فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولايتهم كان أضل من اليهود والنصارى . وكذلك المجنون ؛ فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات التي هي شرط في ولاية الله ومن كان يجن أحيانا ويفيق أحيانا . إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم ؛ فهذا إذا جن لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك . وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه ؛ فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه . ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله والقلم مرفوع عنه في حال جنونه . فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم بل قد يأتي بما يناقض ذلك لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي لله فإن هذا إن لم يكن مجنونا ؛ بل كان متولها من غير جنون أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم ؛ فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا كان له من ولاية الله بحسب ذلك وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق .
فصل وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحا ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحا كما قيل : كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء ؛ بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ويوجدون في التجار والصناع والزراع . وقد ذكر الله أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه } . وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم " القراء " فيدخل فيهم العلماء والنساك ثم حدث بعد ذلك اسم " الصوفية والفقراء " . واسم " الصوفية " هو نسبة إلى لباس الصوف ؛ هذا هو الصحيح وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء وقيل إلى صوفة بن أد بن طانجة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك وقيل إلى أهل الصفة وقيل إلى الصفا وقيل إلى الصفوة وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل صفي أو صفائي أو صفوي أو صفي ولم يقل صوفي . وصار أيضا اسم " الفقراء " يعني به أهل السلوك وهذا عرف حادث وقد تنازع الناس أيما أفضل مسمى " الصوفي " أو مسمى " الفقير " ؟ ويتنازعون أيضا أيما أفضل : الغني الشاكر أو الفقير الصابر ؟ . وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد وبين أبي العباس بن عطاء وقد روي عن أحمد بن حنبل فيها روايتان والصواب في هذا كله ما قاله الله تبارك وتعالى حيث قال : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } . وفي ا لصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : { أي الناس أفضل ؟ قال أتقاهم . قيل له : ليس عن هذا نسألك فقال : يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله . فقيل له : ليس عن هذا نسألك . فقال : عن معادن العرب تسألوني ؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا } . فدل الكتاب والسنة إن أكرم الناس عند الله أتقاهم . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى . كلكم لآدم وآدم من تراب } . وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان : مؤمن تقي وفاجر شقي } . فمن كان من هذه الأصناف أتقى لله فهو أكرم عند الله وإذا استويا في التقوى استويا في الدرجة . ولفظ " الفقر " في الشرع يراد به الفقر من المال ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه كما قال تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } وقال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } وقد مدح الله تعالى في القرآن صنفين من الفقراء : أهل الصدقات وأهل الفيء فقال في الصنف الأول : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } وقال في الصنف الثاني وهم أفضل الصنفين { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } . وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنا وظاهرا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله } . أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك { رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر } فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وجهاد الكفار من أعظم الأعمال ؛ بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان قال الله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } وقال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } { خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } . وثبت في صحيح مسلم وغيره عن { النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : ما أبالي أن أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال علي بن أبي طالب الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتما فقال عمر : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية } . وفي الصحيحين عن { عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ؛ أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل ؟ قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي ؟ قال : بر الوالدين . قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله قال : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني } وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه { سئل أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله وجهاد في سبيله قيل : ثم ماذا ؟ قال حج مبرور } . وفي الصحيحين أن { رجلا قال له صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال : لا تستطيعه أو لا تطيقه قال فأخبرني به قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر } ؟ وفي السنن عن { معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال : يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وقال : يا معاذ إني لأحبك فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وقال له - وهو رديفه - يا معاذ : أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم . قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا . أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حقهم عليه ألا يعذبهم } . وقال أيضا لمعاذ : { رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله } وقال : { يا معاذ ألا أخبرك بأبواب البر ؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقيام الرجل في جوف الليل ثم قرأ { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } ثم قال : يا معاذ ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت بلى فقال : أمسك عليك لسانك هذا فأخذ بلسانه قال يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم } . وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت } فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه والصمت عن الشر خير من التكلم به فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء فذلك من البدع المذمومة أيضا كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن { النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما هذا فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه } . وثبت في الصحيحين عن { أنس أن رجالا سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها فقالوا وأينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر : أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني } أي سلك غيرها ظانا أن غيرها خير منها فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله قال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة .
فصل وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ ؛ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى ؛ فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فقال تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } وقد ثبت في الصحيحين أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال : قد فعلت ففي صحيح مسلم عن { ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى قوله { أو أخطأنا } قال الله قد فعلت { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال : قد فعلت { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال قد فعلت . وقد قال تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } } . وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا أنه قال { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر } فلم يؤثم المجتهد المخطئ ؛ بل جعل له أجرا على اجتهاده وجعل خطأه مغفورا له ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه ؛ ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله لئلا يكون نبيا ؛ بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا [ للشرع ] وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق ؛ بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف ؟ توقف فيه . والناس في هذا الباب " ثلاثة أصناف " طرفان ووسط ؛ فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدث به قلبه عن ربه وسلم إليه جميع ما يفعله ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدا مخطئا وخيار الأمور أوساطها وهو أن لا يجعل معصوما ولا مأثوما إذا كان مجتهدا مخطئا فلا يتبع في كل ما يقوله ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده . والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف ويقول هذا خالف الشرع . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم } وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر } { وفي حديث آخر إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وفيه لو كان نبي بعدي لكان عمر } وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر . ثبت هذا عنه من رواية الشعبي . وقال ابن عمر : ما كان عمر يقول في شيء : إني لأراه كذا إلا كان كما يقول . وعن قيس بن طارق قال كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك . وكان عمر يقول اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنه تتجلى لهم أمور صادقة . وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم . فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات ؛ فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر . وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدث في هذه الأمة فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعمر أفضل منه ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غير مرة وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين والحديث معروف في البخاري وغيره ؛ فإن { النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوه تحت الشجرة وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القابل وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر فشق ذلك على كثير من المسلمين وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى قال : أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه ثم قال : أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى . قال : أقلت لك أنك تأتيه العام ؟ قال : لا قال : إنك آتيه ومطوف به فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم } ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك وقال : فعملت لذلك أعمالا . وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عمر موته أولا فلما قال أبو بكر : إنه مات رجع عمر عن ذلك . وكذلك في " قتال مانعي الزكاة " قال عمر لأبي بكر : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } فقال له أبو بكر رضي الله عنه ألم يقل : " إلا بحقها " فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق . ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر مع أن عمر رضي الله عنه محدث ؛ فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ويقررهم على منازعته ولا يقول لهم : أنا محدث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني فأي أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولي لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون ومثل هذا من أضل الناس فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو أمير المؤمنين وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله وهو وهم على الكتاب والسنة وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به ؛ بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به ؛ بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله وما خالف الكتاب والسنة كان مردودا وإن كان صاحبه من أولياء الله وكان مجتهدا معذورا فيما قاله له أجر على اجتهاده . لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا وكان من الخطإ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع ؛ فإن الله تعالى يقول : { فاتقوا الله ما استطعتم } وهذا تفسير قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } قال ابن مسعود وغيره : حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى ؛ وأن يشكر فلا يكفر أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وقال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } وقال تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } . وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } وقال تعالى : { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } وقال تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } . وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله باتباعهم ؛ بل إما أن يكون كافرا وإما أن يكون مفرطا في الجهل . وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبي سليمان الداراني : إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة . وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال : لا يقتدى به . وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة ؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم { وإن تطيعوه تهتدوا } وقال أبو عمرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل . وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه وبين أهل الجنة وأهل النار وبين السعداء والأشقياء فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين ؛ ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال وآخرا إلى الكفر والنفاق ويكون له نصيب من قوله تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } { يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } وقوله تعالى { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } وقوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب } { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } { وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } . وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية { لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال : ما عبدوهم : فقال النبي صلى الله عليه وسلم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم } ولهذا قيل في مثل هؤلاء إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الإيمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم وعربهم وعجمهم علمائهم وعبادهم ملوكهم وسوقتهم وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنا وظاهرا حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كما قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } . قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقد قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } . وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي الله فإنه بنى أمره على أنه ولي لله ؛ وأن ولي الله لا يخالف في شيء ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة ؛ فكيف إذا لم يكن كذلك وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت ؛ أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشي على الماء أحيانا ؛ أو يملأ إبريقا من الهواء ؛ أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحيانا عن أعين الناس ؛ أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته ؛ أو يخبر الناس بما سرق لهم ؛ أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور ؛ وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله ؛ بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه . وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور ؛ وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله ؛ فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله ؛ بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة . مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ؛ ولا يصلي الصلوات المكتوبة ؛ بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب ؛ يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل ؛ رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ؛ ولا يتنظف ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب } وقال عن هذه الأخلية : { إن هذه الحشوش محتضرة } أي يحضرها الشيطان وقال : { من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا ؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم } . وقال { إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا } وقال : { إن الله نظيف يحب النظافة } وقال : { خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور } وفي رواية { الحية والعقرب } . وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب وقال : { من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط } وقال : { لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب } وقال : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب } . وقال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } . فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير ؛ وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة أو يأوي إلى المقابر ؛ ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن . قال ابن مسعود رضي الله عنه لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل ؛ وقال ابن مسعود : الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل . وإن كان الرجل خبيرا بحقائق الإيمان الباطنة فارقا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم } وقال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنه ينظر بنور الله } قال الترمذي حديث حسن . وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال فيه : { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } . فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبئ الكذاب فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين وموسى والمسيح وغيرهم وبين مسيلمة الكذاب ؛ والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي ؛ وباباه الرومي ؛ وغيرهم من الكذابين ؛ وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين .
فصل و " الحقيقة " حقيقة الدين : دين رب العالمين . هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون ؛ وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج . ف " الشرعة " هي الشريعة قال الله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } . و " المنهاج " هو الطريق قال تعالى : { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } { لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } . فالشرعة بمنزلة الشريعة للنهر والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له وهي حقيقة دين الإسلام وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره فمن استسلم له ولغيره كان مشركا والله لا يغفر أن يشرك به ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } . ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين وقوله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } عام في كل زمان ومكان . فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له قال الله تعالى عن نوح : { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم } إلى قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال تعالى : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال السحرة : { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين } وقال يوسف عليه السلام { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } وقالت بلقيس : { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال تعالى : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار } وقال الحواريون { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } . فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { إنا معشر الأنبياء ديننا واحد } قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } .
فصل وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم " أربع مراتب " فقال تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } . وفي الحديث : " { ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر } وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وقال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند " { أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله } وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : " { خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه . وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } . والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } وقال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } والسابقون الأولون الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح صلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة وفيه { أنزل الله تعالى { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } فقالوا يا رسول الله أوفتح هو قال : نعم } . وأفضل السابقين الأولين " الخلفاء الأربعة " وأفضلهم أبو بكر ثم عمر وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في " منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية " . وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذ كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر .
وقد ظن طائفة غالطة أن " خاتم الأولياء " أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته كما يزعم ذلك ابن عربي صاحب " كتاب الفتوحات المكية " و " كتاب الفصوص " فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن . ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم ؟ والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم ؛ فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم " { أنا سيد ولد آدم ولا فخر } . وقوله : " { آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك } و " ليلة المعراج " رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان أحقهم بقوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } إلى غير ذلك من الدلائل كل منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق ؛ بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة وجاء المسيح فكملها ؛ ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح : كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين ؛ بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث ؛ بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء ؛ فكان ما فضله الله به من الله بما أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر . وهذا بخلاف " الأولياء " فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه . ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد وإذا قال : أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة ؛ فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا : إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب . فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارا بذلك وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر وهو أكفر من أولئك ؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة . فإذا ادعى المدعي أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان ؛ وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر وهذا شر ممن يقول : أؤمن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين . وهؤلاء الملاحدة يدعون أن " الولاية " أفضل من " النبوة " ويلبسون على الناس فيقولون : ولايته أفضل من نبوته وينشدون : مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته وهذا من أعظم ضلالهم فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون . وكل رسول نبي ولي فالرسول نبي ولي . ورسالته متضمنة لنبوته ونبوته متضمنة لولايته وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله ولا تكون مجردة عن ولايته ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته . وهؤلاء قد يقولون - كما يقول صاحب " الفصوص " ابن عربي - : إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول ؛ وذلك أنهم اعتقدوا " عقيدة المتفلسفة " ثم أخرجوها في قالب " المكاشفة " وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبه بها كما يقوله أرسطو وأتباعه ؛ أو لها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم : كابن سينا وأمثاله ولا يقولون إنها لرب خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته ولا يعلم الجزئيات ؛ بل إما أن ينكروا علمه مطلقا كقول أرسطو ؛ أو يقولوا إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها ؛ فإن كل موجود في الخارج فهو معين جزئي : الأفلاك كل معين منها جزئي وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان . والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في " رد تعارض العقل والنقل " وغيره . فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى بل ومشركي العرب فإن جميع هؤلاء يقولون إن الله خلق السموات والأرض وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته وأرسطو ونحوه من المتفلسفة واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام وهم لا يعرفون الملائكة والأنبياء وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية وأما الأمور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير ؛ ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل ؛ فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا مذهبا قد يعتزي إليه متفلسفة أهل الملل ؛ وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع . وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بهر العالم واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن أرادوا أن يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين هم أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأولئك قد أثبتوا عقولا عشرة يسمونها " المجردات " " والمفارقات " . وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن وسموا تلك " المفارقات " لمفارقتها المادة وتجردها عنها . وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسا وأكثرهم جعلوها أعراضا وبعضهم جعلها جواهر . وهذه " المجردات " التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان كما أثبت أصحاب أفلاطون " الأمثال الأفلاطونية المجردة " أثبتوا هيولى مجردة عن الصورة ومدة وخلاء مجردين وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان ؛ فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة وزعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي . ( الأول : أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها من العلم بلا تعلم . ( الثاني : أن يكون له قوة تخيلية تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورا أو يسمع في نفسه أصواتا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى . ( الثالث : أن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي قوى النفس فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون انشقاق القمر ونحو ذلك ؛ فإنهم ينكرون وجود هذا . وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع . وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام وأن هذا الذي جعلوه من الخصائص يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون كما قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وليسوا عشرة وليسوا أعراضا لا سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو " العقل الأول " وعنه صدر كل ما دونه و " العقل الفعال العاشر " رب كل ما تحت فلك القمر . وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل فليس أحد من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله . وهؤلاء يزعمون أنه العقل المذكور في حديث يروى " { أن أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل فقال له : أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب } " . ويسمونه أيضا " القلم " لما روي " { إن أول ما خلق الله القلم } " الحديث رواه الترمذي . والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم . وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها ومع هذا فلفظه لو كان ثابتا حجة عليهم ؛ فإن لفظه " { أول ما خلق الله تعالى العقل قال له - ويروى - لما خلق الله العقل قال له } " فمعنى الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ؛ ليس معناه أنه أول المخلوقات و " أول " منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر ( لما وتمام الحديث " { ما خلقت خلقا أكرم علي منك } " فهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره ثم قال " { فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب } " فذكر أربعة أنواع من الأعراض وعندهم أن جميع جواهر العالم العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل . فأين هذا من هذا . وسبب غلطهم أن لفظ " العقل " في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان فإن " العقل " في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا كما في القرآن { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } ويراد " بالعقل " الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها . وأما أولئك ف " العقل " عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن . وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر وقد يسمى " العقل " عالم الجبروت " والنفوس " عالم الملكوت ؛ و " الأجسام " عالم الملك ويظن من لم يعرف لغة الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا وليس الأمر كذلك . وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن " الفلك " محدث : أي معلول مع إنه قديم عندهم والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثا والله قد أخبر أنه خالق كل شيء وكل مخلوق فهو محدث وكل محدث كائن بعد أن لم يكن ؛ لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل ولا أحكموا فيها قضايا العقول فلا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بسط في غير هذا الموضع . وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون " جبريل " هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والخيال تابع للعقل فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم " أولياء الله " وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة كابن عربي صاحب " الفتوحات " و " الفصوص " فقال : إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول و " المعدن " عنده هو العقل و " الملك " هو الخيال و " الخيال " تابع للعقل وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال ؛ فلهذا صار عند نفسه فوق النبي ولو كان خاصة النبي ما ذكروه لم يكن هو من جنسه فضلا عن أن يكون فوقه فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين والنبوة أمر وراء ذلك فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة : كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم - رضوان الله عليهم أجمعين . والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } وقال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } . وقد أخبر أن الملائكة جاءت لإبراهيم عليه السلام في صورة البشر وأن الملك تمثل لمريم بشرا سويا وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ويراهم الناس كذلك . وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة عند ذي ذي العرش مكين ؛ مطاع ثم أمين وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رآه بالأفق المبين ووصفه بأنه { شديد القوى } { ذو مرة فاستوى } { وهو بالأفق الأعلى } { ثم دنا فتدلى } { فكان قاب قوسين أو أدنى } { فأوحى إلى عبده ما أوحى } { ما كذب الفؤاد ما رأى } { أفتمارونه على ما يرى } { ولقد رآه نزلة أخرى } { عند سدرة المنتهى } { عندها جنة المأوى } { إذ يغشى السدرة ما يغشى } { ما زاغ البصر وما طغى } { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } . وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم " { إنه لم ير جبريل في صورته التي خلق عليها غير مرتين } " يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأنه الروح الأمين وأنه روح القدس إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء وأنه جوهر قائم بنفسه ليس خيالا في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون ولاية الله وأنهم أعلم من الأنبياء . وغاية حقيقة هؤلاء إنكار " أصول الإيمان " بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وحقيقة أمرهم جحد الخالق فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وقالوا : الوجود واحد ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود كما تشترك الأناسي في مسمى الإنسان والحيوانات في مسمى الحيوان ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفرس ووجود السموات ليس هو بعينه وجود الإنسان فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته . وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع فإنه لم يكن منكرا هذا الوجود المشهود ؛ لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له وهؤلاء وافقوه في ذلك ؛ لكن زعموا بأنه هو الله فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادا منهم ولهذا جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله وقالوا : " لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف وإن جار في العرف الناموسي كذلك قال أنا ربكم الأعلى - أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم " . قالوا : " ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك وقالوا : { فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } قالوا : فصح قول فرعون { أنا ربكم الأعلى } وكان فرعون عين الحق " ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله وأنهم أفضل من الأنبياء وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم . وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء ؛ ولكن لما كان الكلام في " أولياء الله " والفرق بين " أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاء لولاية الله وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان نبهنا على ذلك . ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات : ( باب أرض الحقيقة ويقولون هي أرض الخيال . فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال ومحل تصرف الشيطان فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي عليه قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } { وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } . وقال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } إلى قوله : - { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } . وقال تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } وقال تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب } وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " { إنه رأى جبريل يزع الملائكة } " والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته . قال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } . وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } وقال تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام : المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " { سيكون في ثقيف كذاب ومبير } " وكان الكذاب : المختار بن أبي عبيد والمبير : الحجاج بن يوسف . فقيل لابن عمر وابن عباس : إن المختار يزعم أنه ينزل إليه فقالا : صدق قال الله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } . وقال الآخر وقيل له إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال : قال الله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } . وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب " الفتوحات " أنه ألقي إليه ذلك الكتاب ؛ ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به ومنهم من كانت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس أو بعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم ونحو ذلك . ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يوجد في كلام صاحب " الفتوحات المكية " و " الفصوص " وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم ويتنقص الأنبياء : كنوح وإبراهيم وموسى وهارون ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين : كالجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري ويمدح المذمومين عند المسلمين : كالحلاج ونحوه كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية ؛ فإن الجنيد - قدس الله روحه - كان من أئمة الهدى فسئل عن التوحيد فقال : " التوحيد " إفراد الحدوث عن القدم . فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث وبين الخالق والمخلوق . وصاحب " الفصوص " أنكر هذا ؛ وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له : يا جنيد هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما ؟ فخطأ الجنيد في قوله : ( إفراد الحدوث عن القدم ؛ لأن قوله هو : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه : " ومن أسمائه الحسنى " العلي " على من ؟ وما ثم إلا هو وعن ماذا ؟ وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاته وليست إلا هو " إلى أن قال : " هو عين ما بطن وهو عين ما ظهر وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه سواه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات " . فيقال لهذا الملحد : ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره وليس هو ثالث فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده كما نطق بذلك القرآن في غير موضع والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا . وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم - وهو أحذقهم في اتحادهم - لما قرئ عليه " الفصوص " فقيل له : القرآن يخالف فصوصكم . فقال : القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا . فقيل له : فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما ؟ فقال : الكل عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم . وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهر فإن الوجود إذا كان واحدا فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده : من قال لك : إن في الكون سوى الله فقد كذب . فقال له مريده : فمن هو الذي يكذب ؟ وقالوا لآخر : هذه مظاهر . فقال لهم : المظاهر غير الظاهر أم هي ؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق . وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر وبينا حقيقة قول كل واحد منهم وأن صاحب " الفصوص " يقول المعدوم شيء ؛ ووجود الحق قاض عليه فيفرق بين الوجود والثبوت . والمعتزلة الذين قالوا : المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه فإن أولئك قالوا : إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب . وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليه فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق وصاحبه الصدر القونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة فلم يقر بأن المعدوم شيء ؛ لكن جعل الحق هو الوجود المطلق وصنف " مفتاح غيب الجمع والوجود " . وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه فإن المطلق بشرط الإطلاق - وهو الكلي العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي - وإن قيل إنه موجود في الخارج فلا يوجد في الخارج إلا معينا وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج وإما أن يكون جزءا من وجود المخلوقات وإما أن يكون عين وجود المخلوقات . وهل يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه ؟ أم العدم يخلق الوجود ؟ أو يكون بعض الشيء خالقا لجميعه . وهؤلاء يفرون من لفظ " الحلول " لأنه يقتضي حالا ومحلا ومن لفظ " الاتحاد " لأنه يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وعندهم الوجود واحد . ويقولون : النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ولو عمموا لما كفروا . وكذلك يقولون في عباد الأصنام : إنما أخطئوا لما عبدوا بعض المظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطئوا عندهم . والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام . وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض لأنه يقال لهم : فمن المخطئ ؟ لكنهم يقولون : إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق . ويقولون : إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق ويقولون ما قاله صاحب " الفصوص " : " فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة " . وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذاك وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني : إنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل . ويقولون : من أراد التحقيق - يعني تحقيقهم - فليترك العقل والشرع . وقد قلت لمن خاطبته منهم : ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم وخبرهم أصدق من خبر غيرهم ؛ والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته ؛ لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول ويمتنع أن يكون في إخبار الرسول ما يناقض صريح العقول ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان : سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل ؟ . وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين وتكون من تلبيسات الشياطين . وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء ويذكرون أن النبوة لم تنقطع كما يذكر عن ابن سبعين وغيره ويجعلون المراتب " ثلاثة " يقولون : العبد يشهد أولا طاعة معصية ثم طاعة بلا معصية ثم لا طاعة ولا معصية و " الشهود الأول " هو الشهود الصحيح وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي وأما " الشهود الثاني " فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول : أنا كافر برب يعصى وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة . والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم : أصبحت منفعلا لما تختاره مني ففعلي كله طاعات ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه ؛ فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى : { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني . وكانت هذه " المسألة " قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم من اتبع الجنيد فيها كان على السداد ومن خالفه ضل لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول فبين لهم الجنيد أنه لا بد من شهود الفرق الثاني وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه ويفرق بين أوليائه وأعدائه كما قال تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } { ما لكم كيف تحكمون } وقال تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون } . ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ؛ لا رب غيره وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية وهو لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم . وأما " المرتبة الثالثة أن لا يشهد طاعة ولا معصية - فإنه يرى أن الوجود واحد وعندهم أن هذا غاية التحقيق والولاية لله ؛ وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } . وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة ب " نظم السلوك " يقول فيها : لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سوائي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة ( إلى أن قال وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت إلي رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي علي استدلت فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبت إلى أمثال هذا الكلام ؛ ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد ويقول : إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام فإنه كان يظن أنه هو الله فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه وقال الله تعالى : { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فجميع ما في السموات والأرض يسبح لله ؛ ليس هو الله ثم قال تعالى : { له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير } { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه : " { اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين واغنني من الفقر } " . ثم قال : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } فذكر أن السموات والأرض - وفي موضع آخر - ( وما بينهما مخلوق مسبح له وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء . وأما قوله ( وهو معكم فلفظ ( مع لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } وقوله تعالى { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } . ولفظ ( مع ) جاءت في القرآن عامة وخاصة ف " العامة " في هذه الآية وفي آية المجادلة { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم ؛ ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه . وأما " المعية الخاصة " ففي قوله تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وقوله تعالى لموسى : { إنني معكما أسمع وأرى } وقال تعالى : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه فهو مع موسى وهارون دون فرعون ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين . فلو كان معنى " المعية " أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام ؛ بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك . وقوله تعالى { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض كما قال الله تعالى : { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } وكذلك وقوله تعالى { وهو الله في السماوات وفي الأرض } كما فسره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره : أنه المعبود في السموات والأرض . وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص ويعلم أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال كما قال الله تعالى : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } قال ابن عباس : ( الصمد العليم الذي كمل في علمه العظيم الذي كمل في عظمته القدير الكامل في قدرته الحكيم الكامل في حكمته السيد الكامل في سؤدده . وقال ابن مسعود وغيره : هو الذي لا جوف له . و الأحد الذي لا نظير له . فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه واسمه الأحد يتضمن اتصافه أنه لا مثل له . وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن .
فصل وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية ؛ فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر كما قال تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره ولا رب سواه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله ونهى عن معصيته ومعصية رسله أمر بالتوحيد والإخلاص ونهى عن الإشراك بالله فأعظم الحسنات التوحيد وأعظم السيئات الشرك . قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } . وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " { قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك . فأنزل الله تصديق ذلك { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما } { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } } . وأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وأخبر أنه يحب المتقين ويحب المحسنين ويحب المقسطين ؛ ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وهو يكره ما نهى عنه كما قال في سورة سبحان { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين ؛ وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق ونهى عن التبذير ؛ وعن التقتير ؛ وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه ؛ وأن يبسطها كل البسط ونهى عن قتل النفس بغير الحق وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر .
والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائما قال الله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة } " وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة } " وفي السنن عن ابن عمر قال : { كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة أو قال أكثر من مائة مرة } " وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثا ويقول " { اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام } " كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه وقد قال تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار . وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } وكذلك قال في الحج : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين } { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم } { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } وهي آخر ما نزل من القرآن . وقد قيل : إن آخر سورة نزلت قوله تعالى { إذا جاء نصر الله والفتح } { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده : " { سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي - يتأول القرآن } " وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " { اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت لا إله إلا أنت } " وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه { قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم } " وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه { قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال قل : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم . قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك } " . فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب ؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائما . قال الله تبارك وتعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم . وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل } " وهذا لا ينافي قوله { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } فإن الرسول نفى باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب . وقول من قال : إذا أحب الله عبدا لم تضره الذنوب . معناه أنه إذا أحب عبدا ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة ؛ بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . وإنما عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } { الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } .
ومن ظن أن " القدر " حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } قال الله تعالى رادا عليهم : { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } . ولو كان " القدر " حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات وقوم فرعون ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعا لهواه بغير هدى من الله ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحدا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه ؛ بل يستوي عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم فلا يفرق بين من يفعل معه خيرا وبين من يفعل معه شرا وهذا ممتنع طبعا وعقلا وشرعا . وقد قال تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ؟ وقال تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } ؟ وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } وقال تعالى { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { احتج آدم وموسى قال موسى : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده فبكم وجدت مكتوبا علي قبل أن أخلق { وعصى آدم ربه فغوى } ؟ قال : بأربعين سنة [ قال ] : فلم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ قال : فحج آدم موسى } " أي : غلبه بالحجة . وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان : " طائفة " كذبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر . و " طائفة " شر من هؤلاء جعلوه حجة وقد يقولون : القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلا . ومن الناس من قال : إنما حج آدم موسى لأنه أبوه أو لأنه كان قد تاب أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى . وكل هذا باطل . ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة فقال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا وتاب منه ؛ فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام وهو قد تاب منه أيضا ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } . والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب قال الله تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب . وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال ابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا لما أصابهم وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر . و " الصبر " واجب باتفاق العلماء وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله و " الرضا " قد قيل : إنه واجب وقيل : هو مستحب وهو الصحيح وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها حيث جعلها سببا لتكفير خطاياه ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري ؛ أي مذهب وافق هواك تمذهبت به . وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها ؛ ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة } " . وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : " { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم . يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري ؛ فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي ؛ لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي ؛ لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه } " . فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير وأنه إذا وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه . وكثير من الناس يتكلم بلسان " الحقيقة " ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقا لما أمر الله به على ألسن رسله وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة كما أن لفظ " الشريعة " يتكلم به كثير من الناس ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله ؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ . هذا إذا كان عالما عادلا وإلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق فقضى بغيره فهو في النار } " وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار } " فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار . وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار وكان الباطن بخلاف الظاهر لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضي به له بالاتفاق . وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك ؛ فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وفرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين النوعين . فلفظ " الشرع والشريعة " إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فلم يتابعه باطنا وظاهرا فهو كافر . ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطا من وجهين : " أحدهما " أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان على الخضر اتباعه ؛ فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس ولو أدركه من هو أفضل من الخضر : كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم ؛ اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليا ؛ ولهذا قال الخضر لموسى : " إنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه ؛ وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه " وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا . " الثاني " أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرا ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله . قال : ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان - قال له - إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم رواه البخاري . وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر على الجوع فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفا شرع الله . وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالما وقد يكون عادلا وقد يكون صوابا وقد يكون خطأ وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه : كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم . وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك ؛ فهذا من نوع التبديل فيجب الفرق بين الشرع المنزل والشرع المؤول والشرع المبدل كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة وبين ما يكتفى فيها بذوق صاحبها ووجده .
فصل وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين " الإرادة " و " الأمر " و " القضاء " و " الإذن " و " التحريم " و " البعث " و " الإرسال " و " الكلام " و " الجعل " : بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه ؛ وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين ؛ وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه . ف " الإرادة الكونية " هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعا ودينا . وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } وقال نوح عليه السلام لقومه : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } وقال تعالى : { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } وقال تعالى في الثانية : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال في آية الطهارة : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم } { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه . وأما " الأمر " فقال في الأمر الكوني : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقال تعالى : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } وقال تعالى : { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } وأما : الأمر الديني : فقال تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } وأما " الإذن " فقال في الكوني لما ذكر السحر : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } أي بمشيئته وقدرته ؛ وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل . وقال في " الإذن الديني " : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } { وداعيا إلى الله بإذنه } وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } . وأما " القضاء " فقال في الكوني : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } وقال سبحانه : { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وقال في الديني : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } أي أمر وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } وقول الخليل عليه السلام لقومه : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } وقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { ولا أنا عابد ما عبدتم } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { لكم دينكم ولي دين } وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك ؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } . ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم كمن ظن أن قوله { وقضى ربك } بمعنى قدر وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله ؛ فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب . وأما لفظ " البعث " فقال تعالى في البعث الكوني : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا } وقال في البعث الديني : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } . وأما لفظ " الإرسال " فقال في الإرسال الكوني : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } وقال تعالى : { وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } وقال في الديني { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وقال تعالى : { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } وقال تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } وقال تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } . وأما لفظ " الجعل " فقال في الكوني : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } وقال في الديني : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } . وأما لفظ " التحريم " فقال في الكوني : { وحرمنا عليه المراضع من قبل } وقال تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } وقال في الديني { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } وقال تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } الآية . وأما لفظ " الكلمات " فقال في الكلمات الكونية { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " { أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون } " وقال صلى الله عليه وسلم " { من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك } " وكان يقول : " { أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن } " . و " { كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر } " هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته . وأما " كلماته الدينية " وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار . وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية . وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر ؛ فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب . وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور وصبروا على المقدور فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه . وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم . وبسط هذه الجمل له موضع آخر وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع " الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " وجمع الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه . قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الآية وقال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } . وقال في أعدائه { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وقال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وقال : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } { والشعراء يتبعهم الغاوون } { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } وقال تعالى : { فلا أقسم بما تبصرون } { وما لا تبصرون } { إنه لقول رسول كريم } { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } { تنزيل من رب العالمين } { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } { لأخذنا منه باليمين } { ثم لقطعنا منه الوتين } { فما منكم من أحد عنه حاجزين } { وإنه لتذكرة للمتقين } { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } { وإنه لحسرة على الكافرين } { وإنه لحق اليقين } { فسبح باسم ربك العظيم } وقال تعالى : { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } إلى قوله : { إن كانوا صادقين } . فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين ؛ وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه . قال الله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وقال تعالى : { وإنه لتنزيل رب العالمين } { نزل به الروح الأمين } { على قلبك لتكون من المنذرين } { بلسان عربي مبين } وقال تعالى : { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } الآية . وقال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } إلى قوله { وبشرى للمسلمين } فسماه الروح الأمين وسماه روح القدس . وقال تعالى : { فلا أقسم بالخنس } { الجواري الكنس } يعني : الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي : مختفية قبل طلوعها فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها { والليل إذا عسعس } أي إذا أدبر وأقبل الصبح { والصبح إذا تنفس } أي أقبل { إنه لقول رسول كريم } وهو جبريل عليه السلام { ذي قوة عند ذي العرش مكين } { مطاع ثم أمين } أي مطاع في السماء أمين ثم قال : { وما صاحبكم بمجنون } أي صاحبكم الذي من الله عليكم به إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون } { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } الآية . وقال تعالى : { ولقد رآه بالأفق المبين } أي رأى جبريل عليه السلام { وما هو على الغيب بضنين } أي بمتهم وفي القراءة الأخرى : { بضنين } أي ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجعل كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض . { وما هو بقول شيطان رجيم } فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانا كما نزه محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا أو كاهنا .
فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر ؛ ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف الله في قلوبهم من أنواره ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين . وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك . وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه وإتيان الشجر إليه وحنين الجذع إليه وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس وإخباره بما كان وما يكون وإتيانه بالكتاب العزيز وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سلمة المشهور وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفا ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قطعتين فأكلوا منها جميعهم ثم فضل فضلة ودين عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقا . قال جابر : فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لجابر جد له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة . وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا : مثل ما كان " أسيد بن حضير " يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين ؛ وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما . رواه البخاري وغيره . وقصة { الصديق في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا } . و " خبيب بن عدي " كان أسيرا عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة . و " عامر بن فهيرة : قتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع وقال : عروة : فيرون الملائكة رفعته . وخرجت " أم أيمن " مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها . و " سفينة " مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده . و " البراء بن مالك " كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون : يا براء أقسم على ربك فيقول : يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو فلما كان يوم " القادسية " قال : أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا . و " خالد بن الوليد " حاصر حصنا منيعا فقالوا لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره . و " سعد بن أبي وقاص " كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق . و " عمر بن الخطاب " لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى " سارية " فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل فقدم رسول الجيش فسأل فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح : يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله . ولما عذبت " الزبيرة " على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها قال المشركون أصاب بصرها اللات والعزى قالت كلا والله فرد الله عليها بصرها . ودعا " سعيد بن زيد " على أروى بنت الحكم فأعمي بصرها لما كذبت عليه فقال : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت . " والعلاء بن الحضرمي " كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه : يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم فيستجاب له ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم ؛ ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد . وجرى مثل ذلك " لأبي مسلم الخولاني " الذي ألقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال : تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه فقال بعضهم : فقدت مخلاة فقال اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له : أتشهد أني رسول الله . قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما ؛ وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله . ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره . وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها . وكان " عامر بن عبد قيس " يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه وما يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها . ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال : إنما أنت كلب من كلاب الرحمن وإني أستحي أن أخاف شيئا غيره ومرت القافلة ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء فكان يؤتى بالماء له بخار ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه . وتغيب " الحسن البصري " عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا . و " صلة بن أشيم " مات فرسه وهو في الغزو فقال اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه . فلما وصل إلى بيته قال يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية فأخذ سرجه فمات الفرس وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا . وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل فلما سلم قال له اطلب الرزق من غير هذا الموضع فولى الأسد وله زئير . وكان " سعيد بن المسيب " في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره . ورجل من " النخع " كان له حمار فمات في الطريق فقال له أصحابه هلم نتوزع متاعك على رحالنا فقال لهم : أمهلوني هنيهة ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره فحمل عليه متاعه . ولما مات " أويس القرني " وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه قبل ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب . وكان " عمرو بن عقبة بن فرقد " يصلي يوما في شدة الحر فأظلته غمامة وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم . وكان " مطرف بن عبد الله بن الشخير " إذا دخل بيته سبحت معه آنيته وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط . ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر . وكان " إبراهيم التيمي " يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا وخرج يمتار لأهله طعاما فلم يقدر عليه فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا . وكان " عتبة الغلام " سأل ربه ثلاث خصال صوتا حسنا ودمعا غزيرا وطعاما من غير تكلف . فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية دهره وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه . وكان " عبد الواحد بن زيد " أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده . وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع . وأما ما نعرفه عن أعيان ونعرفه في هذا الزمان فكثير . ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته ؛ ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة ؛ بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة . وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال { عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال ؛ لكنه كان من جنس الكهان قال له النبي صلى الله عليه وسلم قد خبأت لك خبئا قال : الدخ الدخ . وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اخسأ فلن تعدو قدرك } " يعني إنما أنت من إخوان الكهان ؛ والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع وكانوا يخلطون الصدق بالكذب كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم { قال : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم } " وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " { بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه ؟ قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ؛ ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش ماذا قال ربنا ؟ فيخبرونهم ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون } " . وفي رواية قال معمر قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية قال نعم ولكنها غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم . و " الأسود العنسي " الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه : حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه . وكذلك " مسيلمة الكذاب " كان معه من الشياطين من يخبره . بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور وأمثال هؤلاء كثيرون مثل : الحارث الدمشقي " الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد وتمنع السلاح أن ينفذ فيه وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده وكان يرى الناس رجالا وركبانا على خيل في الهواء ويقول : هي الملائكة وإنما كانوا جنا ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه فقال له عبد الملك : إنك لم تسم الله فسمى الله فطعنه فقتله . وهكذا أهل " الأحوال الشيطانية " تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه { لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة فيقول زعم أنه لا يعود فيقول كذبك وإنه سيعود فلما كان في المرة الثالثة . قال : دعني حتى أعلمك ما ينفعك : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال صدقك وهو كذوب } " وأخبره أنه شيطان . ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس ولبسه وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال ولهذا قد يضرب المصروع وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه . ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا ؛ بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات ولا يلبي ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت ؛ ولا يسعى بين الصفا والمروة ولا يرمي الجمار بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته وهذا ليس بحج [ ولهذا رأى بعض هؤلاء الملائكة تكتب الحجاج ] فقال ألا تكتبوني ؟ فقالوا لست من الحجاج . يعني حجا شرعيا .
وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة : منها أن " كرامات الأولياء " سببها الإيمان والتقوى و " الأحوال الشيطانية " سببها ما نهى الله عنه ورسوله . وقد قال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية . ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد . ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين . ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له : أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ويقضي الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل على زوجته ويذهب وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته . ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال : إذا أنا مت فلا تدع أحدا يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله - أي غسل الميت - غاب وكان ذلك شيطانا وكان قد أضل الميت وقال : إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك . ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول أنا ربك فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول . ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين وقد جرى هذا لغير واحد ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر : إما الصديق رضي الله عنه أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر . وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه . إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت . والجبت السحر والطاغوت الشياطين والأصنام وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته . ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب أقرب إلى الأحوال الشيطانية فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } " . وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال : " { إن من آمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله . لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } " . وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال " { إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيها تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } " . وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم قال " { إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد } " وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } " وفي الموطأ عنه أنه قال " { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } " . وفي السنن عنه أنه قال " { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } " . وقال صلى الله عليه وسلم " { ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } " وقال صلى الله عليه وسلم " { إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام } " وقال صلى الله عليه وسلم " { أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ؛ فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت - أي بليت ؟ - فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء } " . وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال ابن عباس وغيره من السلف : هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين فسد هذا الباب . والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها - كما يفعل أهل دعوة الكواكب - فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب وهو شيطان والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين وكذلك من استغاث بميت أو غائب وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد ويروون حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو : " { إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور } " وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك . ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين : مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه . يفعل الشيطان هذا ليضلهم وإذ قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا فإن التوحيد يطرد الشيطان ؛ ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال : لا إله إلا الله فسقط ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان . وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع .
ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرا ما تأوي إلى المغارات والجبال : مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون وجبل لبنان الذي بساحل الشام وجبل الفتح بأسوان بمصر وجبال بالروم وخراسان وجبال بالجزيرة وغير ذلك وجبل اللكام وجبل الأحيش وجبل سولان قرب أردبيل وجبل شهنك عند تبريز وجبل ماشكو عند أقشوان وجبل نهاوند وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب وإنما هناك رجال من الجن فالجن رجال كما أن الإنس رجال قال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } . ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد الماعز فيظن من لا يعرفه أنه إنسي وإنما هو جني ويقال بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال كما يعرف ذلك بطرق متعددة . وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه وذكر ما نعرفه من ذلك فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك .
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام : " قسم " يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء وربما صدق به مجملا وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء . ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليا لله وكلا الأمرين خطأ ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله . وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة والصواب القول الثالث وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل كما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله ؛ لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضا وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلا أو عمدا ومن الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين . قال الله تعالى { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } والأفاك الكذاب . والأثيم الفاجر . ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي وهو سماع المشركين قال الله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف " التصدية " التصفيق باليد و " المكاء " مثل الصفير فكان المشركون يتخذون هذا عبادة وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك والاجتماعات الشرعية ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف ولا تواجد ولا سقطت بردته ؛ بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه . وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون { ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا } أي لحسنته لك تحسينا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { زينوا القرآن بأصواتكم } " وقال صلى الله عليه وسلم " { لله أشهد أذنا أي استماعا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } " : { وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود اقرأ علي القرآن فقال أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى انتهيت إلى هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } قال : حسبك فإذا عيناه تذرفان من البكاء } " . ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن فقال : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } وقال في أهل المعرفة : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } وأما السماع المحدث سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم . ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر وهو بمنزلة الخمر يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر ؛ ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين وتكلمت على ألسنة بعضهم وحملت بعضهم في الهواء وقد تحصل عداوة بينهم كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين ؛ فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته . وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات ومنها ما هو من جنس الغنى عن جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى . وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله وعلت درجته وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش استحق بذلك الذم والعقاب فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين ؛ ولهذا كثيرا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه . وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة وتارة ينزل إلى درجة الفساق وتارة يرتد عن الإسلام . وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية ؛ فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الإسلام وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدا خرق عادة لم يحاسبه على ذلك كمن يظن أن الله [ إذا ] أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا لم يحاسبه عليه ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورا بها ولا منهيا عنها فهذا يكون من عموم الأولياء وهم الأبرار المقتصدون وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك . ولما كانت الخوارق كثيرا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى كما يتوب من الذنوب : كالزنا والسرقة وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها ولا يجعلها همته ولا يتبجح بها ؛ مع ظنهم أنها كرامات فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول : هنيئا لك يا ولي الله فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك . وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول : خذني حتى يأكلني الفقراء ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تمر به أنوار أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله . وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء ؛ فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا أو شمالا ذهب حيث أراد وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر وتحمله إلى مكة وتأتي به وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك فيقول في نفسه : كيف تصوروا بصورة المردان فيرفع رأسه فيجدهم بلحى ويقول له علامة إنك أنت المهدي إنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك وكله من مكر الشيطان . وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير وقد قال تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني } قال الله تبارك وتعالى : { كلا } ولفظ ( كلا فيها زجر وتنبيه : زجر عن مثل هذا القول وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرما له بها ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينا له بذلك ؛ بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه . ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك . وقد يحمي منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منه . وأيضا " كرامات الأولياء " لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء وإنما تحصل عند الشرك : مثل دعاء الميت والغائب أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات : كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات ومثل الغناء والرقص ؛ لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا أو ينقر الصلاة نقر الديك وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد . فهذه أحوال شيطانية ؛ وهو ممن يتناوله قوله تعالى { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } . فالقرآن هو ذكر الرحمن قال الله تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } يعني تركت العمل بها قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ؛ ثم قرأ هذه الآية .
فصل ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه فعليه أن يصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر سواء كان إنسيا أو جنيا . ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء } { أولئك في ضلال مبين } . وأنزل الله تعالى بعد ذلك { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا } { يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء . وقال غير واحد من السلف : كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانا وكفرا كما قال تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } { وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا } { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا } وكانت الشياطين ترمي بالشهب قبل أن ينزل القرآن ؛ لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا كما قالوا : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } وقال تعالى في الآية الأخرى : { وما تنزلت به الشياطين } { وما ينبغي لهم وما يستطيعون } { إنهم عن السمع لمعزولون } قالوا : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا } أي على مذاهب شتى كما قال العلماء منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا } أخبروا أنهم لا يعجزونه : لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } أي الظالمون يقال أقسط إذا عدل وقسط إذا جار وظلم { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } { لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } { قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا } { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } { قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا } أي ملجأ ومعاذا { إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا } { حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا } . ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وهم جن نصيبين كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وروي { أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد } . { ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علفا لدوابكم قال النبي صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لإخوانكم من الجن } وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك وقالوا فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى .
ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الإنس والجن وهذا أعظم قدرا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يأمرهم بما أمر الله به ورسوله لأنه عبد الله ورسوله ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك . وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع وأما مؤمنوهم فجمهور العلماء على أنهم يدخلون الجنة وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول . لكن منهم النذر وهذه المسائل لبسطها موضع آخر . والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال : فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه . ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول : كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص : إما فاسق وإما مذنب غير فاسق وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات : مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به . وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية فيمكرون به بحسب اعتقاده فإن كان مشركا يعبد الكواكب والأوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أو شيخ صالح فيظن أنه صالح وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان قال الله تعالى : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } . ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له ؛ ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون . فإن كان نصرانيا واستغاث بجرجس أو غيره جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به وإن كان منتسبا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين جاء في صورة ذلك الشيخ وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك . ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم وإنما هو بتوسط الشيطان . ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة فقال : يرونني الجن شيئا براقا مثل الماء والزجاج ويمثلون له فيه ما يطلب منه الإخبار به قال : فأخبر الناس به ويوصلون إلي كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه . وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها وقال إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة كما يدخل النار بحجر الطلق وقشور النارنج ودهن الضفادع وغير ذلك من الحيل الطبيعية فيعجب هؤلاء المشايخ ويقولون نحن والله لا نعرف شيئا من هذه الحيل . فلما ذكر لهم الخبير إنكم لصادقون في ذلك ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله فلا تحصل عندما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه ؛ لا من كرامات الرحمن لأوليائه . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه وأنصاره واشياعه وخلفائه سلاما نتسوجب بهما شفاعته امين