الشرك في المحبة

قلنا فيما سبق‏:‏ إن الخوف من الله تعالى لا بد أن يكون مقرونا بمحبته سبحانه؛ لأن تعبده بالخوف فقط هو أصل دين الخوارج‏.‏

فالمحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه؛ فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان‏.‏

والمراد بالمحبة هنا‏:‏ محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة وإيثار المحبوب على غيره، فهذه المحبة خالصة لله، لا يجوز أن يشرك معه فيها أحد؛ لأن المحبة قسمان‏:‏

محبة مختصة‏:‏ وهي محبة العبودية التي تستلزم كمال الذل والطاعة للمحبوب، وهذه خاصة بالله سبحانه وتعالى‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ محبة مشتركة، وهي ثلاثة أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ محبة طبيعية؛ كمحبة الجائع للطعام‏.‏

النوع الثاني‏:‏ محبة إشفاق؛ كمحبة الوالد لولده‏.‏

النوع الثالث‏:‏ محبة أنس وإلف؛ كمحبة الشريك لشريكه والصديق لصديقه‏.‏

وهذه المحبة بأقسامها الثلاثة لا تستلزم التعظيم والذل، ولا يؤاخذ أحد بها، ولا تزاحم المحبة المختصة، فلا يكون وجودها شركا؛ لكن لا بد أن تكون المحبة المختصة مقدمة عليها‏.‏

والمحبة المختصة- وهي محبة العبودية- هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏

قال الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية‏:‏ ‏"‏أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى؛ فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فى الحب والتعظيم‏"‏‏.‏

وقال ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏يذكر تعالى حال المشركين في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال؛ حيث جعلوا لله أندادا؛ أي‏:‏ أمثلا ونظراء‏.‏ ‏{‏يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ ؛ أي‏:‏ يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم‏"‏‏.‏

وهذا الذي قاله ابن كثير رحمه الله هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ كما حكى الله هذه التسوية عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ؛ أي‏:‏ أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لله، وقيل‏:‏ أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم، فدلت الآية على أن من أحب شيئا كحب الله، فقد اتخذه ندا لله‏.‏

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله‏:‏ ‏"‏وفيه أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله؛ فهو الشرك الأكبر‏"‏‏.‏

وقلنا قريبا‏:‏ إن محبة الله التي هي محبة العبودية يجب أن تقدم على المحبة التي ليست عبودية، وهي المحبة المشتركة؛ كمحبة الآباء والأولاد والأزواج والأموال؛ لأن الله توعد من قدم هذه المحبة على محبة الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ؛ فتوعد سبحانه من قدم هذه المحبوبات الثمان على محبة الله ورسوله والأعمال التى يحبها، ولم يتوعد على مجرد حب هذه الأشياء؛ لأن هذا شيء جبل عليه الإنسان، ليس اختياريا، وإنما توعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله، فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده‏.‏ فمحبة الله لها علامات تدل عليها‏:‏

منها‏:‏ أن من أحب الله تعالى؛ فإنه يقدم ما يحبه الله من الأعمال على ما تحبه نفسه من الشهوات والملذات والأموال والأولاد والأوطان‏.‏

ومنها‏:‏ أن من أحب الله تعالى؛ فإنه يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فيفعل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ‏}‏

قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ ؛ ففي الآية بيان دليل محبة الله وثمرتها وفائدتها؛ فدليلها وعلامتها‏:‏ اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها‏:‏ نيل محبة الله للعبد ومغفرته لذنوبه‏"‏‏.‏

ومن علامات صدق محبة العبد لله‏:‏ ما ذكره الله بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏}‏ ؛ فذكر في هذه الآية الكريمة لمحبة الله أربع علامات

العلامة الأولى‏.‏ أن المحبين لله يكونون أذلة على المؤمنين؛ بمعنى أنهم يشفقون عليهم ويرحمونهم ويعطفون عليهم‏.‏ قال عطاء‏:‏ ‏"‏يكونون للمؤمنين كالوالد لولده‏"‏‏.‏

العلامة الثانية‏.‏ أنهم يكونون أعزة على الكافرين؛ أي‏:‏ يظهرون لهم الغلظة والشدة والترفع عليهم، ولا يظهرون لهم الخضوع والضعف‏.‏

العلامة الثالثة‏.‏ أنهم يجاهدون في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان لإعزاز دين الله وقمع أعدائه بكل وسيلة‏.‏

العلامة الرابعة‏.‏ أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يؤثر فيهم ازدراء الناس لهم ولومهم إياهم على ما يبذلون من أنفسهم وأموالهم لنصرة الحق؛ لقناعتهم بصحة ما هم عليه وقوة إيمانهم ويقينهم، فكل محب يؤثر فيه اللوم فيضعفه عن مناصرة حبيبه فليس بمحب على الحقيقة‏.‏

والأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى عشرة أشياء ذكرها ابن القيم رحمه الله وهي‏:‏

أحدها‏.‏ قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به‏.‏

الثاني‏.‏ التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض‏.‏

الثالث‏.‏ دوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب والعمل‏.‏

الرابع‏.‏ إيثار ما يحبه الله على ما يحبه العبد عند تزاحم المحبتين‏.‏

الخامس‏.‏ التأمل في أسماء الله وصفاته وما تدل عليه من الكمال والجلال وما لها من الآثار الحميدة‏.‏

السادس‏.‏ التأمل في نعم الله الظاهرة والباطنة، ومشاهدة بره وإحسانه وإنعامه على عباده‏.‏

السابع‏.‏ انكسار القلب بين يدي الله وافتقاره إليه‏.‏

الثامن‏.‏ الخلوة بالله وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، وتلاوة القرآن في هذا الوقت، وختم ذلك بالاستغفار والتوبة‏.‏

التاسع‏.‏ مجالسة أهل الخير والصلاح المحبين لله عز وجل والاستفادة من كلامهم‏.‏

العاشر‏.‏ الابتعاد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله من الشواغل‏.‏

ومن توابع محبة الله ولوازمها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏)‏ ؛ أي‏:‏ لا يؤمن الإيمان الكامل إلا من كان الرسول أحب إليه من نفسه وأقرب الناس إليه‏.‏

ومحبة الرسول تابعة لمحبة الله ملازمة لها، ومن أحب الرسول صلى الله عليه وسلم اتبعه؛ فمن ادعى محبته عليه الصلاة والسلام وهو يخالفه فيما جاء به فيطيع غيره من المنحرفين والمبتدعين والمخرفين فيحيي البدع ويترك السنن؛ فهو كاذب في دعواه أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المحب يطيع محبوبه‏.‏

فالذين يحدثون البدع المخالفة لسنة الرسول بإحياء الموالد وغيرها من البدع، أو يفعلون ما هو أعظم من ذلك من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه من دون الله، وطلب المدد منه والاستغاثة به، ومع هذا يدعون أنهم يحبونه؛ فهذا من أعظم الكذب، وهم كالذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الأمور، وقد خالفوا نهيه وارتكبوا معصيته، وهم يدعون أنهم يحبونه، فكذبوا؛ نسأل الله العافية‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

================================
من كتاب الارشاد إلى صحيح الاعتقاد