قال الشيخ علي بن ناصر الفقيهي حفظه الله في ( الرد القويم البالغ على الخليلي الإباضي في كتابه المسمى بالحق الدامغ) : وإليك ما اختاره المؤلف من أدلة المثبتين لرؤية الله يوم القيامة ثم رده له بتأويلاته المردودة عليه. فقال في (ص42) وأما القسم الثاني وهو: أدلة وقوعها في الآخرة، فهو نقول بعضها من الكتاب، وبعضها من السنة. فمن الكتاب: 1- قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذ ناضرة .إلى ربّها ناظرة} [القيامة:22-23] قال: وهو أقوى مااستندوا إليه في هذا الباب. ثم بدأ بالرد فقال: (واعتُرِضُوا بأن النظر أعم من الرؤية، فإنه يكون بمعنى محاولتها ولو لم تتحقق لجواز أن يقول قائل: نظرت إلى كذا فلم أره، مع عدم جواز أن يقول رأيته فلم أره، ففي القاموس مانصه: «نظره كنصره وسمعه وإليه نظراً ومنظراً ونظراناً، ومنظرة وتنظاراً تأمله بعينه» ). قال: (وفي شرحه للإمام الزبيدي نقلاً عن البصائر والنظر أيضاً تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، -إلى أن قال-: ثم قال الشارح: ويقال نظرت إلى كذا إذا مددت طرفك إليه رأيته أو لم تره). ثم قال: (وقد شاع النظر بمعنى الانتظار كقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة:210]. وقوله: {ماينظرون إلا صيحة واحدة} [يس:49]. وقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} [ الحديد:13].

قال: وعليه يتعين حمل النظر في هذه الآية لوجوه: أ- إبعاد تأويل القرآن عن تعارض بعضه مع بعض، فإنّ حَمْل النظر في الآية على الرؤية يتعارض مع أدلة نفيها القطعية. ب- الانسجام المعهود في آي القرآن وارتباط بعضها مع بعض وهو لايكون إلا بتفسير النظر بالانتظار … إلخ. جـ- إن هذا التأويل هو الذي يتفق مع مافي خاتمة عبس، وهو قوله سبحانه: {وجوهٌ يومئذ مُسفرةٌ . ضاحكة مستبشرة . ووجوه يومئذ عليها غبرة . ترهقها قترة}. [عبس:38-41]. قال: إذ لافارق بين ماوُصفت به وجوه المؤمنين هنا من الاستبشار، ووصفت به في آية القيامة من النظر بمعنى الانتظار، فإن المنتظر للرحمة مستبشر بها والمستبشر منتظر لما استبشر به… )إلخ. فهذا خلاصة ماعند المؤلف الخليلي الإباضي، من محاولة لرد دلالة الآية على النظر إلى ربها بالأبصار، وإنما المقصود به الانتظار،كما يقول، ومعلوم أن هذا هو ردّ المعتزلة للآية، ويظهر للقارئ أن الذي عند المؤلف هو رد الآيات بالدلالة اللغوية، وأن معنى النظر هنا هو الانتظار، ورد دلالة الآيات ثم دعواه أنه فسر الآية بذلك، حتى لا تتعارض مع أدلة نفي الرؤية القطعية كما يقول (ص:42-44). وإليك دحض تلك الشبه والرد عليها بما يبين زيفها ومغالطة مدعيها وذلك بما يأتي: أولاً: بيان معاني النظر، فإن له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعدّيه بنفسه، وليس محصوراً في معنى الانتظار، وإليك تلك المعاني: 1- فإن عدّي بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار كقوله تعالى:{انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد:13 ]. 2- وإن عدّي بفي فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض..} [الأعراف:185]. 3- وإن عدّي، بإلى فمعناه: المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} [الأنعام:99]. قال أبو منصور الأزهري في كتابه تهذيب اللغة (14/371): (ومن قال: إن معنى قوله: {إلى ربها ناظرة}: بمعنى منتظرة فقد أخطأ، لأن العرب لاتقول: نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته، وإنما تقول: نظرت فلاناً، أي انتظرته ومنه قول الحطيئة: وقد نظرتكم أبناءَ صادرةٍ ** **للوِرْدِ طال بها حوزي(44) وتنساسي(45) فإذا قلت: نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت: نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكراً وتدبراً بالقلب)ا هـ. [(44) الحوز: السير الشديد والرُّويد. لسان العرب: مادة (حوز).] [( 45) النساس: السوق الشديد. لسان العرب: مادة (نس).] فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر، كما في هذه الآية: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة}. فهذا هو بيان معاني النظر عند علماء اللغة، وعلماء الشريعة أهل السنة والجماعة الذين يريدون الحق ويعملون به ويدعون إليه. أما المؤلف الخليلي الإباضي فلم يذكر إلا المعنى الذي يريده، وهو الانتظار. ثانياً:دعوى الخليلي الإباضي أنه سلك هذا التأويل من أجل أن لاتتعارض الآية مع أدلة نفي الرؤية القطعية. وهذا مسلك غريب وعجيب من الخليلي، ونحن نقول: أين أدلة نفي الرؤية القطعية في الآخرة، وفي عرصات القيامة، وبعد دخول المؤمنين الجنة؟ والرد عليه من وجهين : الأول: إنك أيها الإباضي، لم تأت بدليل واحد، فلا آية محكمة من كتاب الله عز وجل، ولارواية قائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولاسقيمة، تستطيع أن تأتي بها لتدلل على ماذكرت، وإنما الذي جئت به تلبيس وتدليس، وذلك بإيرادك الأدلة الصريحة، على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج، وهذه رؤية في الدنيا لا في الآخرة، وأهل السنة جميعاً ينفون الرؤية في الدنيا. وهذا هو عين التلبيس والتدليس، بحيث تحمل أدلة نفي الرؤية في الدنيا على نفيها في الدنيا والآخرة. الثاني: الرد للنصوص من كتاب الله بالتأويل الباطل، بحيث تأخذ معنى واحداً من معاني اللغة، وتحمل الآية عليه تبعاً لما تهوى وهذا صنيع فُتِنْتَ به، وفَتَنْتَ به السُذَّجَ من الناس الذي يُغرّون بزخرف القول وقلب الحقائق. وأما قولك: (إن هذا التأويل هو الذي يتفق مع مافي خاتمة (سورة عبس) وهو قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة. ووجوه يومئذ عليها غبرة. ترهقها قترة} [عبس:38-41] وأنه لافرق بين ماوصفت به وجوه المؤمنين هنا من الاستبشار، وما وُصِفَت به في آية القيامة من النظر بمعنى الانتظار. فالجواب على ذلك: 1- أن الفرق بين الانتظار والنظر، لاخلاف فيه عند العقلاء؛ فإن الانتظار تنغيص، والنظر إكرام من الله لعباده المؤمنين. وقد سبق أن النظر إذا عدّي بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار كما في سورة القيامة، فكيف وقد أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر. 2- إن آيات (عبس) فيها بيان لما يكرم الله به عباده المؤمنين أصحاب السعادة، ومايجازي به أهل الشقاوة، فإنه سبحانه وتعالى كثيراً ما يقارن في كتابه الكريم بين حال أهل السعادة، وحال أهل الشقاوة في الآخرة، تذكيراً لعباده ليأخذوا بأسباب السعادة، ويجتنبوا أسباب الشقاوة. وبهذا يتضح أن آية عبس: {وجوه يومئذ مسفرة} ليست مُفَسّرةً ولا مرادفة لقوله تعالى في سورة القيامة: {إلى ربها ناظرة} كمايدعي الخليلي، لأن النظر غير الإسفار، فالنظر يكون بالعين، والإسفار لون يظهر على الوجه. وقد جاء في آية القيامة: {وجوه يومئذ ناضرة} بالبياض والصفاء، {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر في وجه الله. رواه الطبري عن ابن عمر مرفوعاً وسيأتي نصه كاملاً، فالمؤمنون يجمع الله لهم بين نضرة الوجوه وإسفارها، ونظر العيون إلى وجهه الكريم. ومن المغالطات المقصودة الدالة على حب الإغواء والتضليل، قول المؤلف الخليلي الإباضي في (ص:48): (وقد أشكل على المثبتين للرؤية إسناد النظر في آية القيامة إلى الوجوه. قال: فترددوا بين القول: بأن الرؤية بالبصر، أو بالوجه، أو بالجسم كله، أو بحاسة سادسة..)إلخ ما قال. والجواب على هذه التهمة -ذات التشكيك فيما لاشك فيه- بما يأتي: أولاً: إن أدلة الرؤية عند المثبتين لها ليست محصورة في هذه الآية وحدها، وإن كانت صريحة في ذلك، ولكن هناك أدلة من الكتاب ومن السنة بلغت حد التواتر سيأتي ذكرها. ثانياً-قوله: (وقد أشكل على مثبتي الرؤية إسناد النظر إلى الوجوه فهل تكون الرؤية بالوجه؟..)إلخ ماقال. فنقول: إن هذه مغالطة مضحكة لسخافتها، وتضليل لمن قلَّ نصيبه من العلم يحمل الخليلي وزرها ووزر من أضل واستغفل؛ لأن أحداً مهما بلغ من الغباوة لايفهم هذا الفهم السقيم الذي أورده المؤلف، وإنما يفهم أن الوجوه تنظر بأعينها، فإذا قال القائل: رأيت المسجد الحرام، فلا يفهم السامع من العرب والعجم إلا أنه رآه بعيني رأسه التي يعتبر الوجه محلاً لها. وثالثاً: نقول للمؤلف: في أي كتاب وجدت هذا من كتب أهل السنة والجماعة المثبتين للرؤية؟ وأعني بأهل السنة السلف الصالح الصحابة ومن سار على منهجهم، كالبخاري، ومسلم وأمثالهما، والأئمة الأربعة وأتباعهم الذين هم على طريقتهم ومنهجهم،ممن وصفتهم بالمشبهة، والمجسمة، والحشوية، لأنهم أثبتوا لله ماأثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الجلال والكمال على أساس قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} والذين يعتبر النقل عنهم والاستدلال به هو الحق لاعتمادهم على الأثر لا أهل الكلام الذين يعتمدون فيما يثبتون وينفون على آراء الرجال والجاهلين بنصوص الكتاب والسنة، وعقول أهل الفلسفة الذين حكمت لهم بأن الحق معهم في تأويل صفات الله عز وجل وصرفها عما دلت عليه من المعاني الصحيحة، والأحكام الصريحة كما في (ص:12) لأنك ذكرت هذه السخافة المضحكة ونسبتها للمثبتين للرؤية، ولم تذكر مرجعاً لذلك من كتبهم بل العجيب أن هذا هو قول المعتزلة ( 46). [( 46) وقد أظهر الله الحق ودمغ الباطل؛ فإن هذا هو قول ضرار بن عمرو المعتـزلي، وتبعه حفص الفرد المعتزلي الذي كفّره الإمام الشافعي . انظر الفرق بين الفرق ص214. وانظر ترجمة ضرار بن عمرو في ميزان الاعتدال1/328 رقم الترجمة (3953) وترجمة حفص الفرد، ميزان الاعتدال 1/564 رقم الترجمة (2143)، فكيف يسوّغ الخليلي لنفسه مثل هذا الافتراء على مثبتي الرؤية.]