فصل في الاستدلال بأن الله سمى الصلاة وسائر الطاعات إيماناً
- الإيمان قول وعمل -
لشيخ الإسلام والمسلمين
أبو العباس أحمد بن عبدالحليم الحراني ابن تيمية
رحمه الله رحمة واسعة وسائر العلماء والمسلمين
الْأَبْرَارُ أَهْلُ الْيَمِينِ هُمْ أَيْضًا عَلَى دَرَجَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } الْآيَةُ فَدَرَجَةُ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَمَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِمْ : لَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْمَعْنَى : أَيْ لَيْسَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ مَنْ حَقَّقَ خَاصَّةَ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَوْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا يُمْدَحُ مَدْحَ أُولَئِكَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبِينَ . فَيُقَالُ : وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْإِيمَانَ . فَيُقَالُ : هُوَ مُسْلِمٌ لَا مُؤْمِنٌ كَمَا يُقَالُ : لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا مُفْتٍ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَهَذَا كَثِيرٌ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } . وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ كَمَا قَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } كَمَا قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } وَكَمَا قَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؛ وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ ؛ لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ : مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ ؛ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَدْ قَالَ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ .
المصدر: كتاب الإيمان الكبير - فصل في الاستدلال بأن الله سمى الصلاة وسائر الطاعات إيمانا > الإيمان قول وعمل .