6- نقل في المقال المذكور عن الشيخ حسن البنا رحمه الله ما نصه : ( نجتمع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) .

والجواب أن يقال :

نعم يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه من نصر الحق والدعوة إليه والتحذير مما نهى الله عنه ورسوله ، أما عذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه بل هو محل تفصيل ، فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفى دليلها فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض ، أما ما خالف النص من الكتاب والسنة فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عملا بقوله تعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقوله سبحانه : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

وقوله عز وجل : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وقوله صلى الله عليه وسلم : من دل على خير فله مثل أجر فاعله " أخرجهما مسلم في صحيحه . والآيات والأحاديث في هذا كثيرة .

الفرقة مذمومة والحكم عند التنازع للكتاب والسنة
7- ثم نعى الكاتب الشيخ محمد علي الصابوني في مقاله الثاني على المسلمين تفرقهم إلى سلفي وأشعري وصوفي وماتريدي . . إلخ . ولا شك أن هذا التفرق يؤلم كل مسلم ويجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق ويتعاونوا على البر والتقوى ، ولكن الله سبحانه قدر ذلك على الأمة لحكم عظيمة وغايات محمودة يحمد عليها سبحانه ولا يعلم تفاصيلها سواه ، ومن ذلك التمييز بين أوليائه وأعدائه ، والتمييز بين المجتهدين في طلب الحق والمعرضين عنه المتبعين لأهوائهم ، إلى حكم أخرى ، وفي ذلك تصديق لنبيه ودليل على أنه رسول الله حقا لكونه صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا التفرق قبل وقوعه فوقع كما أخبر حيث قال : ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " قالوا من هي يا رسول الله؟ قال " هي الجماعة وفي رواية أخرى قال : " ما أنا عليه وأصحابي " وهذا يوجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق وأن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول لقول الله عز وجل : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقوله سبحانه : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ

وهاتان الآيتان الكريمتان تدلان على أن الواجب على المسلمين رد ما تنازعوا فيه في العقيدة وغيرها إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبذلك يتضح الحق لهم وتجتمع كلمتهم عليه ويتحد صفهم ضد أعدائهم ، أما بقاء كل طائفة على ما لديها من باطل وعدم التسليم للطائفة الأخرى فيما هي عليه من الحق فهذا هو المحذور والمنهي عنه وهو سبب تسليط الأعداء على المسلمين ، واللوم كل اللوم على من تمسك بالباطل وأبى أن ينصاع إلى الحق ، أما من تمسك بالحق ودعا إليه وأوضح بطلان ما خالفه فهذا لا لوم عليه بل هو مشكور وله أجران أجر اجتهاده وأجر إصابته للحق .
حقيقة مذهب أهل السنة
8- ذكر الصابوني في مقاله الثاني أن أهل السنة اشتهروا بمذهبين اثنين أحدهما : مذهب السلف ، والآخر : مذهب الخلف . . إلخ . والجواب أن يقال : هذا غلط بين لم يسبقه إليه أحد فيما أعلم ، فإن مذهب أهل السنة واحد فقط وهو ما درج عليه أصحاب رسول الله وأتباعهم بإحسان وهو إثبات أسماء الله وصفاته وإمرارها كما جاءت ، والإيمان بأنها حق وأن الله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله من غير تحريف ، ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض؛ بل يؤمنون بأن معانيها معلومة وأنها حق لائقة بالله سبحانه وتعالى لا يشابه خلقه في شيء منها ، ومذهب الخلف بخلاف ذلك كما يعلم ذلك من قرأ كلام هؤلاء وكلام هؤلاء . ثم ذكر أن أهل السنة يفوضون علم معاني الصفات إلى الله وكرر ذلك في غير موضع وقد أخطأ في ذلك ونسب إليهم ما هم براء منه كما تقدم بيان ذلك فيما نقلناه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن جمع من أهل السنة رحمة الله عليهم وإنما يفوض أهل السنة إلى الله سبحانه علم الكيفية لا علم المعاني كما سبق إيضاح ذلك .
أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه

9- ثم ذكر الصابوني - هداه الله - تنزيه الله سبحانه عن الجسم والحدقة والصماخ واللسان والحنجرة ، وهذا ليس بمذهب أهل السنة بل هو من أقوال أهل الكلام المذموم وتكلفهم ، فإن أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يثبتون له إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في النصوص نفي هذه الأمور ولا إثباتها فالواجب الكف عنها وعدم التعرض لها لا بنفي ولا إثبات ، ويغني عن ذلك قول أهل السنة في إثبات صفات الله وأسمائه أنه لا يشابه فيها خلقه وأنه سبحانه لا ند له ولا كفو له . قال الإمام أحمد رحمه الله : ( لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث ) .

وهذا هو معنى كلام غيره من أئمة السنة وأما ما وقع في كلام البيهقي رحمه الله في كتابه : ( الاعتقاد ) من هذه الأمور فهو مما دخل عليه من كلام المتكلمين وتكلفهم ، فراج عليه واعتقد صحته ، والحق أنه من كلام أهل البدع لا من كلام أهل السنة .

أهل السنة يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه دون أن يشبهوه بخلقه

10- ثم قال الصابوني في مقاله الثاني ما نصه : ( أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله بصورة غريبة عجيبة ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس له وجه ويدان وعينان وله ساق وأصابع وهو يمشي وينزل ويهرول ، ويقولون في تقرير هذه الصفات أن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج - يريد بزعمه أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول وأنه جلوس لا كما يتأوله المؤولون - فهذا والعياذ بالله عين الضلالة؛ لأنه شبه وجسم وهو كمن فر من حفرة صغيرة ليقع في هوة عميقة يتحطم فيها ويهوي فيها إلى مكان سحيق ) ا . هـ .

وأقول : أن الأخ الصابوني - هداه الله - قد جمع في هذا الكلام حقا وباطلا يعلمه كل صاحب سنة . وإليك أيها القارئ المؤمن التفصيل في ذلك : أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع فقد ثبتت في النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة ، وقال بها أهل السنة والجماعة وأثبتوها لله سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه . وهكذا النزول والهرولة جاءت بها الأحاديث الصحيحة ونطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأثبتها لربه عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه من غير مشابهة لخلقه ولا يعلم كيفية هذه الصفات إلا هو سبحانه . فإنكار الصابوني هذه الصفات إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم ، بل إنكار على الله عز وجل؛ لأنه سبحانه ذكر بعضها في كتابه العزيز وأوحى البعض الآخر لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وإنما يخبر عن الله سبحانه بما أوحى إليه ، فالصابوني هداه الله تارة يقول إنه يلتزم بمذهب أهل السنة وتارة يناقضه ويخالفه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ونسأل الله لنا وله الهداية والرجوع إلى الحق . وأما قوله : ( ويقولون في تقرير هذه الصفات إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج . . . إلخ ) .

فهذا القول أهل السنة براء منه بل هو من كلام المشبهة الذين كفرهم السلف الصالح وأنكروا مقالتهم لكونها مصادمة لقول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وما جاء في معناها من الآيات ، فلا يجوز لأحد أن يخلط بين كلام أهل الحق من أهل السنة وكلام أهل الباطل من المشبهة وغيرهم ولا يميز بينهما ، بل الواجب التفصيل والتمييز .
الأشعري والماتوريدي ليس أول من رد شبهات أهل الزيغ .

11- ثم زعم الصابوني في مقاله الثالث أن أول من كتب في أصول الدين ورد شبهات أهل الزيغ والضلال أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتوريدي . وهذا جزم غير صحيح فقد سبقهما في ذلك : الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، والإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، والإمام مالك رحمه الله ، والإمام أحمد بن حنبل ، والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة ، والإمام عثمان ابن سعيد الدارمي في الرد على المريسي ، والإمام عبد العزيز الكناني صاحب الحيدة وغيرهم ممن لا يحصى .

مذهب أهل السنة واحد وهو أسلم وأعلم وأحكم

12- ثم كرر الصابوني هداه الله في مقاله الثالث قوله : ( إن السلف لهم مذهبان مذهب أهل التفويض ومذهب أهل التأويل ) إلى آخر ما قال . . . إلى أن قال : ( إن بعضهم يفضل مذهب السلف ويقول إنه أسلم والبعض الآخر يفضل مذهب الخلف ويقول هو أحكم ) ا . هـ .

والجواب : أن هذا التقسيم باطل كما تقدم ، وليس للسلف إلا مذهب واحد هو مذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان وهو الأسلم والأعلم والأحكم ، أما المذهب الثاني فهو مذهب الخلف المذموم ، وهو مذهب أهل التأويل والتحريف والتكلف ولا يلزم من ذم مذهب الخلف والتحذير منه القول بتكفيرهم ، فإن التكفير له حكم آخر يبنى على معرفة قول الشخص وما لديه من الباطل ومدى مخالفته للحق فلا يجوز أن يقال أنه يلزم من ذم مذهب الخلف أو الإنكار على الأشاعرة ما وقعوا فيه من تأويل الصفات وتحريفها إلا صفات قليلة استثنوها القول بتكفيرهم ، وإنما المقصود بيان مخالفتهم لأهل السنة في ذلك وبطلان ما ذهب إليه الخلف من التأويل وبيان أن الصواب هو مذهب السلف الصالح وهم أهل السنة والجماعة في إمرار آيات الصفات وأحاديثها وإثبات ما دلت عليه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل كما سبق ذكر ذلك غير مرة والله المستعان . ثم ذكر كلام البيهقي هنا وقد تقدم ما فيه وأنه رحمه الله دخلت عليه ألفاظ من ألفاظ أهل البدع فراجت عليه وظنها صوابا فأدخلها في كتابه وهو من جملة الذين خاضوا في الكلام وعلق باعتقاده بعض ما فيه من الشر سامحه الله وعفا عنه . كما نبه على ما يدل على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى جـ 6 ص 53 .