الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم : يهدون من ضل إلى الهدى ويبصرونهم من العمى ، ويحيون بكتاب الله الموتى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم عل الناس وما أسوأ أثر الناس عليهم .
وصلى الله على نبينا محمد المجتبى الأمين وآله وصحبه وسلم تسليمًا .
أما بعد : فإن الحديث عن العلماء – تبصيرًا بسيرهم ، وتعريفًا بحياتهم ، ونشرًا لفضائلهم ، وإذاعة لمناقبهم – مما ينفع الأمة أكبر النفع ، لأن فيه وصلَ الحاضر بالماضي ، وحثَّ المتأخر على الاقتداء بسجايا الخير التي تحلوا بها ، وفيه معرفة طلبة العلم بحال علمائهم وسيرتهم وفقههم وعلمهم وتقواهم وصلاحهم فينهلوا مما نهل منه أولئك العلماء حتى يلحق الركب بالركب ويقعَ الحافِرُ على الحافر ، وفيه تعريف أجيال الأمة المتلاحقة بأن أمتهم ودعوتهم ما وصلت إلى علو الشأن إلا بتوفيق الله وإعانته ثم بجهد وعمل بذله من تقدمهم فإن تواصل العمل تواصلت الريادة ، وإلا فالنقص ثم الزوال ، وفي الكلام عن العلماء فوائد لا تحصى في مثل هذه المقدمة .
من أولئك العلماء العاملين ، والجهابذة المحققين والأئمة المجاهدين الذين أثروا في حياة بلادنا والناس تأثيرًا ، تعليمًا ودعوة ، وقيادة وقدوة : العلامة الإمام محدث الفقهاء ، وفقيه المحدثين ، وداعية التوحيد مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي .

مولده – نشأته – أسرته :
ولد الشيخ رحمه الله في حي دخنة من مدينة الرياض في شهر الله المحرم سنة 1311هـ ، وأخواله الهلالي أسرة تسكن عرقة ، نشأ هذا المولود في بيئة ومجتمع زكي ، فأبوه وأعمامه أهل علم ودعوة وجهاد وصف ذلك الشيخ عبد الله بن بسام فقال : " كان مولده في بيت علم وفضل وزعامة دينية ، فنشأ على عادة أهله وآبائه محبًا للعلم طموحًا إلى الفضل " .
وينشأ الناشئ يقتبس من أخلاق وأوصاف من حوله ، فوالد الشيخ هو الشيخ الورع إبراهيم ابن عبد اللطيف قاضي مدينة الرياض ، وله رسائل وفتاوى ، كان رحمه الله متميزًا بالعدل الظاهر في قضائه ومقابلة الخصوم ، وكان ناظمًا للشعر مجيدًا له كأبيه عبد اللطيف .
وأما أعمام الشيخ محمد فأكبرهم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف عالم نجد بعد أبيه ، وقائدها وكريمها ، بهر الرجال بحنكته وعقله ، وأدهشهم بعلمه وفضله ، هابه أمراء المدن والأقاليم الذي عقبوا آل سعود فيما بين الدولتين السعودية الثانية والثالثة ، فأظهروا محبته تارة وأضافوه في بلادهم ، وأكرموه ، فما حل ببلد ولا قرية إلا نشر دعوة التوحيد والعلم النافع ثم رجع إلى الرياض ، ثم لما قدم الملك عبد العزيز رحمه الله الرياض كان سنده وعضده بعقل وحكمة ، بل إن كثيرًا من جند الملك عبد العزيز كانوا من المتأثرين بالشيخ المتخرجين في حلق علمه ومدرسته ، رحمه الله رحمة واسعة .
وكذلك بقية أعمام المترجم له كانوا أهل علم وفضل كالمشايخ محمد بن عبد اللطيف وعبد العزيز وعبد الرحمن وعمر ، ولهم أخبار وأحوال كالعبير رحيقًا ، وصفهم الواصفون بنعوت أشبهوا بها الأوائل سمتًا وهديًا وعبادة وصلاحًا وعلمًا ، رحمهم الله ووفق ذرياتهم .
نشأ الشيخ في هذه الأسرة فلا غرو أن أثرت فيه ، وقد نهل منها واحتذى حذوها ، فتوجه بتوفيق الله من أثر هذه البيئة والمجتمع الذي حوله إلى العلم قابسًا من عقل ذوي العقل ، وتقى ذوي التقى ، وغيرة ذوي الغيرة وكلهم ذاك الرجل ، فطلب العلم على قاعدة الدين والعمل والعقل والغيرة لله فكان ذلك معلمًا بارزًا لنبوغه وتهيُّؤه للقيادة والريادة .
لما بلغ السابعة من العمر أي سنة 1318هـ شرع يتعلم القرآن بتجويده نظرًا على المقرئ ذي الصوت العذب المؤثر عبد الرحمن بن مفيريج ، فأجاده نظرًا ، ثم ابتدأ حفظه في سن الحادية عشرة ، وتعلم الكتابة وكان إذ ذاك مبصرًا ، وكتابته في صغره حسنة على أصولها كما ينبئ عن ذلك ورقة فيها كتابته إذ ذاك .
بعد هذا الأساس الأول لمن يريد طلب العلم الشرعي بحق – أعني حفظ القرآن – شرع يقرأ على مشايخه فكان أولهم والده الشيخ إبراهيم ، فقرأ عليه في مختصرات رسائل أئمة الدعوة ونُبَذ إمام الدعوة رحمه الله ، كان يحفظ المتن ثم يقرؤه على والده ثم يشرح له والده ما يُفهِمه مرامي كلامِهم ، وأصول مسائلهم ، وهكذا ينبغي أن يكون التوحيد هو أول مُتَعَلَم ، وإنما يفهم ويضبط بضبط متونه قبل شروحه ، إذ من حفظ وضبط المتون حاز الفنون .
ولما بلغ قريبًا من السادسة عشرة مرض بالرمد في عينيه ، وطال معه إلى قرابة سنة ، إلى أن كفَّ بصره عوضه الله الجنة .
بعد هذا شرع في حفظ القرآن وتثبيته وتنوع القراءة على مشايخه ، كما سيأتي فيما بعدُ .
وفي 6/12/1329هـ تُوفي والده عن عمرٍ يقارب 49 سنة إذ مولده سنة 1280هـ وكان للشيخ إبراهيم أربعة أبناء كبيرهم عبد الله ( 1305 – 1386هـ ) ثم محمد ثم عبد اللطيف ( 1315 – 1386هـ ) ثم عبد الملك ( 1324 – 1404هـ ) ، وكلهم عُرِف بالعلم والحلم والسداد رحمهم الله أجمعين .
فكان الشيخ رحمه الله لصغار إخوته حانيًا ومربيًا ومعلمًا .

 تعلمه – مشايخه :
جدّ الشيخ في تلك السن المبكرة على طلب العلم ، فتنقل بين علماء بلده يأخذ عنهم العلوم الشرعية الأصلية والمساندة ، فأخذ عن كل شيخ من مشايخه العلوم التي يدرسها ، وبالأخص ما يتميز به كل شيخ من العلوم ، ولهذا برع فيما درس لبراعة مشايخه وحسن استعداده العلمي والفطري : ففي التوحيد صارت له يد التحقيق ، وفي الفقه رسخت قدمه في الاجتهاد ، وفي العربية وعلومها صار معلمها الشارح لها أحسن شرح وهكذا في سائر العلوم ، ولا غرو أن كان كذلك إذ إنه تتلمذ لمشايخ برعوا في علومهم ، ومشايخه هم :
1 – والده الشيخ إبراهيم . ( 1280 – 1329هـ ) .
2 – عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف . ( 1265 – 1339هـ ) .
3 – الشيخ النحوي الفرضي الفقيه حمد بن فارس . ( 1263 – 1345هـ ) .
4 – الشيخ المحدث الفقيه سعد بن عتيق . ( 1279 – 1345هـ ) .
5 – الشيخ الفرضي عبد الله بن راشد . ( وفاته 1339هـ ) .
6 – الشيخ الفقيه محمد بن محمود . ( 1250 – 1333هـ ) .
قرأ على والده أصول التوحيد ومختصراته ، والفرائض ، ثم توسع في الفرائض على الشيخ عبد الله ابن راشد فقرأ عليه ألفية الفرائض .
وقرأ على عمه كتبًا كثيرة حفظًا منها كتب العقائد والتوحيد ككتاب التوحيد وكشف الشبهات وثلاثة الأصول ونحوها ، وبقية كتب أئمة الدعوة ، وقرأ الواسطية والحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وحين يقال : قرأ فيعني حفظ غالبًا ، وفهم ذلك وجوَّده .
وقرأ في الفقه مختصراته أولاً على الشيخ حمد بن فارس فحفظ زاد المستقنع ، ثم قرأ على الشيخ محمد بن محمود ثم الشيخ سعد بن عتيق ، وكان هؤلاء الثلاثة ممن برعوا في الفقه وحققوا مسائله ، وضبطوا غرائبه .
وأما في الحديث : فقد حفظ بلوغ المرام وقريبًا من نصف " منتقى الأخبار " للمجد ابن تيمية وقرأهما على عمه الشيخ عبد الله ، وكرر قراءة بلوغ المرام على المحدث الشيخ سعد بن عتيق وأمرّ عليه ألفية العراقي .
وقد أُعطي إجازات في الحديث متنوعة وروى بأسانيده عددًا من الأحاديث إلى رسول الله  بسماعٍ لا إجازة ، ولولا خشية الإطالة لسقت ذلك مفصلاً .
وأما في علوم العربية : فقد حفظ من متونها ما به تثبت القدم ، ويرسخ الفهم ، فقرأ الآجرومية ، وملحة الإعراب للحريري ، وقطر الندى لابن هشام ، وألفية ابن مالك المشهورة ، قرأ هذه المتون على العلامة النحوي الحليم المتورع الفقيه الشيخ حمد بن فارس .
وقد دَرَّس الشيخ بعد ذلك هذه المتون النحوية فبرز في ذلك .
نعم .. إن للأخذ عن المشايخ فوائد مع الحصيلة العلمية ، فالتلميذ يقبس من أخلاق مشايخه ويتأثر بسجاياهم والخصال الجميلة التي يتحلون بها .
ولا غرو أن رأينا مشايخ الشيخ محمد بن إبراهيم متنوعين فيما منحهم الله به ، فهاهو الشيخ عبد الله عمه جمع إلى العلم الدهاء والعقل وحسن السياسة والقيادة ، والشيخ سعد بن عتيق جمع إلى العلم الصدع بالحق والقوة فيه ، والشيخ حمد بن فارس جمع إلى العلم الحلم العجيب والورع عن المشتبهات ، والتوقف عن المزلات .. وهكذا ، ومن نظر في خصال المترجم له وشخصيته وبنيته العقلية والخُلُقية والعلمية كاد أن يجزم أنه جمع المحاسن التي تفرقت في مشايخه ، وتحلى بالفضائل التي تبددت في غيره ، وليس في هذا مبالغة ولكن من عرفه علم ما ذكرناه .

 إخوانه – زملاؤه :
سبق أن ذكرت أن للشيخ ثلاثة من الأخوة هم الشيخ عبد الله وكان إمامًا لمسجد ابن شلوان في الرياض وكان – إضافة إلى علمه – متميزًا بصفاتٍ كلين العريكة وطيب المعشر وضبط الحديث وحسن الخلق ، وكان من العارفين بالأنساب الضابطين لها ، وكان أخباريًا ثبتًا في حديثه ، والشيخ عبد الله أسن من الشيخ محمد رحمهما الله ، وقد كان الشيخ ينيبه أحيانًا لخطبة الجمعة .
والشيخ عبد اللطيف كان حليف الود للشيخ محمد من صغره ، كان مرافقًا له في ذهابه وإيابه غالبًا ، قريبًا منه ، وكان معينًا له في تحضير الدروس ، والشيخ عبد اللطيف كان – إضافة إلى علمه الشرعي – من الأدباء الشعراء ، والنحويين الغرضيين ، فله الشعر الرائق المحفوظ ، وقد درَّس الطلاب مع الشيخ محمد ونيابة عنه في فنون العربية والفرائض وغيرها .
وكان متميزًا ببذل نفسه للناس يخدم هذا ، ويكتب لذاك ، ويشفع لهذا ويعطي ذاك ، وربما أرهقه الناس بما يرغبون فيه وهو صابر عليهم ، فربما خرج من المسجد في اليوم الحار فأمسك به ذوو الحاجات فيقضي لهم ما يقدر عليه من كتابة وغيرها ويدوم ذلك الساعة وأكثر وهم وقوف في الحر فيما بين المسجد والبيت ، هكذا حدثني من رأى ذلك .
ومحبةُ الشيخ رحمه الله لأخيه تظهر في أبيات إخوانية نظمها الشيخ محمد وأرسلها للشيخ عبد اللطيف لما سافر في مهمة شرعية ، قال فيها :
فإما أنختم بالـفنا ولـقيتمـوا شقيقي حليف الود مذ هو صغير
فقولوا له يهدي السلام مضاعفًا إليك محب فـي هـواك أسـير
ويهدي تحيـاتٍ كأن أريجهـا لدى النشر يا عبد اللطيف عبـير
إلى آخرها
والشيخ عبد اللطيف قد تولى مناصب شرعية آخرها نائب رئيس الكليات والمعاهد العلمية ( جامعة الإمام حاليًا ) .
وأما الشيخ عبد الملك فهو الخيِّر الصامت ، الوقور الليِّن ، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر جمع إلى علمه من صفات الخير وبذل المال والمعروف ما يَشْهد به له من عرفه ، كان قريبًا من الشيخ وصحب الشيخ محمدًا في سفره إلى ( الغطغط ) لما أقام فيها الستة أشهر للدعوة والتعليم والقضاء ، وكان يكتب أحيانًا للشيخ ، فهو بمثابة الابن لأخيه الأكبر .
وكان رحمه الله رئيسًا لهيئات الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة الغربية .
أما زملاؤه : فأخص منهم الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشد المولود سنة 1313هـ ، كان رفيقًا للشيخ في طفولتهما ، وفي شبابهما ، وفي طلبهما للعلم ، طلبا سويًّا ، وتنقلا بين المشايخ سنيّا .
كان مما حدثني أنه استأجر هو والشيخ بيتًا صغيرًا ، وضعا فيه كتبهما ، استأجراه للتفرغ فيه للمطالعة فكانا يأويان إليه يحفظان ويدرسان ويتذكران ، وكانت الأجرة 7 ريالات عربية .
الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله إذا جلست معه ذكرت السلف ، ورأيت الزهد والتقوى ، والعلم والورع ، والحكمة والأخبار ، وأحسبه من الزاهدين العلماء ، له لهج بالدعوة دعوة التوحيد ، ومحبة لأهلها ، حلقة علمه بعد مغرب كل يوم دامت عقودًا من الأعوام ، وليت المقام أوسع من هذا لأذكر ما أعرفه عنه فهو عَلَمٌ قلَّ من يعرف أحواله وخصاله .
دامت صحبته وزمالته للشيخ محمد إلى وفاته ، وقد ذكر لي أنه ما ترك الشيخ محمدًا في دعائه أبدًا في صلاة الليل ( يعني آخر الليل ) ، لأنها صحبة دين ومحبةٌ لله رحمهما الله ، وجمعهما في الفردوس .

 حياته العلمية ، ودروسه المنهجية :
توفي الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وكان كبير علماء الرياض بل نجد وقد أوصى الملك عبد العزيز ابن عبد الرحمن رحمه الله عند وفاته بالشيخ محمد بن إبراهيم ، متوسمًا أنه سيكون له شأن ، وكان الشيخ محمد إذ ذاك ابن 28 سنة ، فقبل الملك الوصية ، وكان الشيخ محمد ينوب عن الشيخ عبد الله في إمامة مسجده في آخر أيامه ، فلما توفي لم يصل الشيخ محمد ، وكان مما بلغني أنه قال : إن هذه وظيفة شرعية وكان صاحبها منيبًا لي فلما توفي فلا وكالة ، وهي راجعة إلى الإمام ، فلم يصل بالمسجد حتى أتاه تكليف بذلك من الإمام وهو الملك عبد العزيز رفع الله درجته ووفق عقبه .
وتلك كانت بداية فقه وريادة وعقل وقيادة .
صار الشيخ محمد إمامًا لمسجد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المعروف في حي دخنة بالرياض – وهو المسمى الآن مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم – فابتدأ فيه بعض الدروس العلمية ، في مختصرات التوحيد ونحوها ، وكانت دروسه تزداد في قوتها ومنهجيتها ، حتى بلغت أوجها فيما بين سنة 1350هـ – 1370هـ ، والسنون العشر الأخيرة متميزة بقوةٍ علمية أبهرت الناس إذ ذاك ، ولم يزل على دروسه حتى سنيه الأخيرة من عمره المبارك رحمه الله رحمة واسعة .
وقد ذكر تلامذة الشيخ رحمه الله وصفًا لدروسه ، فقال الشيخ محمد بن العلامة عبد الرحمن بن قاسم : " كان يجلس ثلاث جلسات منتظمة :
فالأولى : بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس
والثانية : بعد ارتفاع الشمس مدة تتراوح ما بين ساعتين وأربع ساعات .
والثالثة : بعد صلاة العصر .
وهناك جلسة رابعة لكنها ليست مستمرة ، وهي بعد صلاة الظهر .. "
قال ابن قاسم :
" كان رحمه الله ينقطع بعد المغرب لمطالعة دروس الغد في الكتب التي كانت تدرس بعد الفجر ، ومنها : الروض المربع ، وسبل السلام ، وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك وما يعين عليها من المراجع .
وفيما يلي عرض للكتب التي كان يقوم رحمه الله بتدريسها :
1 – بعد صلاة الفجر : ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل ، وزاد المستقنع مع شرحه الروض المربع ، وبلوغ المرام والآجرومية والملحة وقطر الندى ، وأصول الأحكام والحموية والتدمرية ونخبة الفكر .
الثلاثة الأول مستمرة وكان يقوم بتدريسها على ترتيبها المذكور أما في باقي الكتب فبالتعاقب على فترات مختلفة طيلة أيام تدريسه .
2 – بعد شروق الشمس : يدرِّس في العقائد كتاب التوحيد ، كشف الشبهات ، ثلاثة الأصول ، العقيدة الواسطية باستمرار ، مسائل التوحيد مسائل الجاهلية ، لمعة الاعتقاد ، أصول الإيمان على فترات ، وفي الحديث : الأربعين النووية ، عمدة الأحكام باستمرار ، وفي الفقه آداب المشي إلى الصلاة ، وقد يُدرِّس غيرها ، لكنه نادر .
وبعد الانتهاء من هذه المختصرات تقرأ المطولات ومنها : فتح المجيد ، شرح الطحاوية ، شرح الأربعين النووية ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، السنن الأربعة ، مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير بدون استثناء ، وكل ما جد من كتب السلف والمحققين من العلماء ، ولكنها على فترات يتراوح ما يقرأ منها في اليوم ما بين خمسة وعشرة غالبًا .
3 – بعد صلاة الظهر ، ويدرس فيه : زاد المستقنع بشرحه ، وبلوغ المرام .
4 – بعد صلاة العصر ، ويدرس فيه كتاب التوحيد وشرحه ، وقد يقرأ في مسند الإمام أحمد ، أو مصنف ابن أبي شيبة ، أو الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ، أو نحوها " اهـ ما وصفه الشيخ ابن قاسم .
وهذا الوصف يمثل فترة من عمر الشيخ وهي في الغالب ما بعد الستين ، وقد ذكر لي بعض طلبة الشيخ أن تحضيره للدروس كان بعد العشاء ، وبعد المغرب ربما قرىء عليه في كتب خاصة لا يحب أن يسمعها كل أحد ، فقد حدثني الشيخ حسن بن مانع أن الشيخ محمدًا اختصه بحضورٍ بعد المغرب ، قال : فكان يقرأ عليه في ( معجم الأدباء ) لياقوت الحموي .
والأخبار عن دروسه كثيرة لكن اخترت كلام الشيخ ابن قاسم لأنه يمثل وصفًا جيدًا لفترة سنين من عمر الشيخ رحمه الله .
وهذه المنهجية في التدريس هي التي تخرج العلماء ، حفظ للمتون وبيان وشرح لها ، وضبط للأصول ، ومعرفة الأدلة ، فبهذا تبنى القواعد العلمية الراسخة للمتعلمين ، أما القراءة في المطولات دون إحكام للأصول والمتون فعلى أي أس تبنى ، وعلى أي قاعدة ترفع .
فلا بد للمعلمين والمدرسين من النظر في هذه المنهجية ، وقد تمثلت في عمل الشيخ إلى تقسيم الطلاب إلى ثلاث طبقات :
مبتدئون – متوسطون – منتهون .
ولكل ما يناسبه من المتون والكتب ، ولا يخلط بين طبقاتهم حتى لا يضعف العلم عندهم جميعًا .
قال الشيخ محمد بن قاسم كان الشيخ " يحرص جدًا على أن يحفظ جميع الطلاب المنتظمين المتون ولا يرضى بنصف حفظ ، ولا ينتقل الطالب من متن إلى متن أطول منه إلا بعد حفظ الأول وفهمه ، ولذا كان الطالب المجد منهم يتخرج في سبع سنوات " اهـ .

 منهجه في التعليم :
كان للشيخ رحمه الله منهجية جعلت الطلاب في قوة علمية مؤتلفة غير مشتتة ، ففي التوحيد كان اهتمامه بكتبه التأسيسية التي تبين العقيدة الحقة بأدلتها ، وكان لا يذكر الخلاف في الاعتقاد ، فلا يعرج على مذاهب الخرافيين والمبتدعة وشبههم إلا إذا دعت الحاجة ، بينما تجد أكثر التفصيل والتدليل على معتقد أهل السنة .
وهذا – ولا شك – يعطي قوة علمية استدلالية ، وثباتًا في موقف الحق ، وعدم تشويش الأذهان بكثرة الأقوال المبتدعة ، وهذا لأجل أن المبتدعة وأقوالهم لم تكن مشتهرة ؛ فإذًا لا يحتاج إلى الكلام المطول عليها .
وأما في الفقه : فقد جعل دروسه منبثقة من متون الفقه الحنبلي ، ومتونه محررة الصور مدققة اللفظ ، تفتق ذهن الطلاب ، وتقوي إدراكهم الفقهي ، فاعتماد متن لمذهب هو خير طريقة لتحصيل الفقه ، فبه يبنى الذهن الفقهي ، وبه تؤسس قواعد التصور للمسائل الفقهية ويأتي بعد ذلك التفريع والتدليل وذكر الخلاف والترجيح فتكون معرفة الأقوال بعد إحكام الأصول وضبط تصور المسائل ، وعلى هذا كانت دروس الشيخ رحمه الله ، فقد كان يعرض للمتن وهو ( زاد المستقنع ) بشرحه الروض المربع ، فيبين عبارة الماتن بدقة ، ووضوح عبارة ، ويصور المسألة تلو المسألة بحيث لا تشتبه مع نظيراتها في ذهن الطلاب ، ولا يبدأ بالاستدلال أو ذكر الخلاف كما يفعل بعضهم في الجامعات ، بل إحداث تصور المسائل كان هو المطلب الأول .
ثم يذكر الدليل مع وجه الاستدلال ، أو التعليل ، أو إرجاع حكم المسألة إلى أصل أو قاعدة أو نحو ذلك من الحجج ، وربما ذكر الخلاف في بعض المسائل إذا كان الخلاف فيها قويًا ، أو كان مشتهرًا بين الناس ، أو كان هناك حاجة لبيانه ، وغالبًا ما يذكر اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأئمة هذه الدعوة رحمهم الله تعالى .
وأما مطولات الفقه والشروح فلم يكن يفصل الكلام عليها بنحو ما سلف ، ولكن يذكر بعض ما يحتاج إلى إيضاحه .
وهذه هي الطريقة النافعة التي درج عليها علماؤنا السابقون ، وبها صعد في مدارج التفقه فئام نفعوا العباد والبلاد رحم الله الميت وحفظ الحي .

 تلامذته :
لقد كان الشيخ رحمة الله عليه أمة في قلب رجل ، وكان جامعة متعددة الكليات فلا غرو – إذن – أن تخرج به المحدث والفقيه والأديب واللغوي ، والقاضي والداعي ، صدروا عن رجلٍ واحد لأنه – بتوفيق الله له ولهم – بذل علمه لهم ليله ونهاره ، وهكذا فليكن الرجال .
ولقد تلمذ للشيخ عدد لا يحصون كثرة ، تولوا التدريس في المعاهد والكليات ، وولوا القضاء ، وولوا الفتيا ، وولوا التوجيه والإرشاد ، وولوا الدعوة والإصلاح ، هؤلاء لا يمكن أن يحصوا كثرة ، ولا يمكن تعدادهم جميعًا ، وإن كان قد أحصي من أبرزهم قرابة مائة وتسعين تلميذًا .
لكن نذكر هنا بعض أكابر طلبته ، كإشارة لا حصرٍ ، التسعة الأول على ترتيب العلامة الشيخ ابن بسام لهم :
1 – سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل باز رحمه الله .
2 - = = عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله .
3 – = = عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله .
4 – الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي ، الداعية المشهور ، رحمه الله .
5 - = عبد العزيز بن ناصر الرشيد ، رحمه الله .
6 - = عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله .
7 - = عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله .
8 - = عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله .
9 - = إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله .
10 - = صالح بن غصون رحمه الله .
11 - = صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله .
وغيرهم كثير ، وقد وصفه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الحلبي في ( فقهاء معاصرون ) بقوله : " كان الشيخ ( أمة ) في جسد رجل ، وكان مسجده ( جامعة ) في قلب نجد ، ملأت بلاد نجد وغيرها علمًا ، وأنارتها بعلوم الشريعة ، قبل أن تبنى مدارس التعليم والمعاهد والكليات والجامعات ، التي هي أثر من آثار نهضة الشيخ العلمية رحمه الله تعالى وجزاه عن العلم والدين والإسلام خيرًا .
وكانت علوم الشيخ عيونًا صافية متدفقة ، أروت الظماء ، وأنشأت العلماء ، وأسس الشيخ بجهوده المخلصة لنهضة علمية كبرى ، فقد تخرج به أعداد كبيرة لا تحصى من العلماء والمحصلين ، وحسبك أن تعلم أن جل أكابر علماء المملكة اليوم هم من تلاميذه ، وهم الذين يشغلون أعلى المناصب العلمية والدينية ، ويملأون مناصب القضاء والافتاء والتدريس والوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى " اهـ .

 أخلاقه وشمائله :
وصف شيئًا من شمائله وأخلاقه الشيخ محمد بن قاسم فأجمل ما ذكر في الآتي :
1 – الحافظة النادرة : كان يحفظ المتن للقراءة الثالثة ، وربما الثانية ، وكانت المعاملة الطويلة التي تبلغ ( 300 صفحة ) تقرأ عليه ثم يملي ما يرى مستحضرًا كل ما مر فيها من الجزئيات ، ولم يكن غريبًا أن يدل القارئين على مواضع الأبحاث في كتبها ، ذاكرًا رقم الصفحة أحيانًا .
2 – رزق الذكاء و( الفراسة ) : فكان يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة ، ولم يكن ينطلي عليه كيد أو احتيال ، وحياته كلها أمثلة من هذا النوع فلسنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة لها ؛ فأكثر العارفين له يدركون ذلك .
3 – الإخلاص في العمل ، فلم يكن طالب شهرة ، ولا باحثًا عن سمعة ، ولم يعرف عنه أنه تحدث عن أعماله على جلالتها وكثرتها .
4 – طهارة قلبه ، فكان لا يحمل ضغينة على من أساء إليه ، ولا ينتقم من أحد ناله بأذى ، وله في ذلك أحوال عجيبة .
5 – كان شجاعًا قويّ الشكيمة ، لا يتردد في إعلان الحق أيًا كان المخاطب به .
6 – كان يكره المتملقين والمتزلفين وله في ذلك مواقف يحفظها التاريخ .
7 – كانت له الهيبة العظيمة في نفوس الناس ، يحسب محدثه الحساب الدقيق حتى لا يزل في كلمة أو يخطئ في فكر ، ومع ذلك كان أنيسًا عند مخالطته ، ألوفًا لمعاشريه ، لا يتصف بشيء من الفظاظة أو الغلظة .
8 – كان متنـزهًا عن الغيبة : عرف بذلك منذ حداثة سنه حتى فارق الدنيا ، ولم يكن يسمح لأحد أن يتحدث في مجالسه بمثالب الآخرين أو تنقصهم ، بل كان يزجر من حاول ذلك .
9 – ومما لا يعرفه كثيرون عنه ما يتصف به رحمه الله من العفة والتورع عن أخذ ما ليس له أو ما يرى فيه شبهة ، فكان حريصًا على أن لا يدخل نفسه في مداخل مشتبهة .
10 – كان من أهل الخشية ، كثيرًا ما يلهج بذكر الله والاستغفار ، وتغرورق عيناه بالدموع حين يكون مناجيًا لله ، أو يسمع بعض ما يحرك القلوب ، ولقد كان ذلك يتجلى كثيرًا فيما يحييه من الليل بالصلاة التي كان يواظب عليها في إقامته وسفره ، وقد صحبته – القائل هو ابن قاسم – زمنًا طويلاً وهو يقوم ما يقرب من ساعة ونصف آخر الليل لا يترك ذلك .

 مؤلفاته :
أملى الشيخ رحمه الله كتبًا ورسائل وفتاوى متنوعة ، وكانت حياته مليئة بالتعليم والدعوة والمهمات الكبار التي أنيطت به من فتوى ومتابعة القضاء ، وتمييز الأحكام ، ومع هذا فقد كان له آثارٌ علمية منها :
1 – فتاواه التي طبعت مع رسائله في ثلاثة عشر جزءًا قام بجمعها وإعدادها للطبع وترتيبها الشيخ محمد بن قاسم أثابه الله ، قمتُ بتحقيقها والتعليق عليها ، يسَّر الله طبعها .
2 – رسائل متنوعة طبعت في حياته ثم أدرجت مع مجموع فتاواه ورسائله ، ومنها :
1 – الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم .
2 – تحكيم القوانين .
3 – نصيحة الإخوان في الرد على الشيخ ابن حمدان .
4 – الجواب المستقيم في نقل مقام إبراهيم .
3 – كتاب تحفة الحفاظ ومرجع القضاة والمفتين والوعاظ : وهو كتاب في الحديث ، جمع فيه المفتي رحمه الله ما يقرب من ألف حديث ، قال رحمه الله في ( مقدمته ) :
" هذا مختصر يحتوي على ألف حديث صحاح اقتصرت فيه على ما خرجه الشيخان أو أحدهما ، عدا أحاديث صحيحة يسيرة جدًا خرّجها غيرهما ، وقد أتى بحمد الله على عامة أبواب الدين من أصول وفروع ودعوات وأذكار ، ومواعظ وحكم وآداب وغير ذلك مما ستقف عليه في مواضعه .. " اهـ ، والكتاب في مجلد متوسط .
وهذا الكتاب متميز عن غيره بمميزات ، وقد ظهر في انتقاء الشيخ للأحاديث الفقه والاستنباط ، وليس هذا موضع بسط ذلك ، والكتاب مخطوط بعدُ يَسَّر الله طبعه ، وقد جاء في خاتمته :
" وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب المبارك خامس شهر ذي الحجة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف ( 1374هـ ) ووقع الفراغ من تبييضه آخر ذي القعدة سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف من هجرة من له العز والشرف  بمكة المكرمة زادها الله تشريفًا وتكريمًا على يد جامعه الفقير إلى عفو ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم " اهـ .
4 – نظم علمي لمقدمة كتاب ( الإنصاف ) للمرداوي ، وهو من كتب المذهب الحنبلي المشتهرة ، جاء مؤلفه في أوله باصطلاحات ، وبذكر للكتب التي نقل منها ، فنظم جل المقدمة سماحة المفتي رحمه الله ، قال فيها :
حمـدًا لمن فـقهنـا مصليـا عـلى مـحمد وبعـد فادريـا
مراجع الإنصاف من متن ومن شـرح مـع مؤلفيها واسـتبن
وبعضها نواقـص أعـرضتُ عن ذكر نقصـهن واختصـرتُ
نظمتهـا من خطبـة المؤلف مقدمـًا ذكر المـتون فاعـرف
منهن متن الـخرقي ما أجمله شـافي أبي بكر مع التنبيـه لـه
تـهذيب ابن حـامد للأجوبة وابن أبي موسـى للإرشـاد انتبه
إلى آخر أبياته ، وهي موجودة عندي ، ولي عليها – إن شاء الله – تعليقة ضافية .

 حياته العملية :
لقد كان للشيخ رحمه الله أكبر الأثر في مجتمعه ، فإذا ذكر التعليم فهو رائده ، وإن ذكر القضاء فهو أستاذ القضاة ومخرجهم في مدرسته ، وإن ذكرت الفتوى فإليه مرجعها ، وإذا ذكرت الدعوة فهو المتابع الحريص عليها ، وإذا ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو ذو المواقف ، وهو المؤيد له الباذل من أجله ما يمكنه ، وهو المرجع فيه .
ولقد ولي الشيخ مناصب شرعية متنوعة ، وكان يعد الدخول في الوظائف الشرعية الحكومية من التعاون على البر والتقوى ، والتعاون متعين ، ولهذا كان الشيخ ذا مناصب كثيرة أقضت مضجعه وأذهبت راحته ، يعرف ذلك من كان قريبًا ، لأن الوظيفة الشرعية تكليف وأمانة ، والسؤال عنها غدًا عظيم .
وعلى العموم كانت الأمور الشرعية ، والإدارات الدينية تابعة له ، وكان هو المشرف عليها ، المسؤول عنها ، في الداخل والخارج .
فمن الوظائف الشرعية التي كان هو المرجع فيها والرئيس لها :
1 – رئاسة دار الإفتاء .
2 – رئاسة القضاة ( وزارة العدل حاليًا ) وتميز الأحكام ( هيئة التمييز ) .
3 – رئاسة الكليات والمعاهد العلمية ( جامعة الإمام محمد بن سعود حاليًا ) .
4 – رئاسة الجامعة الإسلامية ، وكان نائبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز .
5 – رئاسة تعليم البنات ، أو الإشراف على الرئاسة .
6 – رئاسة المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي .
7 – رئاسة المعهد العالي للقضاء .
8 – رئاسة دور الأيتام ( ضمت إلى وزارة العمل والشئون الاجتماعية ) .
9 – الإشراف على نشر الدعوة الإسلامية في إفريقيا .
10 - خطابة الجامع الكبير والعيدين ، وإمامة مسجد الشيخ عبد الله .
11 - رئاسة مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية ، التي تصدر جريدة الدعوة فيما مضى ومجلة الدعوة حاليًا .
إلى غير ذلك من الوظائف والأعمال الدينية التي حملها بعده بضعة عشر رجلاً .

 تأسيس الدوائر الشرعية ، ودوره فيها :
1 – في عام 1369هـ كثرت حاجة البلاد للقضاة ، وقد أبدى جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله للشيخ محمد بن إبراهيم الأمر ، وعرض عليه ما تلقى البلاد من مشقة لقلة القضاة ، فأشار الشيخ – ونعم ما أشار – بافتتاح معهد علمي يكون أول السبيل إلى سلم علمي يخرج القضاة ، فوافق الملك .
فافتتح أول معهد علمي بالرياض سنة 1370هـ . وكانت بعده معاهد كثيرة أصبحت ممدَّة لكليات الشريعة التي تخرج القضاة . وهذه كانت نواة جامعة الإمام حاليًا ، وكان أمر المعاهد والكليات الأول الاهتمام بعلوم الشريعة واللغة لا غير .. فما أعظم نفع هذه المعاهد والكليات
كانت نية صالحة أنشأتها ، ورغبة في تحصيل العلم الصحيح ، بعيدًا عن الرياء والسمعة ، فما أعظم أثرها ، رحم الله الإمام عبد العزيز والإمام محمدًا .
وكانت رئاسة المعاهد للشيخ محمد ، وبعد المعهد افتتحت كلية الشريعة بالرياض سنة 1373هـ ، وكان نائب الرئيس هو الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم رحمه الله .
2 – احتيج إلى إنشاء رئاسة للقضاة يَرجعون إليها في وظائفهم ، ومطالبهم ، وتنظيم المعاملات حتى يكون القضاء في بنيته التنظيمية في أعلى المراتب الإدارية .
فأنشأت رئاسة القضاة سنة 1376هـ ، وتولى الشيخ رئاستها بأمر من الملك سعود رحمه الله ، وكان الشيخ رئيسًا للقضاة في مناطق : نجد والشرقية والشمالية ، وأما المنطقة الغربية فكان يرأس القضاة سماحة الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله .
وبعد وفاة الشيخ عبد الله سنة 1378هـ ضمت قضاة المنطقة الغربية إلى رئاسة القضاة في نجد ، فصار الشيخ رئيسًا للقضاة في المملكة .
ومما يتصل بذلك جهود الشيخ رحمه الله في تمييز الأحكام الصادرة من القضاة فكان هو المرجع في تمييز الأحكام والصكوك من وقت الملك عبد العزيز ، وكان للشيخ الأثر الكبير في تنمية ( التمييز ) وتقويته حتى وصل إلى ما وصل إليه .
3 – دار الإفتاء :
لأجل تنظيم الفتاوى ، وترتيب الاستفتاءات الموجهة إلى الشيخ ، وتنظيم ذلك فيما يتصل بالداخل والخارج أنشأت دار الإفتاء ، وذلك لما لم يعد مكتب الشيخ المنزلي كافيًا في متابعة كل الرسائل والاستفتاءات والبحوث المستجدة .
وقد أنشأت الدار سنة 1373هـ .
وكان من الأعمال المنوطة بها : إصدار الفتاوى ، الدعوة في الداخل والخارج ، توزيع الكتب وإمداد طلبة العلم بما يحتاجونه ، إعداد البحوث الخاصة بمسائل نازلة ، أو ردود على مخالفين للسنة ونحو ذلك .
وقد أدخل الشيخ عددًا من طلبته المشايخ ليساعدوه ، ولكي يكونوا من أهل الخبرة في الفتوى والإجابة ، لأنها تحتاج إلى دربة وتعلم .

 منهجه في الإفتاء :
1 – كان الشيخ رحمه الله ملتزمًا في الفتوى بما عليه الراجح من الأقوال عن الإمام أحمد رحمه الله ، وسواء كان هذا مذهبًا للمتأخرين أم لا ، إلا أنه في الغالب يوافق ما عليه المتأخرون ، وكثيرًا ما يرجح اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله ، وما عليه الترجيح عند أئمة هذه الدعوة من الإمام محمد بن عبد الوهاب وأبنائه وتلامذتهم .
وهذا يجعل الناس على منهج متحد ، وفي فتاوى غير متضاربة ، وجمع الناس وعدم اختلافهم مصلحة عظمى ، خاصة إذا علم أن البلاد مسرح للأهواء ، فالاختلاف في الفتوى سيتبعه تفرق في أنواع شتى .
2 – لم يكن يسمح لكل أحد من واعظ وخطيب وإمام ومتخرج في الفتوى ، بل الفتوى منحصرة في الشيخ رحمه الله ومن كان معه ، والقضاة في البلاد ، ومن كان معروفًا بسعة العلم ممن لم يكن قاضيًا .
وقد كان يعاقب ويعزر بعض المتجرئين على الفتوى ، أو المخالفين لمشهور الفتوى .

 جهاد الشيخ في الدعوة إلى الله :
1 – لقد ابتدأ الشيخ حياة الداعية شابًا ، وذلك حينما أرسله الملك عبد العزيز رحمه الله إلى ( الغطغط ) ، وكانت مجمعًا للإخوان الذين جاهدوا مع الملك ، صار عندهم اجتهادات خالفوا فيها العلماء ، ونظرات تجاوزوا فيها ، فكان من الحق الذي لهم أن يبعث إليهم عالم داعية ، يحسن الدعوة وقدمه راسخة في العلم ، لعل الحجة تنفع ، ولعلّ الدعوة تنجع .
كانت رحلته دعوية ، إرشادية ، قضائية ، وذلك سنة 1345هـ ، فمكث ستة أشهر وصاحبه فيها أخوه الأصغر الشيخ عبد الملك بن إبراهيم رحمه الله كاتبًا ومرافقًا وحمل معه كتبًا للمطالعة والمراجعة ، فشرح للإخوان أصول التوحيد وضوابط التكفير ، وبيّن لهم عبارات أئمة الدعوة وفسرها ، واحتج بالنصوص الشرعية ، وقعّد ودلّل ، وشرح لهم الآيات والأحاديث فأفادهم علمًا وعقلاً .
لكن – ولله الأمر – بُثَّت فيهم روح الشقاق ، وعدم القناعة بكلام أهل العلم ، فبلغ الشيخ أنهم يكيدون له ، فأمر بتجهيز مطيته ، وحمل عليها كتبه ليلاً وما خف من متاعه ثم تركهم عائدًا إلى الرياض .
2 – كان الشيخ شديد الحرص على العناية بالدعاة ، فمن أبرز تلامذته الدعاة الشيخ عبد الله القرعاوي ، كان داعية موفقًا ، انتقل إلى منطقة جازان فأثّر في أهلها ، فجعلهم متعلمين ، وأكثر استقامة واهتداءً ، بث فيهم منارات العلم وهي مدارس القرآن ، وكان الشيخ سندًا له في ذلك عند ولاة الأمور ، حتى إنه يسلم المال المخصص للمدارس بيده ، ولا يراجع فيه ولا إثبات بنوع مصروفاته ، وبهذه الثقة التي منبعها الاستقامة والتدين انطلق الداعية ، وكان يختلف إلى الرياض شارحًا للشيخ ما قام به من عمل وما تم من إنجاز مبينًا أحوال أهل الجنوب وقربهم من الخير ، وسرعة انتشار الدعوة فيهم ، وهذه النهضة في جازان اليوم لآثار تلك الدعوة نصيب الأسد فيها .
3 – حرصه على لقاء الدعاة في الأقطار في مواسم الحج ، واستضافة بعضهم ، ومتابعة نشاطاتهم ، وكان يحرص على دعاة التوحيد والسنة ، ويتعاهدهم بتوجيهه ورأيه فيما ينبغي أن يعملوه أو يخططوه لمستقبل الدعوة .
4 – اهتمامه برابطة العالم الاسلامي – وكان رئيسًا لمجلسها الأعلى - ، وما ينبغي أن توجه جهود علماء المسلمين إليه في اجتماعاتهم ، ففي رسالة بيّن بها الأمور التي يجب عقد المجالس والاجتماعات لها ، قال :
" إنما الهام هو النظر في الأصول العظام التي الإخلال بها هادم للدين من أساسه ، وذلك : مسائل توحيد الله بإثبات ما أثبت لنفسه في كتابه ، وأثبته له رسوله  من الأسماء والصفات : إثباتًا بلا تمثيل وتنـزيهًا بلا تعطيل .
وكذلك توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية .
وكذلك توحيد الاتباع ، والحكم بين الناس عند النـزاع ، بأن لا يحاكم إلا الكتاب والسنة ، ولا يحكم إلا بهما . وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين هما أساس الملة ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، بأن لا يعبد إلا الله ، ولا يعبد إلا بما شرعه رسوله  وأن لا يحكم عند النـزاع إلا ما جاء به رسوله  هذا هو الحقيق بأن يهتم به ، وتعقد المجالس والمجتمعات لتحقيقه وتطبيقه " اهـ .
5 – كان الشيخ رحمه الله رئيسًا للمعهد الإسلامي في نيجيريا ، وكان هو المشرف على نشر الدعوة في إفريقية .
6 – كانت المراكز الإسلامية في أوروبا ترسل إليه بمشاكلها ، وهو يتابع الأنشطة فمما جاء في ذلك مما ضمته ( الفتاوى ) قال الشيخ رحمه الله :
" الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد : فقد اتصل بي الحاج السيد جواد مقدس رئيس جمعية مسلمي بريستول بانجلترا ، ومعه كتاب من سكرتير الجمعية يعرف فيه بالسيد جواد المذكور وقد شرح لي نشاط الجمعية المذكورة في الدعوة الإسلامية ، وطلب مني إعطاءه بعض الكتب ، وقد أعطيناه بعض الكتب الإسلامية والسلفية .
كما طلب أيضًا الإذن له في تعليم القرآن ، ونشر العلم في تلك الربوع وأذنا له في ذلك أيضًا ، سائلاً الله لي وله التوفيق والسداد . ( التوقيع ) مفتي المملكة العربية السعودية " .
6 – إنشاء مؤسسة صحفية تقوم بواجب الدعوة ، وقد أصدر الشيخ رحمه الله كتابًا مؤرخًا في 23/7/1384هـ جاء فيه :
" نظرًا لحالة المسلمين الحاضرة ، وحاجة الأمة إلى الدعوة الإسلامية فقد قمنا بتأسيس مؤسسة للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، لتأخذ بأيدي الشباب المسلم عن الوقوع في شراك المبادئ الهدامة والأفكار الفتاكة المسمومة ، ولتبين للناس محاسن الإسلام ، وصلاحيته لمعالجة جميع المشاكل البشرية في كل زمان ومكان .
ولما كانت الصحافة لها أثرها الكبير في عصرنا الحاضر ، فقد تقرر أن يصدر عن هذه المؤسسة الصحفية صحيفة يومية تصدر أسبوعيًا مؤقتًا ، ومجلة شهرية علاوة على ما نؤمله في المستقبل القريب إن شاء الله من قيام هذه المؤسسة بإرسال الدعاة إلى الله في أنحاء العالم .
ولما كان وجود أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجلس التأسيسي بمكة فرصة نادرة بالنسبة للدعوة الإسلامية أحببت أن أخبرهم عن هذه المؤسسة وأهدافها ، راجيًا منهم مساعدتها بإرسال المقالات النافعة والآراء السديدة نحوه هذه المؤسسة .
وسوف يصدر العدد الأول من الصحيفة قريبًا بإذن الله ويصل إلى حضراتكم مجانًا .
وعنوان المؤسسة المذكورة كالآتي :
( مؤسسة الدعوة الإسلامية ) شارع أحمد بن حنبل – الرياض " اهـ .
ولقد كان الشيخ في دعوته إلى الله متبعًا أصول دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من تأصيل التوحيد في النفوس ، والنهي عن الشرك ، والحث على الالتزام بالسنة ، ونبذ البدع ، والدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع الشؤون ، وإلى تربية النفوس وتزكيتها بالعمل الصالح والاتباع لسلف الأمة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قاعدة تحقيق المصلحة ودرء المفسدة ، والالتزام بنصرة ولاة الأمر الكرام من آل سعود الذين نصروا الدعوة ، وطبقوا الشريعة .

 ثناء العلماء والأدباء والمثقفين عليه :
لقد كان الشيخ المفتي رحمه الله مجمعًا على الثناء عليه – فيما أعلم – وائتلفت القلوب على محبته ، لما كان عليه من إيمان صادق – ولا نزكي على الله أحدًا - ، وجهاد وتعليم ، وتقوى ، وقيادة .. إلى غير ذلك من سجاياه وأخلاقه .
وأذكر هنا بعض ما وقفت عليه من ثناء العلماء عليه مما لا أعلمه قد نُشِر من قبل :
1 – قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" لقد أكرمني الله سبحانه وتفضل علي وله الحمد والمنة بأن كنت من أخص تلاميذ شيخنا المذكور ولازمته نحو عشر سنين من عام 1347هـ إلى عام 1357هـ ، ثم تعينت في القضاء بعد ذلك ، ولكني لم أنقطع عن الاتصال به وسؤاله عن كل ما يشكل ، والاستفادة من علومه وتوجيهاته إلى أن توفي رحمه الله .
وقد حضرت له مواقف مشرفة ، وشاهدت منه أعمالاً موفقة في نفع المسلمين والغيرة للإسلام والرد على خصومه أجزل الله له المثوبة .
وكان يوصي الطلبة كثيرًا بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، وكان واسع العلم كثير الخوف من الله سبحانه ، دقيق الفهم … ومناقبه وفضائله كثيرة جدًا " اهـ .
2 – وقال الشيخ العلامة ذو الفنون محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" عرفنا فيه وفور العلم ووفور العقل وتمام الحكمة والصبر المنقطع النظير ، فهو رحمه الله فيما أعتقد وأجزم به – وإن كنت لا أزكي على الله أحدًا – من نوادر الرجال الذين عرفناهم علمًا وحلمًا وعقلاً وحكمة ، فنرجو الله أن يتقبل منه صالح عمله ، وأن يجزيه كل خير ، ويعلي درجته في الآخرة كما أعلاها في الدنيا  وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً  .. " اهـ .
3 – وقال الشيخ سعدي ياسين رحمه الله :
" أما سماحة مفتينا الفقيد تغمده الله برحمته فقد سلك مسلك أئمتنا الأعلام من علماء السلف فكنت وأنا أسمع فتواه تلك كأني أستمع إلى سفيان بن عيينة أو ابن علية أو ابن أبي ذئب .
وكان رحمه الله متين الحفظ مستحضر الآيات لا يكاد يشتبه عليه شيء منه .. ولقد رأيته عن كثب بعبادته وأذكاره في ليله ونهاره ، وحرصه على حضور الجمعة والجماعة وإخباته قبل الفجر وبعده مما حببه إلي وأكبره في نظري .. إلخ " .
4 – وقد حلاّه العلامة الدكتور الداعية السلفي تقي الدين الهلالي رحمه الله بقوله :
" الإمام العلامة بقية السلف وعمدة الخلف ناصر السنة الأستاذ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ .. "



 وفاته – والمراثي :
في عام 1389هـ أو في أواخر الذي قبله بدأ الشيخَ رحمه الله مرضٌ عضال ، فسافر للاستشفاء إلى ( لندن ) ، ولم ينتفع بالعلاج هناك ، وحدثني بعض مرافقيه أنه في آخر أيامه في المستشفى قبل رجوعه إلى ( الرياض ) كره الطعام ، فقدم له كأس لبن فطعمه ثم تركه فقال له من حدثني : إنه زين وطيب ، فقال الشيخ رحمه الله : صحيح ، ولكن ليس بزين للميت .
ورجع إلى الرياض فلازم الفراش ولسانه يلهج بذكر الله والثناء عليه ، لا يفتر عن ذلك حتى تم أجله وفاضت روحه في صبيحة يوم الأربعاء من يوم 24 رمضان سنة 1389هـ .
وكان المصاب عظيمًا ، هوى له أحد وانهد ثكلان ، وصُلِّيَ عليه ظهر ذلك اليوم وكان إمام المسلمين في الصلاة عليه تلميذه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز .
ولما تسامع الناس بالخبر ، تصدعت الأفئدة ، ونكست الأذقان ، فكم من دمعة ترقرقت ، وكم من حزن قضى ، وكم وكم ، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون .
فلما سِير بجنازته تذكر المتذكر جنازة الإمام أحمد بن حنبل أو ابن تيمية من ذوي الجنائز المشهودة ، فلا تحصي الألسنة المترحمة عليه والمستغفرة له ويالها من غبطة ( أنتم شهداء الله في أرضه ) .
ولقد تتابع الناس من أنحاء المملكة يفدون بأنفسهم يعزون ، ويستغفرون ، ويشهدون للفقيد بالإحسان .
وتتابع ذوو الأقلام يرثون إمامَ وقته ، فكم من عالم نثر رثاءه ، وكم من عالم نظم رثاءه ، وكم من مثقف كتب ، وكم من عاقل سطر ، والعجز عن وصف المشاعر سمة الجميع ، فجزاهم الله خيرًا .
وليس هذا المقام الموجز مقام تفصيل لتلك المراثي ، وبيان ما كتب عنه .
رحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مثواه جناته ، مع الحبيب المصطفى ، وأصلح وبارك ونفع بولده من بعده ، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين .