.


فصل



[frame="7 100"]
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر ذلك الشيخ المسجد الجامع وكان قد كتب إلي كتاباً بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب، فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغيرها هدى من الله" ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون وفيهم شبه قوي من النصارى الذي قال الله تعالى فيهم "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل" ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء، فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب، فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونتفق على إتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر لي وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلباً للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة. فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج، والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.

فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل لهم هم مشتكون، فقال ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى علي ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاماً كثيراً لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضراً أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم? فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له? قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا: نريد أن تشد منا، قال: لا ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا: ولا بد من حضوره? قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلي بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم، وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسألك معهم ألا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وإن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الأسرار وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من إتباع الشريعة والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة، وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله، وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق. ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة الخليل، وأنه تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء. وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة ثم إلى الإشراك ثم إلى جحود الحق تعالى، ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد.
فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحداً للإسعاد، لكن ذهب أيضاً بعض من كان حاضراً من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعاً مما جرت به عادتهم من التلبيس والإفتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء مثل زعمهم أن لهم أحوالاً لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقاً لا يعرفها أحد من العلماء، وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن المنكر عليهم ما هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر. وأن لهم طريقاً وله طريق، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق، وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.

قال المخبر فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعاً من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول لي مرة ثانية فبلغه أنا في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وإتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم مجهزين لمن يعينهم في حضورهم فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للإطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء، بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق ناراً ويلبسوها فقلت هذا من البهتان.
وها أنا ذا أصف ما كان قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحداً بأن يدخل ناراً ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما وقد لبسوا أيضاً على الملك العادل كتفاً في ملكه وفي حالة ولاية حماه وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جمع تلبيسهم على الأيدمري وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشباً طوالاً وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قوماً يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض وأخذوا منه مالاً كثيراً ثم انكشف له أمرهم.
قلت للأمير وولده: هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته وقالوا أنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي إنه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتاباً وهو نائب السلطنة بحماه يخبره بصورة ما جرى.
وذكرت للأمير انهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الغلال ونحوها وأنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه فذكرت حديث العرباض بن سارية وحديث جابر بن عبد الله وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما سأذكره.

قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك ويقولون لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع فليس لهم أن يعترضوا علينا بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوباً، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك? قلت: لأنهم يطلون أجسامهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر النارنج وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار وقال: أتقبل ذلك? فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداءً فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيد الله به من الآيات.
وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى السحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم، فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال اليوم ترى حرباً عظيماً ولعل ذلك كان جواباً لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.

وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق؛ وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن له فيهم ظناً حسناً والله أعلم بحقيقة الحال فإنه ذكر لي ذلك وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء والطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: "واقصد في مشيك واغضض من صوتك" فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم وحضر شيخهم الأول المشتكي وشيخ آخر يسمى نفسه خليفة سيده أحمد ويركب بعلمين وهم يسمونه عبد الله الكذاب ولم أكن أعرف ذلك وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني فبقي في نفسي أن هذا خفي على تلبيسه إلى أن غاب وما يكاد يخفى علي تلبيس أحد بل أدركه في أول الأمر فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك كان اجتمع بي قديماً فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه، فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمون طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة فقلت: أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى: "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" هذه إلى جنب هذه، وقال تعالى: " نبئ عبادي إني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم" فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعله في عنقه طوقاً في حكاية من حكايات بين إسرائيل لا تثبت، فقلت: لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: "أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم".
وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئاً من كتب أهل الكتاب فقال: "كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم أنزل إلى نبي غير نبيهم" وأنزل الله تعالى: "أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" فنحن لا يجوز لنا إتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى: "وإن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا نتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعاً ومنهاجاً" فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها وما علينا من عباد بني إسرائيل "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية. فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية، فقلت: له هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا? فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.

وقلت: ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر فإني تكلمت بكلام بعد عهدي به فانتدب ذلك الشيخ عبد الله ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلاماً لم أضبط لفظه مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمراً لا يقف عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا، فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه.
فقال ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها واختصاصهم بها وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع وقشر النارنج وحجر الطلق، فضج الناس بذلك فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت، فقلت: فقم، وأخذت أحرز عليه في القيام إلى ذلك فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: لا حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فظهر الوهم على عادتهم، فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو يقال حزمة حطب، فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغير وذل وذكر لي أن وجهه اصفر.
ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع ولا على إبطال الشرع فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي.
وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا - يعني الليث بن سعد - قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به، فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به، وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.

فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين" وذكروا أيضاً أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهماً. فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب إنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم، فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال وعرفوا حقيقة المحال وقمنا إلى داخل ودخلنا وقد طلبوا التوبة عما مضى وسألني الأمير عما يطلب منهم فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن يعتقد أنه لا يجب عليه إتباعهما أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك أو أنه يجوز إتباع طريقة تخالف بعض حكمها ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر وقد توجب القتل دون الكفر وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه.
فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق، نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق ليس المقصود شيئاً معيناً وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى تعالى الله عليه وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة? فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزاماً عاماً ومن خرج عنه ضربت عنقه - وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان - وكان المقصود أن يكون هذا حكماً عاماً في حق جميع الناس فإن هذا مشهد عام مشهور وقد توفرت الهمم عليه فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شالة الأولياء أو طرقهم على أهل العلم أو غيرهم? ولماذا سمي الولي ولياً? وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته? هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا? والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع? وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم? وهل صحيح أن الولي يكون قاعداً في جماعة ويغيب جسده.
وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ويقولون هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء?.
وأيضاً فما قول العلماء في هؤلاء القلندرية الذين يحلقون ذقونهم ما هم? ومن أي الطوائف يحسبون? وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم شيخهم قلندر عنباً وكلمه بلسان العجم? وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى أن يدور في الأسواق والقرى ويقول من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره? وهل يأثم من يساعده أم لا? وما تقولون فيمن يقول أن الست نفيسة هي باب الحوائج إلى الله تعالى وأنها خفيرة مصر? وما تقولون فيمن يقول أن بعض المشايخ إذا قام لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل الملائكة ترقص معهم أو عليهم، وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر معهم? وماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد? وما صفة رجال الغيب وما قول من يقول أنه من خفراء التتار? وهل يكون للتتار خفراء أم لا? وإذا كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه وسلم.

وهل هذه المشاهد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله عنهما صحيحة أم مكذوبة? وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله? والمسؤول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوي والأحوال كشفاً شافياً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والحالة هذه أفتونا مأجورين أثابكم الله.
أجاب: رضي الله عنه وأرضاه آمين.
الحمد لله رب العالمين: أما الصفة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمال المسجد بالمدينة النبوية كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومنعة جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة وكان المؤمنون السابقون بها صنفين المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم وكل لله كانت هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا? فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" وفي رواية: "وكل ضلالة في النار" فقال لي: البدعة مثل الزنا وروى حديثاً في ذم الزنا، فقلت: هذا حديث موضوع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والزنا معصية والبدعة شر من المعصية كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها.
وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم? قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم فإنهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه ويرجون رحمة الله ويتوبون إليه أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.
قلت مخاطباً للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر ابن الخطاب أن رجلاً كان يدعى حماراً وكان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان كلما أتي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جلده الحد، فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم? فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنته.

وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس بين عينيه أثر السجود وقال ما قال، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" وفي رواية: "لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل" وفي رواية "شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه" قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقتلهم وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى من هذه الأهواء، فلما ظهر قبح البدع في الإسلام وإنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنهم مبتدعون بدعاً منكرة فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر.
أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعني أتباع أحمد بن الرفاعي - فقلت منكراً بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب العزيز وجناب من خالفه أولى بالعزبار والرزجنة تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم ويقول أصحابهم: إن لهم سراً مع الله فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل. وقلت لهم: يا شبه الرافضة يا بيت الكذب - فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم "فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون".
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
هذا آخر ما جرى مع البطائحية لشيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام، الشيخ تقي الدين أحمد الشهير بابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه ورضي عنه.
[/frame]

من كتاب جامع الرسائل

.