والوجه الثاني‏:‏

أن لفظة [‏من] ‏في اللغة قد تكون لبيان الجنس، كقولهم‏:‏ باب من حديد‏.‏

وقد تكون لابتداء الغاية، كقولهم‏:‏ خرجت من مكة، فقوله تعالى‏:‏‏{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ليس نصًا في أن الروح بعض الأمر، ومن جنسه، بل قد تكون لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏]‏ حيث قال‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ يقول‏:‏ من أمره كان الروح منه كقوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏{‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏، ونظير هذا أيضًا قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53‏]‏‏.‏

فإذا كانت المسخرات والنعم من اللّه، ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏؛ أنها بعض ذات اللّه، ومعلوم أن قوله‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ أبلغ من قوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ فإذا كان قوله‏}‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ لا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون بعضًا له، فقوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ أولى بألا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون ذلك بعضًا له بل ولا بعضًا من أمره‏.‏

وهذا الوجه يتوجه إذا كان الأمر هو الأمر الذي هو صفة من صفات اللّه، فهذان الجوابان كل منهما مستقل، ويمكن أن يجعل منهما جواب مركب، فيقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ إما أن يراد بالأمر المأمور به، أو صفة للّه ـ تعالى ـ وإن أريد به الأول أمكن أن تكون الروح بعض ذلك، فتكون مخلوقة، وإن أريد بالأمر صفة ‏[‏اللّه‏]‏ كان قوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ونحو ذلك ‏.‏

وإنما نشأت الشبهة حيث ظن الظان أن الأمر صفة للّه قديمة، وأن روح بني آدم بعض تلك الصفة، ولم تدل الآية على واحد من المقدمتين، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم ‏.‏

وقد يجيء اسم الروح في القرآن بمعنى آخر، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏52‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏22‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ فالقرآن الذي أنزله اللّه كلامه، ولكن ليس الكلام في هذا مما يتعلق بالسؤال‏.‏

وأما قول السائل‏:‏ هل المفوض إلى اللّه أمر ذاتها أو صفاتها أو مجموعهما‏؟‏ فليس هذا من خصائص الكلام في الروح، بل لا يجوز لأحد أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على اللّه ما لا يعلم .

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏36‏]‏،
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏،

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏169‏]‏،

وقد قالت الملائكة لما قال لهم‏:‏ ‏{‏أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏31، 32‏]‏،

وقد قال موسى للخضر‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏66‏]‏،

وقال الخضر لموسى ـ لما نقر العصفور في البحر ـ‏:‏ ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه، إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏.‏

وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة، لا في ذاتها ولا في صفاتها، وأما الكلام بغير علم فذلك محرم في كل شيء، ولكن قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض سكك المدينة، فقال بعضهم‏:‏ سلوه عن الروح، وقال بعضهم‏:‏ لا تسألوه فيسمعكم ما تكرهون، قال‏:‏ فسألوه وهو متكئ على العسيب‏ ‏، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏
فبين بذلك أن ملك الرب عظيم، وجنوده، وصفة ذلك، وقدرته أعظم من أن يحيط به الآدميون، وهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، فلا يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه ولا كل ما في الوجود، فما يعلم جنود ربك إلا هو‏. )) اهـ [ مجموع الفتاوى 4 / 216 – 232 ] .


ودونك أدلة أهل السنة من أن الروح مخلوقة مربوبة :

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( فصل والذي يدل على خلقها وجوه :

الوجه الأول : قول الله تعالى : (( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )) فهذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما ولا يدخل في ذلك صفاته فإنها داخلة في مسمى بإسمه فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات الكمال فعلمه وقدرته وحياته وإرادته وسمعه وبصره وسائر صفاته داخل في مسمى اسمه ليس داخلا في الأشياء المخلوقة كما لم تدخل ذاته فيها فهو سبحانه وصفاته الخالق وما سواه مخلوق ومعلوم قطعا أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته وإنما هي مصنوع من مصنوعاته فوقوع الخلق عليها كوقوعه على الملائكة والجن والإنس .

الوجه الثاني : قوله تعالى زكريا : (( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا )) وهذا الخطاب لروحه وبدنه ليس لبدنه فقط فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح .


الوجه الثالث : قوله تعالى (( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )) .


الوجه الرابع :قوله تعالى : (( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ )) وهذا الإخبار إنما يتناول أرواحنا وأجسادنا كما يقوله الجمهور ، واما أن يكون واقعا على الأرواح قبل خلق الأجساد كما يقوله من يزعم ذلك وعلى التقدير فهو صريح في خلق الأرواح .


الوجه الخامس : النصوص الدالة على أنه سبحانه ربنا ورب آبائنا الأولين ورب كل شيء وهذه الربوبية شاملة لأرواحنا وأبداننا فالأرواح مربوبة له مملوكة كما أن الأجسام كذلك وكل مربوب مملوك فهو مخلوق .


الوجه السادس : أول سورة في القرآن وهي الفاتحة تدل على أن الأرواح مخلوقة من عدة أوجه :

أحدها : قوله تعالى : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) والأرواح من جملة العالم فهو ربها

الثاني : قوله تعالى : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) فالأرواح عابدة له مستعينة ولو كانت غير مخلوقة لكانت معبودة مستعانا بها .

الثالث : إنها فقيرة إلى هداية فاطرها وربها تسأله أن يهديها صراطه المستقيم .

الرابع : أنها منعم عليها مرحومة ومغضوب عليها وضالة شقية وهذا شأن المربوب والمملوك لا شأن القديم غير المخلوق .


الوجه السابع : النصوص الدالة على أن الإنسان عبد بجملته وليست عبوديته واقعة على بدنه دون روحه بل عبوديته الروح أصل وعبودية البدن تبع كما أنه تبع لها في الأحكام وهي التي تحركه وتستعمله وهو تبع لها في العبودية .


الوجه الثامن : قوله تعالى : (( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا )) فلو كانت روحه قديمة لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا فإنه إنما هو إنسان بروحه لا ببدنه فقط كما قيل
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ..... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان