فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :

أنقلها بتمامها لتعم الفائدة ، وقد نقل رحمه الله خلالها الإجماع على أن الروح مخلوقة مربوبة ، وهو من هو شيخ الإسلام في نقل الإجماع ، فقد (سُئِلَ شيخُ الإِسْلام أَبُو العَبَّاس ابن تَيْمِية ـ قدس اللَّه رُوحَــهُ ـ عـن ‏الروح‏ ، هل هي قديمة، أو مخلوقة‏؟‏
وهل يُبدَّع من يقول بقدمها أم لا‏؟‏
وما قول أهل السنة فيها؟
وما المراد بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏85‏]‏‏.‏

هل المفوض إلى اللّه ـ تعالى ـ أمر ذاتها، أوصفاتها، أو مجموعهما‏؟‏

بينوا ذلك من الكتاب والسنة‏.‏


فأجاب ـ رضي اللَّه عَنْهُ ‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم‏.‏

وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في كتاب ‏[‏اللقط] ‏لما تكلم على خلق الروح قال‏:‏ (( النَّسَم‏:‏ الأرواح‏.‏
قال‏:‏ وأجمع الناس على أن اللّه خالق الجثة، وبارئ النسمة، أي‏:‏ خالق الروح‏.‏

وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة‏:‏ سألت رحمك اللّه عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال‏:‏ هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب، إلى أن قال‏:‏ والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشائخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة‏.‏

وصنف الحافظ أبو عبد اللّه بن مَنْدَه في ذلك كتابًا كبيرًا في ‏[‏الروح والنفس‏]‏، وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئًا كثيرًا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم؛ وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره ،

كما ذكره أحمد في كتابه في ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏] فقال في أوله‏:‏

الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنور اللّه أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين،
وتكلم على ما يقال‏:‏ إنه متعارض من القرآن

إلى أن قال‏:‏
وكذلك الجهم وشيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، وأضلوا بشرًا كثيرًا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم ـ عدو اللّه ـ أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، كان أكثر كلامه في اللّه، فلقى أناسًا من المشركين يقال لهم ‏[‏السمنية‏]فعرفوا الجهم، فقالوا له‏:‏ نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك‏.‏


فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا‏:‏ ألست تزعم أن لك إلهًا‏؟‏ قال الجهم‏:‏ بلى‏.‏ فقالوا له‏:‏ فهل رأيت إلهك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فهل سمعت كلامه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏قالوا‏:‏ فهل شممت له رائحة‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا له‏:‏ فوجدت له مَجَسا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فما يدريك أنه إله‏؟‏ قال‏:‏ فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يومًا،

ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح اللّه، من ذاته، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار‏.‏

فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني‏:‏ ألست تزعم أن فيك روحًا ‏؟‏ قال بلى‏.‏ قال‏:‏ فهل رأيت روحك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل سمعت كلامه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فوجدت له حسًا ومَجَسّا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ كذلك اللّه، لا يرى له وجه، و لا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان‏.‏
وساق الإمام أحمد الكلام في ‏[‏القرآن‏] ‏و[‏الرؤية‏]‏ وغير ذلك، إلى أن قال‏: ((‏ ثم إن الجهم ادعى أمرًا، فقال‏:‏ إنا وجدنا آية في كتاب اللّه تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا‏:‏ أي آية‏؟‏ قال‏:‏ قول اللّه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏]‏ وعيسى مخلوق‏.‏

فقلنا‏:‏ إن اللّه منعك الفهم في القرآن، عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن؛ لأنه يسميه مولودًا، وطفلًا، وصبيًا، وغلامًا، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم اللّه يقول في القرآن ما قال في عيسى ‏؟‏ ولكن المعنى في قول اللّه‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏] ،فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له‏:‏ كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان، فالكن من اللّه قول، وليس الكن مخلوقًا‏.‏

وكذب النصارى والجهمية على اللّه في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا‏:‏ عيسى روح اللّه وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى‏:‏ عيسى روح اللّه من ذات اللّه، وكلمة اللّه من ذات اللّه، كما يقال‏:‏ إن هذه الخرقة من هذا الثوب‏.‏

وقلنا نحن‏:‏ إن عيسى بالكلمة كان، وليس هو الكلمة‏.‏ قال‏:‏ وقول اللّه‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ يقول من أمره كان الروح فيه، كقوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏، يقول‏:‏ من أمره، وتفسير روح اللّه‏:‏ أنها روح بكلمة اللّه، خلقها اللّه، كما يقال‏:‏ عبد اللّه، وسماء اللّه، ))