بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى 'ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله'

قال شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتابه العظيم التوحيد باب قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) الآية. وقوله: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ). إلى قول تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) .
عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى .. ) إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا. رواه بن جرير، وقال ابن عباس في قوله تعالى: ( وتقطعت بهم الأسباب ) . قال: المودة.

قال الشيخ العلامة الإمام عبدالرحمن السعدي رحمه الله
قول الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ) [ سورة البقرة : الآية 165 ]
أصل التوحيد وروحه إخلاص المحبة لله وحده وهي أصل التأله والتعبد له بل هي حقيقة العبادة ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه , وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه .
ومن تفريعها وتكميلها الحب في الله والبغض في الله فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال , ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه : وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده .
أما اتخاذ أنداد من الخلق يحبهم كحب الله ويقدم طاعتهم على طاعة الله ويلهج بذكرهم ودعائهم فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله , وصاحب هذا الشرك قد انقطع قلبه من ولاية العزيز الحميد , وتعلق بغيره ممن لا يملك له شيئا , وهذا السبب الواهي الذي تعلق به المشركون سينقطع يوم القيامة أحوج ما يكون العبد لعمله وستنقلب هذه المودة والموالاة بغضا وعداوة .

واعلم أن أنواع المحبة ثلاثة أقسام :
الأول : محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد .
الثاني : المحبة في الله وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرها وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها .
الثالث : محبة مع الله وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر وحجر وبشر وملك وغيرها وهي أصل الشرك وأساسه .
وهنا قسم رابع وهو المحبة الطبيعية التي تتبع ما يلائم العبد ويوافقه من طعام وشراب ونكاح ولباس وعشرة وغيرها , وهذه إذا كانت مباحة إن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب العبادات , وإن صدت عن ذلك وتوسل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات , وإلا بقيت من أقسام المباحات والله أعلم .

قال الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظ الله
والمحبة - كما ذكر العلماء - تنقسم إلى قسمين :

القسم الأول : محبة العبودية وهذه يجب أن تكون خالصة لله عز وجل، ومحبة العبودية هي التي يكون معها ذل للمحبوب، وهذه لا يجوز صرفها لغير الله، كما لا يجوز السجود لغير الله، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، فإنه لا تجوز محبة غير الله محبة عبودية يصحبها ذل وخضوع وطاعة للمحبوب، وإنما هذه حق لله سبحانه وتعالى .

ولهذا يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله- في النونية :

وعبــادة الرحــمن: غايــة حبـه مــع ذل عــابده همــا قطبـان
وعليـــك فلـــك العبـــادة دائــر ومـا دار حـتى قامت القطبان
ومـــداره بــالأمر أمــر رســوله لا بالهوى والنفس والشيطان



ويقول العلماء في تعريف العبادة هي: غاية الذل مع غاية الحب .

فالعبادة تتركز على ثلاثة أشياء: على المحبة، وعلى الخوف، وعلى الرجاء .

فالمحبة والخوف والرجاء هي ركائز العبادة وأساسها، فإذا اجتمعت تحققت العبادة ونفعت كالصلاة والحج وسائر العبادات، أما إذا اختلت هذه الثلاثة فإن الإنسان وإن صام وإن صلى، وإن حج فإنها لا تكون عبادته صحيحة .

ويقول العلماء: من عبد الله بالمحبة فقط فهو صوفي؛ لأن الصوفية يزعمون أنهم يعبدون الله لأنهم يحبونه فقط، ويقولون: لا نعبده نخاف من ناره ولا نرجو جنته، وإنما نعبده لأننا نحبه، وهذا ضلال .

ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ؛ لأن المرجئة يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان .

ومن عبد الله بالخوف فقط فهو خارجي؛ لأن الخوارج يكفرون المؤمنين بالمعاصي .

فالمرجئة أخذوا جانب الرجاء فقط، والصوفية أخذوا جانب المحبة فقط، والخوارج أخذوا جانب الخوف فقط .

وأهل السنة والجماعة جمعوا بين الأمور الثلاثة -ولله الحمد- المحبة مع الخوف والرجاء والذل والانقياد والطاعة، وبنوا على ذلك سائر أنواع العبادات والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى .

النوع الثاني : محبة ليست محبة عبودية وهي أربعة أقسام:

القسم الأول : محبة طبيعية كمحبة الإنسان للطعام والشراب والمشتهيات المباحة، كالزوجة والملذات .

القسم الثاني : محبة إجلال، كمحبة الولد لوالده غير المشرك والكافر، فالولد يحب والده محبة إجلال وتكريم واحترام؛ لأنه والده المحسن إليه والمربي له، وهذه محمودة ومأمور بها .

القسم الثالث : محبة إشفاق، كمحبة الوالد لولده، فالوالد يحب ولده محبة إشفاق .

القسم الرابع : محبة مصاحبة، كأن تحب شخصا من أجل مصاحبتك له، إما لكونه زميلا لك في العمل، أو شريكا في تجارة، أو صاحبا لك في سفر، فأحببته من أجل المشاركة في شيء من الأشياء .

هذه الأقسام ليست من أنواع العبادة؛ لأنها ليس معها ذل، وليس معها خضوع .

وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا من الناس يعني: المشركين مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: غير الله، (أندادا) الند هو: الشبيه والنظير والعديل، سموا أندادا لأنهم ساووهم بالله، فصاروا أندادا لله بمعنى: شركاء مساوين له في اعتقاد المشركين .

يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أشركوهم مع الله في محبة العبودية، فعبدوا الأصنام والأوثان؛ لأنهم يحبونها محبة ذل وانقياد وخضوع وطاعة فأشركوا في أعظم أنواع العبادة، وهو المحبة .

فالمشركون يحبون الله؛ لأنهم يعترفون بربوبيته وخلقه لهم، فهم يحبونه، لكنهم لم يخلصوا محبتهم، بل أشركوا معه آلهة أخرى يحبونها مع الله محبة عبودية وخضوع وذل وتقرب إليها بالعبادة .

هذا هو الوجه الصحيح في تفسير الآية: أن المشركين يحبون الله ويحبون معه غيره من الأصنام والأوثان كما يحبون الله، فيعادلون بين محبة الله ومحبة الأصنام ومحبة الأوثان .

ولا يزال المشركون على هذا، فالذين يعبدون القبور والأضرحة يحبونها، ولهذا يغارون ويغضبون إذا قيل لهم إن هذه المعبودات الباطلة لا تغني عنكم شيئا، ولا تنفعكم بل تضركم فهم يغضبون، بل قد يقاتلون دونها؛ لأنهم يحبونها كَحُبِّ اللَّهِ أي: كما يحبون الله .

قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ الذين أخلصوا المحبة لله -وهم المؤمنون- هؤلاء أشد حبا لله من محبة المشركين لله، ؛ لأن محبة المؤمنين خالصة ومحبة المشركين مشتركة ، والمحبة الخالصة أشد وأقوى من المحبة المشتركة، وهذه المحبة هي التي تنفع، أما محبة المشركين لله فإنها لا تنفعهم ما داموا يحبون مع الله غيره فلم يخلصوا في محبتهم .

فدلت هذه الآية الكريمة على أن المحبة نوع من أنواع العبادة، بل هي أعظم أنواع العبادة، وأن من أحب مع الله غيره فيها فقد أشرك بالله الشرك الأكبر واتخذ هذا المحبوب ندا، أي: شريكا مع الله ومعادلا لله ومساويا لله، كما يقول أهل النار يوم القيامة لمن أشركوهم مع الله: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ .

وحلاوة الإيمان أي: لذته؛ لأن الإيمان الصادق له لذة في النفوس ، وله طمأنينة في القلوب، هذا هو الإيمان الصادق: تجد المؤمن يتلذذ بالإيمان، ويطعم الإيمان أكثر مما يطعم أي أنواع الملذات .

الخصلة الأولى: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما أي: أحب إليه من نفسه، وأحب إليه من كل شيء، ومن الوالدين والأولاد والأقارب والأصدقاء وسائر الناس . وهذا يقتضي تقديم قولهما على قول كل أحد .

الخصلة الثانية: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله أي: يحب الإنسان من بني آدم لا يحبه إلا لله ، لا يحبه من أجل طمع دنيا أو عرض عاجل، وإنما يحبه لله لأنه مطيع لله؛ لأنه مؤمن ؛ لأنه تقي، أما الذي يحب الشخص من أجل الدنيا أو من أجل الأطماع أو الشهوات أو الأغراض، فهذه محبة لا تنفعه عند الله شيئا .

وهذا فيه فضل المحبة في الله بين المؤمنين، والمحبة في الله أوثق عرى الإيمان - كما في الحديث: أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه .

وفي الحديث الصحيح: أن رجلا خرج إلى قرية ليزور أخا له في الله فأرصد الله على مدرجته، أي: طريقه ملكا ليختبره، فلما مر عليه فقال له الملك: أين تريد؟ قال: أريد قرية كذا وكذا، قال: وما غرضك فيها؟ وما شأنك؟ قال: لأن فيها أخا لي في الله أحببت زيارته، فقال له الملك: هل له عليك نعمة تربها؟ يعني: هل هو قد أحسن إليك وأنت تحبه من أجل صنيعه معك ومعروفه معك، قال: لا، إلا أني أحببته في الله يعني: ما زرته ولا خرجت إليه إلا لأني أحبه في الله، لا من أجل أنه أحسن إلي أو من أجل أنه أعطاني شيئا أو من علي بشيء فقال له الملك: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه .

كثير من الناس يتحابون ويتآلفون من أجل أمور الدنيا، من أجل الرجاء والطمع وغير ذلك، إن أحسن إليه وأعطاه شيئا أحبه، وإلا فإنه لا يحبه، وهذا موجود في البهائم والكلاب والقطط إذا أحسنت إليها فإنها تألفك وتحبك جبلة وطبيعة، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، لكن هذا ليس فيه مزية، إنما المزية أن تحبه لا من أجل شيء أعطاك، وإنما تحبه من أجل الله عز وجل، هذه هي الدرجة العالية الرفيعة من المحبة في الله .

الخصلة الثالثة: التي يجد بهن العبد حلاوة الإيمان: وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه؛ كما يكره أن يقذف في النار كل الناس ينفرون من النار - والعياذ بالله - لأنها مؤلمة، ولا أحد يصبر على حرها، فكل يفر من النار ويبتعد عنها، والكفر نار، والمسلم الذي من الله عليه بالإسلام يكره أن يعود إلى الكفر، ويكره الردة عن دين الإسلام، كما يكره أن يلقى في النار، هذا هو المؤمن حقا، الذي تمكن الإيمان من قلبه فلا يساوم عليه، ولا يتنازل عن شيء منه أبدا مهما كلفه الأمر، بل يتمسك بدينه . لأنه وجد حلاوة الإيمان ولذته .

أما الذي يدعي الإيمان، ولكنه يتنازل عن الإيمان - أو عن شيء منه - من أجل الخوف أو الطمع أو غير ذلك فهذا دليل إما على عدم إيمانه أو على نقصان إيمانه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ أما المؤمن فإنه يصبر ولو ناله شيء من المكاره، ولو حاول الناس أن يصرفوه عن دينه، أعطوه أموالا، وأعطوه ما يعطونه، أو حاولوا صرفه عن دينه، أو التنازل عن دينه بالتخويف والتهديد بالقتل، والتهديد بالتعذيب، فإنه يصبر، ولا يتنازل عن دينه حتى يلقى الله سبحانه متمسكا بدينه، هذا هو المؤمن حقا .

وقوله: وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار قالوا: هذا فيه دليل على أن المكره إذا صبر على الإكراه، وصبر على القتل أنه يكون من هذا النوع - ممن وجد حلاوة الإيمان، ولما وجد حلاوة الإيمان ما رضي أن يتنازل عنها أبدا .

ولهذا جاء في قصة الرجلين اللذين مرا على صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب ، يعني: اذبح للصنم حتى نتركك تمر، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة ، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ليس عندي شيء أقرب: قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فدخل النار . الأول أبى أن يذبح لغير الله، والثاني استجاب . فالأول قتل ودخل الجنة، والثاني ذبح لغير الله، فمر مع الطريق، ودخل النار، لأنه رجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، أما الأول فأبى أن يرجع إلى الكفر وصبر على القتل فدخل الجنة، وهذا الإيمان إذا باشر القلب ووجد حلاوته .