( قوله باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق )

كذا بت الحكم بالمسألة وفيها خلاف قديم عن طاوس وعن خلاس بن عمرو وغيرهما أنه لا يقع ومن ثم نشأ سؤال من سأل بن عمر عن ذلك
4954 قوله شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت بن عمر قال طلق بن عمر امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ليراجعها قلت تحتسب قال فمه.

القائل قلت هو أنس بن سيرين والمقول له بن عمر بين ذلك أحمد في روايته عن محمد بن جعفر عن شعبة وكذا أخرجه مسلم من طريق محمد بن جعفر وقد ساقه مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن بن سيرين مطولا كما سأذكره بعد ذلك.

قوله وعن قتادة عن يونس بن جبير هو معطوف على قوله عن أنس بن سيرين فهو موصول وهو من رواية شعبة عن قتادة ولقد أفرده مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة سمعت يونس بن جبير قوله عن بن عمر قال مرة فليراجعها هكذا اختصره ومراده أن يونس بن جبير حكى القصة نحو ما ذكرها أنس بن سيرين سوى ما بين من سياقه قوله قلت تحتسب هو بضم أوله والقائل هو يونس بن جبير قوله قال أرايته في رواية الكشميهني أرأيت أن عجز واستحمق وقد اختصره البخاري اكتفاء بسياق أنس بن سيرين وقد ساقه مسلم حيث أفرده ولفظه سمعت بن عمر يقول طلقت امرأتي وهي حائض فأتي عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال ليراجعها فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها قال قلت لابن عمر افيحسب بها قال ما يمنعه أرأيت أن عجز واستحمق.

وقال أحمد حدثنا محمد بن جعفر وعبد الله بن بكير قالا حدثنا شعبة فذكره أتم منه وفي أوله أنه سأل بن عمر عن رجل طلق امرأته وهي حائض وفيه فقال مرة فليراجعها ثم أن بدا له طلاقها طلقها في قبل عدتها وفي قبل طهرها قال قلت لابن عمر أفتحتسب طلاقها ذلك طلاقا قال نعم أرأيت أن عجز واستحمق.

وقد ساقه البخاري في آخر الباب الذي بعد هذا نحو هذا السياق من رواية همام عن قتادة بطوله وفيه قلت فهل عد ذلك طلاقا قال أرأيت أن عجز واستحمق وسيأتي في أبواب العدد في باب مراجعة الحائض من طريق محمد بن سيرين عن يونس بن جبير مختصرا وفيه قلت فتعتد بتلك التطليقة قال أرأيت أن عجز واستحمق.

وأخرجه مسلم من وجه آخر عن محمد بن سيرين مطولا ولفظه فقلت له إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض ايعتد بتلك التطليقة قال فمه أو أن عجز واستحمق وفي رواية له فقلت افتحتسب عليه والباقي مثله.

وقوله فمه أصله فما وهو استفهام فيه اكتفاء أي فما يكون أن لم تحتسب ويحتمل أن تكون الهاء اصلية وهي كلمة تقال للزجر أي كف عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك قال بن عبد البر قول بن عمر فمه معناه فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها إنكارا لقول السائل ايعتد بها فكأنه قال وهل من ذلك بد وقوله أرأيت أن عجز واستحمق أي أن عجز عن فرض فلم يقمه أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذرا له وقال الخطابي في الكلام حذف أي أرأيت أن عجز واستحمق ايسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه وقال الكرماني يحتمل أن تكون أن نافية بمعنى ما أي لم يعجز بن عمر ولا استحمق لأنه ليس بطفل ولا مجنون قال وأن كانت الرواية بفتح ألف أن فمعناه أظهر والتاء من استحمق مفتوحة قاله بن الخشاب وقال المعنى فعل فعلا يصيره أحمق عاجزا فيسقط عنه حكم الطلاق عجزه أو حمقه والسين والتاء فيه إشارة إلى أنه تكلف الحمق بما فعله من تطليق امرأته وهي حائض وقد وقع في بعض الأصول بضم التاء مبنيا للمجهول أي أن الناس استحمقوه بما فعل وهو موجه وقال المهلب معنى قوله أن عجز واستحمق يعني عجز في المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطلاق أو فقد عقله فلم تمكن منه الرجعة اتبقى المرأة معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة وقد نهى الله عن ذلك فلا بد أن تحتسب بتلك التطليقة التي اوقعها على غير وجهها كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله فلم يقمه واستحمق فلم يأت به ما كان يعذر بذلك ويسقط عنه.

قوله حدثنا أبو معمر كذا في رواية أبي ذر وهو ظاهر كلام أبي نعيم في المستخرج وللباقين وقال أبو معمر وبه جزم الإسماعيلي وسقط هذا الحديث من رواية النسفي أصلا قوله عن بن عمر قال حسبت على بتطليقة هو بضم أوله من الحساب وقد أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه مثل ما أخرجه البخاري مختصرا وزاد يعني حين طلق امرأته فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

قال النووي شذ بعض أهل الظاهر فقال إذا طلق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبية وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض وقال بن عبد البر لا يخالف في ذلك الا أهل البدع والضلال يعني الآن قال وروى مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ وحكاه بن العربي وغيره عن بن علية يعني إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي قال الشافعي في حقه إبراهيم ضال جلس في باب الضوال يضل الناس وكان بمصر وله مسائل ينفرد بها وكان من فقهاء المعتزلة وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه وحاشاه فإنه من كبار أهل السنة وكأن النووي أراد ببعض الظاهرية بن حزم فإنه ممن جرد القول بذلك وانتصر له وبالغ وأجاب عن أمر بن عمر بالمراجعة بان بن عمر كان اجتنبها فأمره أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة فحمل المراجعة على معناها اللغوي وتعقب بأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية اتفاقا وأجاب عن قول بن عمر حسبت على بتطليقه بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعقب بأنه مثل قول الصحابي أمرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينئذ وهو النبي صلى الله عليه وسلم كذا قال بعض الشراح وعندي أنه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي في قول الصحابي أمرنا بكذا فإن ذاك محله حيث يكون اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحا وليس كذلك في قصة بن عمر هذه فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالمراجعة وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك وإذا أخبر بن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا جدا مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك وكيف يتخيل أن بن عمر يفعل في القصة شيئا برأيه وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ من صنيعه كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة وقد أخرج بن وهب في مسنده عن بن أبي ذئب أن نافعا أخبره أن بن عمر طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال مرة فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر قال بن أبي ذئب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي واحدة قال بن أبي ذئب وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخرجه الدارقطني من طريق يزيد بن هارون عن بن أبي ذئب وبن إسحاق جميعا عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هي واحدة وهذا نص في موضع الخلاف فيجب المصير إليه وقد أورده بعض العلماء على بن حزم فأجابه بأن قوله هي واحدة لعله ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال وعند الدارقطني في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن بن عمر في القصة فقال عمر يا رسول الله افتحتسب بتلك التطليقة قال نعم ورجاله إلى شعبة ثقات وعنده من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن رجلا قال إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض فقال عصيت ربك وفارقت امرأتك قال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بن عمر أن يراجع امرأته قال أنه أمر بن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له وأنت لم تبق ما ترتجع به امرأتك وفي هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة بن عمر على المعنى اللغوي وقد وافق بن حزم على ذلك من المتأخرين بن تيمية وله كلام طويل في تقرير ذلك والانتصار له واعظم ما احتجوا به ما وقع في رواية أبي الزبير عن بن عمر عند مسلم وأبي داود والنسائي وفيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعها فردها وقال إذا طهرت فليطلق أو يمسك لفظ مسلم وللنسائي وأبي داود فردها على زاد أبو داود ولم يرها شيئا وإسناده على شرط الصحيح فإن مسلما أخرجه من رواية حجاج بن محمد عن بن جريج وساقه على لفظه ثم أخرجه من رواية أبي عاصم عنه وقال نحو هذه القصة ثم أخرجه من رواية عبد الرزاق عن بن جريج قال مثل حديث حجاج وفيه بعض الزيادة فأشار إلى هذه الزيادة ولعله طوى ذكرها عمدا وقد أخرج أحمد الحديث عن روح بن عبادة عن بن جريج فذكرها فلا يتخيل انفراد عبد الرزاق بها

قال أبو داود روى هذا الحديث عن بن عمر جماعة واحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.

وقال بن عبد البر قوله ولم يرها شيئا منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه ولو صح فمعناه عندي والله أعلم ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تقع على السنة.

وقال الخطابي قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا وقد يحتمل أن يكون معناه ولم يرها شيئا تحرم معه المراجعة أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار وأن كان لازما له مع الكراهة.

ونقل البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال نافع أثبت من أبي الزبير والاثبت من الحديثين أولي أن يؤخذ به إذا تخالفا وقد وافق نافعا غيره من أهل الثبت قال وبسط الشافعي للقول في ذلك وحمل قوله لم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا غير خطأ بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيئا أي لم يصنع شيئا صوابا.

قال بن عبد البر واحتج بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روى عن الشعبي قال إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض لم يعتد بها في قول بن عمر قال بن عبد البر وليس معناه ما ذهب إليه وإنما معناه لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة كما روى ذلك عنه منصوصا أنه قال يقع عليها الطلاق ولا تعتد بتلك الحيضة اه

وقد روى عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر نحوا ما نقله بن عبد البر عن الشعبي أخرجه بن حزم بإسناد صحيح والجواب عنه مثله وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء وهذه متابعات لأبي الزبير الا أنها قابلة للتأويل وهو أولي من الغاء الصريح في قول بن عمر أنها حسبت عليه بتطليقة وهذا الجمع الذي ذكره بن عبد البر وغيره يتعين وهو أولي من تغليط بعض الثقات وأما قول بن عمر أنها حسبت عليه بتطليقة فإنه وأن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه تسليم أن بن عمر قال أنها حسبت عليه فكيف يجتمع مع هذا قوله أنه لم يعتد بها أو لم يرها شيئا على المعنى الذي ذهب إليه المخالف لأنه أن جعل الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لزم منه أن بن عمر خالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بخصوصها لأنه قال أنها حسبت عليه بتطليقة فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئا وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به وأن جعل الضمير في لم يعتد بها أو لم يرها لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة فيفتقر إلى الترجيح ولا شك أن الأخذ بما رواه الأكثر والاحفظ أولي من مقابله عند تعذر الجمع عند الجمهور والله أعلم


--------------------------------------------------------------------------------

فتح الباري ج:9 ص:351