كيف تقر عينك بالصلاة ؟
للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله

أحدها : مرتبة الظالم لنفسه، المفرِّط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثاني : من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث : من حافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه؛ لئلا يسرق منه صلاته، فهو في صلاة وجهاد.
الرابع : من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يُضَيِّع منها شيئاً، بل همُّه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبَه شأنُ الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
الخامس : من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكنْ مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظراً بقبله إليه، مراقبا له، ممتلئا من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّتْ تلك الوساوس والخطوات، وارتفعت حُجُبُها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز و جل، قرير العين به.
فالقسم الأول معاقَبٌ، والثاني محاسَبٌ، والثالث مَكَفَّرٌ عنه، والرابع مثابٌ، والخامس مُقَرّبٌ من ربه؛ لأن له نصيباً ممن جُعِلَتْ قرة عينه في الصلاة، فمن قَرَّتْ عينه بصلاته في الدنيا قَرَّتْ عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، وقرت عينه - أيضا - به في الدنيا، ومن قرَّتْ عينه بالله قرَّتْ به كل عين، ومن لم تَقَرَّ عينه بالله تعالى تقطَّعَتْ نفسه على الدنيا حسرات.

( والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا )

قال الله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[الحجرات: 17] فالله - سبحانه - هو الذي جعل المسلم مسلماً، والمصلي مصلياً، كما قال الخليل صلى الله عليه وسلم: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾[البقرة: 128]، وقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾[إبراهيم: 40].
فالمنَّةُ لله وحده في أن جعل عبده قائماً بطاعته. وكان هذا من أعظم نِعَمِه عليه.
وقال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]، وقال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾[الحجرات: 7].
وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد وكلما كان العبد أعظم توحيداً كان حظه من هذا المشهد أتم.
وفيه من الفوائد أنه يحول بين القلب وبين العُجبِ بالعمل ورؤيته، فإنه إذا شهد أن الله - سبحانه - هو المانُّ به، الموفق له، الهادي إليه، شَغَلَه شهود ذلك عن رؤيته، والإعجاب به، وأن يصول به على الناس، فَيُرفع من قلبه؛ فلا يعجب به، ومن لسانه؛ فلا يَمُنُّ به ولا يتكثر به، وهذا شأن العمل المرفوع.
ومن فوائده أنه يضيف الحمد إلى وليه ومستحقه، فلا يشهد لنفسه حمداً بل يشهده كله لله، كما يشهد النعمة كلها مِنْهُ، والفضل كله له، والخير كله في يديه، وهذا من تمام التوحيد، فلا يستقر قدمه في مقام التوحيد إلا بعلم ذلك وشُهُودِهِ، فإذا علمه ورسخ فيه صار له مشهداً، وإذا صار لقلبه مشهداً أثمر له من المحبة والأُنس بالله والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته ما لا نسبة بينه وبين أعلى نعيم الدنيا ألبتة.
وما للمرء خير في حياته إذا كان قلبه عن هذا مصدوداً، وطريق الوصول إليه عنه مسدوداً، بل هو كما قال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[الحجر: 3].
المشهد السادس : مشهد التقصير
وأنَّ العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر، وحق الله - سبحانه - عليه أعظم، والذي ينبغي له أن يُقابَل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير، وأنَّ عظمته وجلاله - سبحانه - يقتضي من العبودية ما يليق بها.
وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم، والتعظيم، والاحترام، والتوقير، والحياء، والمهابة، والخشية، والنصح، بحيث يُفرِّغُونَ قلوبهم وجوارحهم لهم، فمالك الملوك ورب السموات والأرض أولى أن يُعامَل بذلك، بل بأضعاف ذلك.
وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يُوَفِّ ربه في عبوديته حقه، ولا قريباً من حقه، علم تقصيره، ولم يسعه مع ذلك غير الاستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه وعدم القيام بما ينبغي له من حقه، وأنه إلى أن يغفر له العبودية ويعفو عنه فيها أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثوابا، وهو لو وفَّاها حقها كما ينبغي لكانت مُستَحَقَّةً عليه بمقتضى العبودية، فإنَّ عمل العبد وخدمته لسيده مُستَحقٌّ عليه بحكم كونه عبده ومملوكه، فلو طَلَبَ منه الأُجرَةَ على عمله وخدمته لعده الناس أحمَقَ وأخرَقَ، هذا وليس هو عبده ولا مملوكه على الحقيقة، وهو عبد الله، ومملوكه على الحقيقة من كل وجه.
فعمله وخدمته مُستَحَقٌ عليه بحكم كونه عبده، فإذا أثابه عليه كان ذلك مجرد فضلٍ ومنَّة وإحسان إليه لا يستحقه العبد عليه.
ومن ههنا يُفهم معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا َاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ » قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْتَ. قَالَ: «وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِىَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»[رواه مسلم: 7295].
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - : « يُخَرَجُ للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه حسناته، وديوان فيه سيئاته، وديوان النعم التي أنعم الله عليه بها. فيقول الرب - تعالى – لنعمه: خذي حقك من حسنات عبدي. فيقوم أصغرها فتستنفذ حسناته، ثم تقول: وعِزَّتك ما استوفيت حقي بعد. فإذا أراد الله أن يرحم عبده وهبه نعمه عليه، وغفر له سيئاته، وضاعف له حسناته ». وهذا ثابتٌ عن أنس. وهو أدلُّ شيء على كمال علم الصحابة بربهم وحقوقه عليهم، كما أنهم أعلم الأمة بنبيهم وسنته ودينه، فإنَّ في هذا الأثر من العلم والمعرفة ما لا يدركه إلا أولو البصائر العارفون بالله وأسمائه وصفاته وحقه. ومن هنا يُفهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود، والإمام أحمد، من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ». [ قال الألباني: صحيح ["الظلال": (245)]]
ومِلاكُ هذا الشأن أربعة أمور :
نية صحيحة، وقوةٌ غالبة، يقارنهما: رغبة، ورهبة.
فهذه الأربعة هي قواعد هذا الشأن. ومهما دخل على العبد من النقص في إيمانه وأحواله وظاهره وباطنه فهو من نقصان هذه الأربعة أو نقصان بعضها.
فليتأمل اللبيب هذه الأربعة الأشياء، وليجعلْهَا سيره وسلوكه، ويبني عليها علومه وأعماله وأقواله وأحواله، فما نَتَجَ من نَتَجَ إلا منها، ولا تخلف من تخلف إلا من فقدها.
والله أعلم، والله المستعان، وعليه التكلان، وإليه الرغبة، وهو المسؤول بأن يوفقنا وسائر إخواننا من أهل السنة لتحقيقها علماً وعملاً، إنه ولي ذلك والمانُّ به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقال في الوابل الصيب:

والناس في الصلاة على مراتب خمسة :

أحدها : مرتبة الظالم لنفسه، المفرِّط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثاني : من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث : من حافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه؛ لئلا يسرق منه صلاته، فهو في صلاة وجهاد.
الرابع : من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يُضَيِّع منها شيئاً، بل همُّه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبَه شأنُ الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
الخامس : من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكنْ مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظراً بقبله إليه، مراقبا له، ممتلئا من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّتْ تلك الوساوس والخطوات، وارتفعت حُجُبُها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز و جل، قرير العين به.
فالقسم الأول معاقَبٌ، والثاني محاسَبٌ، والثالث مَكَفَّرٌ عنه، والرابع مثابٌ، والخامس مُقَرّبٌ من ربه؛ لأن له نصيباً ممن جُعِلَتْ قرة عينه في الصلاة، فمن قَرَّتْ عينه بصلاته في الدنيا قَرَّتْ عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، وقرت عينه - أيضا - به في الدنيا، ومن قرَّتْ عينه بالله قرَّتْ به كل عين، ومن لم تَقَرَّ عينه بالله تعالى تقطَّعَتْ نفسه على الدنيا حسرات.
من رسالة ابن القيم إلى أحد أخوانه ص 39
وكتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب ص 49