تفسير الشيخ اللباني رحمه الله لحديث من أحب أن ينسأ له في أجله

--------------------------------------------------------------------------------

جاء في الحديث ( حسن الخلق وحسن الجوار يعمّران الديار ويطيلان في الأعمار ) وفي الحديث الآخر ( من أحب أن ينسأ له في أجله ويوسّع له في رزقه فليصل رحمه ) ، سمعنا بعض العلماء يفسرون طول العمر هنا بغير ما يدل عليه ظاهر الحديث ؟
من عجائب التأويلات التي لا يكاد ينقضي تعجبي من صدور ذلك من بعض أهل العلم تأويلهم لهذا الحديث والذي قبله بأنهم يقولون ليس المقصود إطالة العمر حقيقة ، وإنما المقصود المباركة في عمر هذا الإنسان ، ولماذا هم يتأولون هذا التأويل ؟ يتأولون هذا التأويل بحجة قائمة على تأويلهم ، ذلك لأنهم يقولون لأن العمر محدود والرزق مقسوم وهذا مصرح به بالأحاديث التي فيه أن الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح ويأتيه الملك لينفخ فيه الروح يسأل ربه عن سعادته وشقاوته وأجله ورزقه ، يقول فإذن العمر محدود والرزق مقسوم ، فكيف يقال إن العمر يطول والرزق يوسّع عليه ؟! لذلك تأولوه بذلك التأويل ، وما ( يزيد ) تعجبي هو أنه لا يمكن المسلم أن يقول فيما تأولوه به إلا ما يقولوه فيما تأولوه ، أي البركة نفسها هي أيضا محدودة ومقسومة مؤلفة في اللوح المحفوظ لا تتغير ولا تتبدل ، فأيش الفائدة من قولنا إن المقصود البركة في العمر والبركة في الرزق ؟! البركة في الرزق في العمر هذه حقيقة ، لأن كثيرا من الناس كما تعلمون يأتيهم الرزق الواسع ، ولكن ما بين عشية وضحاها يصبحوا صفر اليدين ... فما الجواب الصحيح ؟ الجواب الصحيح هو ما جاء في الحديث صراحة ، أي الرزق يوسّع على صاحبه بالخلق الحسن والواصل لأقاربه وعمره يطول ، وكيف ذلك والعمر محدود ؟ الجواب بسيط جدا لو كنتم تعلمون جواب السعادة والشقاوة ، السعادة والشقاوة أليست محدودة أيضا ؟ طبعا ، قد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : أعمالنا هذه عن أمر ماض أم الأمر أنف ؟ قال : بل هو قدر ماض ، قالوا له : ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، فمن كان من أهل الجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة ، ومن كان من أهل النار فسيعمل بعمل أهل النار ، وتلا قوله تبارك وتعالى { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } ، إيش معنى الحديث والآية ؟ معنى الحديث والآية أن السعادة والشقاوة كل منهما مرتبط في علم الله عز وجل والذي سجّل في اللوح المحفوظ : العمل الصالح مع السعادة والعمل الطالح مع الشقاوة ، إذا عرفنا أن السعادة مرتبطة بالعمل الصالح والشقاوة مرتبطة أيضا بالعمل الطالح وعرفنا أن كلاَ من العمل الصالح والعمل الطالح سببان يحققان السعادة أو الشقاوة ، هذه حقيقة لا خلاف فيها بين المسلمين أبدا ، إذن إذا كان العمل الصالح هو سبب السعادة والعمل الطالح هو سبب الشقاوة فصلة الرحم وحسن الخلق سبب في طول العمر وسعة الرزق ، أي أن الحديثين السابقين ذكرا ( حسن الخلق وحسن الجوار يعمّران الديار ويطيلان في الأعمار ) و الحديث الآخر ( من أحب أن ينسأ له في أجله ويوسّع له في رزقه فليصل رحمه ) يتحدثان في دائرة الأسباب ، شو سبب السعادة ؟ سبق ، العمل الصالح ، شو سبب الشقاوة ؟ العمل الطالح ، هنا الحديثان يتحدثان عن سبب سعة الرزق وطول العمر قال حسن الجوار وصلة الأرحام ، فنحن ما ندري ما الذي كتب على الإنسان سعادة أم شقاوة ، لكن العمل هو الذي يدرّينا ، ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : كيف لي أن أعلم أنني مسلم أو مؤمن أو محسن ؟ قال : سل جيرانك ، فإن أحسنوا الثناء عليك فأنت مسلم ، وإن أساءوا الثناء عليك فأنت غير مسلم ، أو كما قال عليه السلام ، إذن الأعمال هي مربوطة مع القدر الغائب عنا ، ولذلك قال تعالى { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } أي الجنة { وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } ، وكما أن رجلا لا أقول مسلما ، وكما أن رجلا عاقلا لا يستطيع أن يقول : أنا أترك أسباب الصحة وأترك أسباب القوة والسعادة الدنيوية بحجة أنه إن كان الله مقدر لي الصحة والسعادة الدنيوية حتجيني هذه السعادة ولو أنا ما اتخذت سبب من الأسباب !! ما أحد يقول بهذا ، على العكس تجد الناس الأشقياء الفاسدين سلوكا وأخلاقا يأخذون بأسباب السعادة الدنيوية والصحة البدنية ، لأنهم يعلمون يقينا أن هذه الصحة لا بد لها من اتخاذ الأسباب ، كذلك يقال تماما بالنسبة للسعادة الأخروية ، إذا المسلم يريد يكون سعيدا فعلا فعليه أن يضع نصب عينيه الآية السابقة ... إذن الحديث الأول والثاني على ظاهرهما تماما ، ( من أحب أن ينسأ له في أجله ويوسّع له في رزقه فليصل رحمه ) أي صلة الرحم سبب شرعي لسعة الرزق وطول العمر ، لكن النتيجة نحن مخبأة عنا غير معلومة لدينا كالسعادة والشقاوة تماما ، لكن كما أن السعادة والشقاوة لها أسباب كذلك طول العمر وسعة الرزق لها أسباب ، لا فرق بين هذه الأسباب وتلك الأسباب ، ويكفي في إثبات السببية في السعادة الأخروية أن نتذكر قول الله تبارك وتعالى ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون ) ، هذه الباء هنا سببية ، يعني بسبب عملكم الصالح ، وأعظم الأعمال الصالحة هو الإيمان كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن أفضل الأعمال قال : ( الإيمان بالله تبارك وتعالى ) ، الإيمان عمل قلبي مش كما يقول بعض الناس أنه لا علاقة له بالعمل ، لا ، الإيمان أولا : لا بد من أن يتحرك القلب بالإيمان بالله ورسوله ، ثم لا بد أن يقترن مع هذا الإيمان الذي وقر في القلب أن يظهر ذلك على البدن والجوارح ، لذلك فقوله تبارك وتعالى { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } نص قاطع صريح في أن دخول الجنة ليس بمجرد الأماني كما قال تبارك وتعالى { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } ، من يعمل خيرا يجز به ، من يعمل سوءا يجز به كما قال تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } .

سلسلة الهدى و النور الشريط 11 على 1