ثانيا: نقد ابن الجوزي للتصوف و الصوفية:

اشتد الفقيه عبد الرحمن بن الجوزي (ت597 ه/1200م) في انتقاد الصوفية ،و خصص لذمهم و انتقاد مذهبهم قسما كبيرا من كتابيه : تلبيس إبليس ، و صيد الخاطر . فمن ذلك أنه أعاب عليهم تركهم للعلم و تنفير الناس منه ، و اقتصار بعضهم على القليل منه ن بدعوى الاكتفاء بعلم الباطن ، و لا حاجة للوسائط ، و إنما هو: قلب و رب[14] . لذلك انحرف أكثرهم في عباداتهم ،و قلت علومهم، و تكلموا في الشرع بآرائهم الفاسدة ، فإذا أسندوا فإلى حديث ضعيف أو موضوع ، أو يكونوا فهمهم منه رديئا ؛ و إذا خاضوا في التفسير كان غالب كلامهم خطأ و هذيانا.و لجهلهم بالشرع و ابتداعهم بالرأي ابتكروا مذهبا زينه لهم هواهم ، ثم تطلبوا له الدليل من الشرع ، فاستدلوا بآيات لم يفهمونها ،و بأحاديث لها أسباب و جمهورها لا يثبت[15] .

و عن موقف الصوفية من العقل و النقل ،و اعتزازهم بمذهبهم نقل ابن الجوزي عن الصوفي عبد الكريم القشيري(ت465 ه/1072م) قوله: (( حجج الصوفية أظهر من حجج كل أحد ، و قواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب ، لأن الناس إما أصحاب نقل وأثر ، وإما أرباب عقل و فكر ، وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة ، و الذي للناس غيب فلهم ظهور ، فهم أهل الوصال ،و الناس أهل الاستدلال )) ثم عقب عليه ابن الجوزي بقوله: (( من له أدنى فهم يعرف أن هذا الكلام تخليط ، فإن من خرج عن النقل و العقل فليس بمعدود في الناس ،و ليس أحد من الخلق إلا و هو مستدل .و ذكر الوصال حديث فارغ ، فنسأل الله العصمة من تخليط المريدين و الأشياخ ))[16] . و ما قاله القشيري خطير جدا ينتهي بمن يأخذ به إلى إبعاد الشرع ،و تعطيل العقل ، ليعبد الله –بعد ذلك- على هواه ، فلا يفرق بين الحلال و الحرام ،و لا بين ما يجب لله ما لا يجب له ، فيضل و يضل و يصدق عليه قوله تعالى: (( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ))-سورة القصص/50- .

و أعاب على مشايخهم تكلمهم في القرآن الكريم بغير علم ،و قولهم فيه خلاف أقوال المفسرين، فذكر أن الصوفي أبا عبد الرحمن السلمي(ت412 ه/1021م) صنف تفسيرا[17] جمع فيه أقوالا لهم أكثرها هذيان . منها أن الصوفي أبا القاسم بن محمد الجنيد البغدادي(ت298 ه/910م) فسر قوله تعالى: (( سنقرئك فلا تنسى ))-سورة الأعلى / 6- بمعنى لا تنس العمل به .و فسر قوله تعالى: (( و درسوا ما فيه ))-سورة الأعراف/169- بتركوا العمل به . وهذان التفسيران عند ابن الجوزي غير صحيحين ظاهرين الغلط ، فقوله في الآية الأولى ، هو خلاف إجماع العلماء ، إذ فسرها على أن فيها نهي ، و الصحيح إنما هو خبر لا نهي و تقديره : فما تنسى-أي فيها نهي- و لو كان نهيا لجزم الفعل .و أما قوله في الآية الثانية بأن معناها: تركوا العمل به ن فهو خطأ ، لأن معناها الدرس الذي هو التلاوة ، من قوله تعالى: (( بما كنتم تدرسون ))-سورة آل عمران /79-، لا من دروس الشيء الذي هو هلاكه[18] . ثم ختم ابن الجوزي تعقيباته على تفسيراتهم بقوله: (( و إنما العجب من هؤلاء –و كانوا يتورعون من الكلمة و اللقمة- كيف انبسطوا في تفسير القرآن الكريم إلى ما هذا حده ))[19] .

و أشار ابن الجوزي إلى أن كبار مؤلفي الصوفية كالحارث بن أسد المحاسبي البغدادي (ت 243 ه/857م) ،و أبي نعيم أحمد الصفهاني(ت430 ه/1038م) ،و أبي حامد الغزالي(ت505 ه/1111م)، جمعوا في مصنفاتهم الأكاذيب و العجائب ، و الاعتقادات الباطلة ، والكلام المرذول ، و ملؤوها بالأحاديث غير الصحيحة و الدقائق القبيحة، و أمروا فيها بأشياء مخالفة للشريعة ، و لم يستندوا فيها على أصل ، وغنما هي واقعات تلقفها بعضهم عن بعض ، ثم دونوها و سموها علم الباطن[20] .

و انتقدهم في بعض سلوكياتهم داخل الأربطة ، فمنها أنهم أخلدوا فيها إلى البطالة ،و أراحوا أنفسهم من طلب الرزق و إعادة العلم ، و لا صلاة نافلة و لا قيام ليل . و إنما أكثر همهم التظاهر بالمرقعات و طلب الملذات ،و سماع الأغاني من المردان ،و المبالغة في المأكول و المشروب[21] . ثم قارنهم ابن الجوزي بمتقدميهم ، فقال أن أولئك قد لبس عليهم الشيطان بتقليل الطعام ،و عدم شرب الماء البارد ؛و أما المتأخرون فقد لبس عليهم بكثرة الأكل و رفاهية العيش ،و استراح هو من التعب و اشتغل بالتعجب منهم [22] .

و أخذ ابن الجوزي على بعض مشايخ الصوفية الأوائل دعوتهم إلى الجوع و تقليل الطعام ،و مجاهدة النفس بترك مباحاتها . و نبه إلى أن اتباع الشرع و ما كان عليه الصحابة أولى من اتباع هؤلاء ، و أن النفس مطية ، على الإنسان أن يرفق بها ليصل إلى مقصوده ، فيعطيها ما يصلحها و يمنعها ما يضرها ،و الحسم في حاجة ماسة إلى مختلف أنواع الغذاء [23] . وقوله هذا صحيح لأن الاعتدال في الأكل هو المطلوب ، فلا إفراط و لا تفريط ، لقوله تعالى: (( كلوا و اشربوا ولا تسرفوا ))-سورة الأعراف/31-،و لأن الجسم يتضرر من كثرة الأكل ، كما يتضرر من قلته .و قد روي أن الصوفي أبا محمد بن شكر اليونيني البعلي(ت647 ه/1249م) داوم على خشونة العيش ،و كثرة الجوع و المجاهدة ن فحصل له يبس أفسد مزاجه و أورثه تخيلات ، فتارة يتخيل أن جماعة تريد اغتياله ،و تارة يتوهم أنه اطلع على أماكن فيها كنوز و أموال كثيرة [24] .
و انتقدهم كذلك في تميزهم بلباس الفوط المرقعات و تظاهرهم بها ، و هو أمر مكروه و ليس من الشريعة لعدة و جوه ، منها : أنهم لبسوها من غير فقر ،و لم يلبس السلف الثياب المرقعات إلا ضرورة . و أنهم ادعوا الفقر و قد أمرنا بإظهار نعم الله علينا .و أنهم أظهروا الزهد-الذي قد يورث فيهم الكبر- و المطلوب منهم ستره[25] .و في ذلك يروى أن عالما قال لجماعة من أصحاب المرقعات : (( إخواني إن كان لباسكم موافقا لسرائركم ، لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها ،و إن كانت مخالفة لسرائركم ، فقد هلكتم و رب الكعبة ))[26] .و في حرصهم على ارتداء الخرق المرقعات ، أشار ابن الجوزي إلى أنهم اختلقوا حديثا في لبسها، له إسناد متصل كله كذب و محال[27] .

و يلاحظ على هؤلاء القوم أنهم بقدر حرصهم على التظاهر بالاهتمام بتطهير النفوس من أمراضها ،و ترويضها على الصبر و القناعة بالقليل، فإنهم من جهة أخرى تبدوا عليهم جليا مظاهر الكبر و التعالي ، و الاهتمام بالشكليات . فيدعون أنهم أرباب القلوب و البواطن و الوصال ، و يزدرون أصحاب العقل و النقل ، و يحرصون على التميز عن الناس بلباس صوفي مرقع . أوليس من الأحسن لقلوبهم و أخلاقهم ، ستر أحوالهم و عدم التميز عن غيرهم بالمرقعات ؟ ! .

و أشير هنا إلى أن المظاهر السلبية التي ذكرها ابن الجوزي عن الصوفية ، قد وجدت قبل زمانه و استمرت إلى ما بعده . فمن ذلك أن حجة الإسلام أبا حامد الغزاليـ505 ه/1111م) ، روى أنه لما شاعت دعاوى الصوفية العريضة بين العوام ، كالعشق و المشاهدة ، وارتفاع الحجاب ، و الوصال المغني عن الأعمال الظاهرة ، ترك أناس أعمالهم اليومية و تصوفوا ، و أظهروا تلك الدعاوى و استلذوا مناخ البطالة[28] . و روى الفقيه تاج الدين السبكي(ت 771ه/1369م) أن الصوفية في عصره قد كثر عددهم ن واتخذوا الخوانق طريقا للدنيا ، فارتدوا لباس الزور ،و أكلوا الحشيش-المخدر- ،و انهمكوا في طلب الملذات ن حتى قيل فيهم : (( أكلة بطلة سطلة ، لا شغل و لا مشغلة )) ،و قيل كذلك: (( نعوذ بالله من العقرب و الفار ، ومن الصوفي إذا عرف الدار ))[29] .

و لم يكتف ابن الجوزي بانتقاد عوام الصوفية و ذمهم ، بل انتقد كذلك خواصهم و أعلامهم ، كأبي حامد الغزالي ،و محمد بن طاهر المقدسي(ت507 ه/1113م) ،و عبد القادر الجيلاني(ت 561 ه/1165م) . ففيما يخص الغزالي فذكر عنه أنه خالط الصوفية ،و أخذ بنصائحهم ، ونظر في كتب قدمائهم ، فاجتذبه ذلك كلية[30] و أبعده عن قانون الفقه . ثم تعجب منه كيف نزل من رتبة الفقيه إلى رتبة الصوفي ؟ ! حتى أنه-أي الغزالي- قال: لا ينبغي للمريد إذا تاقت نفسه للجماع ، أن يأكل و يجامع ، فيعطيها شهوتين فتقوى عليه . و هذا-في نظر ابن الجوزي- مخالف للسنة ، فقد جمع النبي-عليه الصلاة و السلام- في مأكله شهوتين ، فأكل القثاء[31] بالرطب ، وطاف على نسائه بغسل واحد . فهلا اقتصر على شهوة واحدة [32] .

و تعجب منه في سلبيته تجاه الصوفية و أخذه بنصائحهم المخالفة للفقه ، مع معرفته و فهمة . فمن ذلك أنه أخذ بنصيحة أحد كبار الصوفية أمره فيها بترك المواظبة على تلاوة القرآن الكريم ،و أن لا يلتفت قلبه إلى أهل و ولد ،و لا إلى مال و علم ، و يتفرغ لقول: الله ، الله ،و يواظب عليه حتى يفتح بما فتح على الأنبياء و الأولياء[33] . ثم قال عنه أنه باع الفقه بالتصوف بأرخص الأثمان ، عندما ذكر أشياء تخالف الشريعة و لم ينكرها ، بل حكاها و استحسنها كوسيلة للتربية و التعليم ، منها أنه روى أن بعض الشيوخ عن القيام في الليل ، فلزم نفسه القيام على رأسه طول الليل لتطاوعه على القيام . و حكى أن عابدا كان شديد الحب للمال ، فعالج نفسه بأن باع كل ما يملك ، ورمي بالمال في البحر ، ولم يفرقه على الناس خوفا على نفسه من الرياء ، و رعونة النفس[34] . و إقدامهما على هذين الفعلين منكر مخالف للشريعة ، فهي قد نهت عن إضاعة المال و إذاء الجسم ، فالقيام على الرأس يؤدي إلى انعكاس الدم إليه ، وهذا يضر بالإنسان و يسبب له أمراضا[35] . كما أن تصرف هذين الرجلين دافعه-على ما يبدو- الجهل أو حب المحمدة ، أو كلاهما معا . فالذي جمع ماله-مثلا- و رماه في البحر خزفا من الرياء ، كان في مقدوره البحث عن و سيلة أخري يربي بهتا نفسه و لا يضيع بها ماله ، و إن أصر على التخلص منه ، فليخرج به ليلا أو باكرا –في وقت لا يراه فيه الناس- و يتركه في أي طريق ، ليأخذه الناس ، أحسن له من أن يرميه في البحر .

و أما محمد بن طاهر المقدسي ، فذكر عنه عبد الرحمن بن الجوزي أنه صنف كتابا في التصوف ، يضحك (( من يراه ،و يعجب من استشهاده على مذاهب الصوفية بالأحاديث التي لا تناسب ما يحتج له من نصرة الصوفية ))[36] . و روى عنه أنه كان يقول بمذهب الإباحية في النظر إلى المردان ؛ وله قصيدة فيها التحلل من الشريعة ، و مدح النصارى[37] .و حكي عنه أنه قال : من سنن الصوفية التي ينفردون بها ،و ينتسبون إليها ، صلاة ركعتين بعد ارتداء الخرقة و التوبة ، واحتج على ذلك بحديث الصحابي ثمامة بن آثال فإنه عندما أسلم أمره الرسول-صلى الله عليه وسلم- بالاغتسال . ثم عقب عليه بقوله: إن ما ذهب إليه ابن طاهر هو من أقبح الجهل ، لأن ثمامة كان كافرا فأسلم ، فوجب عليه الغسل ؛ و ليس في الخبر صلاة ركعتين فيقاس عليها ، و لا قال بها العلماء ،فهذا ابتداع لا سنة . و من أقبح الأشياء قوله أن الصوفية ينفردون بسنن ، فهي و إن كانت من الشرع فالمسلمون كلهم مطالبون بها ، وإن لم تكن منه فهم الذين اخترعوها[38] .

ثم أشار ابن الجوزي إلى أن العلماء الذين مدحوا ابن طاهر المقدسي، إنما أثنوا عليه لأجل حفظه للحديث ، وإلا فالجرح أولى به . وتعجب من الحافظ أبي سعد عبد الكريم السمعاني(ت563 ه/1167م) من انتصاره لابن طاهر بلا شيء ، إلا قوله: (( لعله تاب ))[39] . لكن المحدث محمد بن عبد الهادي المقدسي(ت744 ه/1343م) أنكر أن يكون ابن طاهر يقول بالإباحة المطلقة ، لأنه من أهل الحديث المعظمين للآثار ، لكنه أخطأ في إباحة السماع و النظر للمرد[40] .
و آخرهم الشيخ عبد القادر الجيلاني ، لم يكن على وفاق مع ابن الجوزي ، فقد روى أن هذا الأخير كان يغض من قدره و لا ينصفه ، و صنف كتابا في ذمه ، نقم فيه عليه أشياء كثيرة[41] . لكنني لم أعثر لابن الجوزي على أي نقد أو ذم صريحين لعبد القادر الجيلاني ؛و إن كان يوجد ما يوحي إلى أنه لم يكن على علاقة حسنة معه . فمن ذلك أنه ترجم له في كتابيه : مناقب الإمام أحمد ، و المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم ، فلم يمدحه و لم يقدح فيه ،و لم يترحم عليه ،و سماه : عبد القادر ، دون عبارة أخرى تدل على مكانته ، كالشيخ ، و الفقيه ، و العالم ، و جاءت ترجمته في ثمانية أسطر و كلمات[42] . و في هذا يقول المؤرخ الذهبي : (( و لم تسع مرارة ابن الجوزي بأن يترجمه بأكثر من هذا ، لما في قلبه له من البغض ، نعوذ بالله من الهوى ))[43] .و هو-أي ابن الجوزي- و إن لم يتوسع في معظم تراجم عصره –الذين ذكرهم في تاريخه- فقد كان في إمكانه أن يذكر للشيخ الجيلاني ترجمة حافلة ، مرصعة بجواهر كلامه الوعظي ، لكنه لم يفعل ذلك ؛ في حين ترجم لأبي الوفاء بن عقيل في ثلاث صفحات ،و للوزير ابن هبيرة في نحو أربع صفحات[44] .

فمها هي أسباب تنافر الرجلين و هما حنبليان بغداديان يجمعهما مذهب واحد ، أصولا و فروعا ؟ يبدو لي أن أهمها سببان ، الأول هو التصوف ، فإنه قد فرق بينهما ، فالجيلاني قطب من أقطاب الصوفية ، و ابن الجوزي من كبار العلماء المنتقدين للتصوف و الناقمين على أتباعه ، لذا قيل أنه أنكر على الجيلاني تصرفات صدرت منه في كتابه الذي ذمه فيه .و الثاني هو الحسد ، فيبدو أن ابن الجوزي كان يحسد الشيخ عبد القادر و ينافسه ، لما له من جاه في بغداد و خارجها ، مما دفعه إلى بغضه و عدم إنصافه . وهذا لا يليق بعالم مثله ، و الجيلاني ليس من أقرانه ، فهو بمثابة والده إذ يكبره بأكثر من خمس و ثلاثين سنة[45] .

و عن سبب اشتداد ابن الجوزي في نقد الصوفية ،يرى الحافظ ابن رجب الحنبلي أنه لما كان ابن الجوزي عظيم الخبرة بأحوال السلف الأول ،و لما له من حظ من أذواق الصوفية و مشاركتهم في بعض معارفهم ، اصبح لا يعذر المشايخ المتأخرين ، في مخالفتهم لطريق المتقدمين ، ويشتد في الإنكار عليهم . و من ساق المتأخرين مساق الأوائل و طالبهم بسيرتهم في العلم و العمل ، و الورع و كمال الخشية ، فلا ريب أنه يزدري المتأخرين ، و يمقتهم و يهضم حقوقهم ، فالأولى تنزيل الناس منازلهم ،و توفيتهم حقوقهم ، و معرفة مكانتهم ن و إقامة معاذيرهم[46] . وهذه مبالغة في تبرير سلوكيات هؤلاء و الاعتذار لهم ؛ لأن ابن عقيل و ابن الجوزي-مثلا- قد أنكرا عليهم تصرفات كثيرة-سبق ذكرها- مناقضة للشرع ، و ليس لهم فيها عذر مقبول ، إلا الانحراف و اتباع الهوى ، و الجهل بالشرع .

و أما الباحث زكي مبارك فقد علق على انتقادات ابن الجوزي للصوفية ، بقوله: (( و قد شغل ابن الجوزي نفسه بتعقب الصوفية ، فنقل عنهم حكايات غريبة ؛ و علق عليها تعليقات تدل على بصر بدقائق علم النفس و الأخلاق ))[47] و (( قد أطلنا الاقتباس من ابن الجوزي لأن الصفحات التي كتبها في هذا الموضوع ن من خير ما قرأنا في الدرسات النفسية و الخلقية ، لأنها تصور ما كان يعرض للصوفية من الحيرة المطبقة ، في تفهم مسالك الرشد و الغي ، ومعالم الهدى و الضلال ))[48] ، ثم انتقل إلى التعريض بابن الجوزي فقال: (( و من الذي يضمن أن بكون ابن الجوزي صادقا في كل ما كتب عن مغامز الصوفية )) ،و (( أي مظهر للجبن و أقبح و أبشع أن تصنف الكتب الطوال العراض في مثالب الصوفية ، على حين يترك الملوك الظالمون في العصور الماضية ، بلا رقيب و لا حسيب ؟ و ما وضع ابن الجوزي و أمثاله في نقد الاستبداد ،و كان يعيش في عصر لا تحترم فيه ملكية ،و لا تحتفظ حقوق ؟ أين ما كتب هؤلاء المتفيهقون في الفساد الخلقي و الاجتماعي ، الذي كان يندلع لهيبه من قصور الوزراء و الأمراء ))[49] .

وأقول-ردا عليه- : إنه بالغ في تعظيم الأمر و نفخه ،لأن ابن الجوزي لم يخص الصوفية بالانتقاد دون غيرهم من الطوائف ، فقد انتقد المتكلمين و الفلاسفة ، و الشيعة و الخوارج ، و الفقهاء و الوعاظ ، و الولاة و السلاطين ، و القراء و عامة الناس [50] .و لم يكن ساكتا عن كل ما يجري في مجتمعه ، فكثيرا ما كان في مجالسه الوعظية ن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، ويحذر الناس و الأمراء و الأعيان من مغبة الظلم ، و الانحراف عن الشرع[51] .و كان أبو الوفاء بن عقيل ينكر على الصوفية و رجال الدولة على حد سواء ، وله إلى بعضهم رسائل تحذير و انتقاد[52] . و للفقيه أبي الفضل بن أحمد العلثي الحنبلي (ت643 ه/1236م) مواقف شجاعة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، على الخليفة ومن دونه من المسؤولين ، و الفقهاء و الصوفية ، فتعرض للمضايقات ، ودخل السحن[53] . كما أنة كثيرا من الصوفية كانوا طرفا في اللعبة السياسية ، لأن معظم أربطتهم بناها لهم الخلفاء و السلاطين و الأمراء ، و أوقفوا عليها أوقافا كثيرة تضمن لهم فيها العيش الرغيد ، و شجعوهم على مجالس الغناء ؛ مقابل الولاء و الدعاء لهم بتخليد الملك و استمرار المدد .

كما أن ابن الجوزي لم ينفرد بانتقاد الصوفية و ذمهم ، فقد انتقدهم ابن عقيل ، و أبو حامد الغزالي ، وتاج الدين السبكي[54] ، وقال عنهم الأديب كمال الدين بن جعفر الأدفوي الشافعي(ت748 ه/1347م): إن الغفلة و الجهل فيهم كثير،و أن بعضهم ينكر بداهة العقول ،و يؤمن باجتماع النقيضين لفرط جهلهم [55] .و أنكر على طائفة منهم حضور مجالس الغناء بالشبابات و الدفوف ، مع الرجال و النساء ، و الشباب و المردان ، و وصف أفعالهم هذه بأنها بدع فظيعة شنيعة [56] .