ثالثا : نقد ابن تيمية للتصوف وأهله :

انتقد شيخ الإسلام بن تيمية الصوفية في منهاجهم الصوفي ، فهم-في نظره- قد عظموا الإرادة القلبية و ذموا الهوى ، و أهملوا النظر العقلي . ثم كثيرا منهم لم يميز بين الإرادة الشرعية الموافقة للكتاب و السنة ، و بين الإرادة البدعية المخالفة لهما ز فهم على عكس المتكلمين الذين عظموا النظر ، واعرضوا عن الإرادة القلبية ، لكنهم مثل الصوفية في عدم الاعتصام بما جاء به الرسول-عليه الصلاة و السلام- . لكنه اعترف بأن في طريق الصوفية أمورا محمودة في الشرع ، قد لا يعرفها منتقدوهم من المتكلمين[57] .

و أشار إلى أن من أخطاء الصوفية أنه تقع لهم في بواطنهم أشياء ، فيظنون أنها في الخارج ؛ فمن ذلك أن جماعة منهم عندما يغلب عليهم الذكر و المحبة و المعرفة ، و ينعكس ذلك على قلوبهم و يحصل لهم ذوق و استغراق ، يظنون أن ما يجدونه في باطنهم أمرا مشهودا بعيونهم ، فيدعون أنهم يرون الله تعالى بأبصارهم ، و هذا غلط و ضلال ، لأن أهل السنة متفقون على أن الله لا يراه أحد بعينيه في الدنيا ، لما رواه مسلم من أن النبي-عليه الصلاة و السلام- قال : (( و اعلموا أن أحدا منكم لن ير ربه حتى يموت ))[58] .

و انتقدهم في بعض سلوكياتهم ، منها أن طائفة منهم تدعي أن أكل الحشيشة المخدرة تنشط على أداء الصلوات و تعين على استنباط العلوم و تصفية الذهن . حتى أنهم يسمونها معدن الفكر و الذكر ،و محركة الغرام الساكن .و هذا كله من خدع النفس و مكر الشيطان بهؤلاء لأن تلك الحشيشة هي عمى للذهن ،تجعل آكلها أبكما مجنونا لا يعي ما يقول [59]. و منها أنهم يروون احاديث في السماعي عن النبي-عليه الصلاة و السلام – ليست صحيحة ،بل هي باطلة موضوعة باتفاق أهل العلم كقولهم أنه-عليه الصلاة والسلام-:تواجد حتى سقطت بردته و أنه مزق ثوبه ،و أخذ جبريل بعضه و صعد به إلى السماء[60].

و أعاب ابن تيمية على أبي حامد الغزالي تقسيمه للذكر إلى ثلاثة مراتب ،الأولى : قول العامة لا اله إلاّ الله . و الثانية : قول الخاصة الله ، الله . و الثالثة : قول خاصة الخاصة ، هو ،هو .و بدّعه في ذلك لأن الذكر المفرد : الله ،الله و المضمر : هو ، هو بدعة في الشرع ،و خطأ في القول و اللغة . لأن الاسم المفرد ليس هو كلاما ، ولا إيمانا ، ولا كفرا .و المضمر ليس بمشروع ،ولا هو بكلام يعقل ،ولا فيه إيمان ،و هو معارض للشرع . لأنه قد ثبت في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه و سلم- قال : (( أفضل الذكر بعد القرآن وهي من القرآن : سبحان الله و الحمد لله ، ولا إله إلاّ اللّه ،و الله أكبر )) و في حديث آخر : (( أفضل الذكر لا اله إلاّ اللّه ))[61].
و كفّر ابن تيمية كبار الصوفية الإتحاديين القائلين بوحدة الوجود كعمر بن الفارض المصر (ت 632 ه /1234 م، و محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي (ت 638 ه/ 1240 م )و قطب الدين بن سبعين الإشبيلي (ت 669 ه/ 1270 م ،و عفيف الدين التلمساني (ت 690 ه/ 1291 م ) ،و عدهم من ملاحدة الإتحادية و جعل كفرهم أظم من كفر اليهود و النصارى .و ابن عربي مع كونه كافر فهو أقرب الإتحاديين إلى الإسلام ،لما يوجد في أقواله كثير من الكلام الجيد ،و لأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره ،بل هو كثير الاضطراب فيه ،و الله اعلم بما مات عليه[62].و ذكر ابن تيمية أن الشيخ العز بن عبد السلام كان قد كفر ابن عربي لقوله بقدم العالم ، فبل أن يظهر قوله بوحدة الوجود ، من أن العالم هو الله ، و صورة له ؛ و هذا أعظم من كفر القائلين بأزلية الكون. و حكى-أي ابن تيمية- عن نفسه أنه كان ممن يحسن الظن بابن عربي و يعظمه ، لما في كتبه من فوائد ، كما في الفتوحات المكية ، و الدرة الفاخرة . لكنه غير رأيه فيه عندما اطلع على كتابه فصوص الحكم و نحوه ، لما فيه من الكفر الباطن و الظاهر ، وباطنه أقبح من ظاهره ،و هو يمثل مذهب و حدة الوجود [63] .

و يستنتج مما ذكرناه عن نقد علماء الحنابلة للتصوف وأهله-خلال القرنين:6-7ه/12-13م- أنهم وجهوا لهم انتقادات مست منهاجهم و سلوكياتهم ، فانتقدوهم في أنهم أقاموا منهجهم على أساس من العاطفة و الإرادة القلبية ، و لم يلتزموا بالشرع في تأسيسه و تقويمه ، ولم يعطوا للعقل مكانته . و في سلوكياتهم أنكروا عليهم كثرة المظاهر السلبية المنتشرة بينهم ، و المخالفة للشرع ؛ الأمر الذي فتح مجالا واسعا لكبار علماء الحنابلة ، من انتقادهم ، و التشهير بهم ، كما فعل ابن عقيل ،و ابن الجوزي ،و ابن تيمية ، و هي مجهودات تصب كلها في تيار نشاطهم العلمي النقدي ، الذي مس مختلف العلوم النقلية و العقلية و الأدبية .

-----------------------------------
[1] ابن الجوزي : تلبيس إبليس ص : 189 .
[2] سنذكر بعضها فيما يأتي من هذا المبحث .
[3] ابن تيمية :درء تعارض العقل و النقل ج4 ص: 136.
[4] ابن الجوزي : تلبيس ابليس ص :391.
[5] نفس المصدر ص: 416.
[6] نفس المصدر ص :417.
[7] ابن تيمية :المصدر السابق ج4 ص :136 ، 137.
[8] ابن الجوزي : المصدر السابق ص :416
[9] ابن تيمية : المصدر السابق ج 4 ص :135.
[10] السبكي : معيد النعم ص : 88 .
[11] انظر : ابن هشام : مختصر سيرة ابن هشام ص : 151 ، 184 .
[12] ابن تيمية : المصدر السابق ج 4 ص : 134 ، 135 .
[13] ابن الجوزي : المصدر السابق ص : 415 .و ابن مفلح : الأداب الشرعية و المنح المرعية ج 2 ص : 333 ، 334 .
[14] ابن الجوزي : نفس المصدر ص : 359 .و صيد الخاطر ص : 339 .
[15] نفس المصدر ص : 240 ، 371 و ما بعدها .و نفسه ص : 25 ، 27 ، 412 .
[16] ابن الجوزي : تلبيس إبليس ص : 246 .
[17] سماه حقائق التفسير ، قال عنه الذهبي : (( أتى فيه بمصائب و تأويلات الباطنية )) ،و نقل عن الخطيب البغدادي ، أن عبد الرحمن السلمي غير ثقة ، كان يضع الأحاديث للصوفية . الذهبي : تذكرة الحفاظ ج 3 ص : 1046 .
[18] ابن الجوزي : المصدر السابق ص : 370 .
[19] نفس المصدر ص : 374 :
[20] ابن الجوزي : المصدر السابق ص : 186 و ما بعدها .و صيد الخاطر ص : 470 .
[21] ابن الجوزي : صيد الخاطر ص : 338 ، 411 .
[22] ابن الجوزي : تلبيس إبليس ص : 232 .
[23] نفس المصدر ص : 172 ، 173 ن 240 .
[24] اليونيني : ذيل مرآة الزمان ج 3 ص : 135 .
[25] ابن الجوزي :صيد الخاطر ص : 338 .و تلبيس إبليس ص : 214 .
[26] ابن الجوزي : تلبيس ص : 215 .
[27] ابن الجوزي : نفس المصدر ص : 216 .
[28] أبو حامد الغزالي : إحيار علوم الدين ج 1 ص : 61 .
[29] السبكي : معيد النعم ص : 125 .
[30] انتقل الغزالي إلى التصوف في سنة 486 ه/1093م . أبو بكر بن العربي : العواصم من القواصم ج 2 ص : 30 .
[31] القثاء ، هو ثمرة يشبه الفقوس . علي بن هادية : قاموس الطلاب الجديد ص : 815 .
[32] ابن الجوزي : تلبيس إبليس ص : 240 .
[33] ابن الجوزي : صيد الخاطر ص : 344 .
[34] ابن الجوزي : تلبيس إبليس ص : 394 .
[35] ابن الجوزي : المصدر السابق ص : 395 .
[36] ابن الجوزي : المنتظم ج 9 ص : 178 .
[37] نفسه ج 9 ص : 178 . و الذهبي : تاريخ الإسلام ج : 501-520ه/ ص : 174 .
[38] ابن الجوزي : تلبيس إبليس ص : 198 .
[39] ابن الجوزي : المنتظم ج 9 ص : 178 .
[40] محمد بن عبد الهادي : طبقات علماء الحديث ج 4 ص : 16 .
[41] الذهبي : سير أعلام النبلاء ج 21 ص : 376 . و ابن رجب : المصدر السابق ج 1 ص : 295 .
[42] ابن الجوزي : المصدر السابق ج 10 ص : 219 . و مناقب الإمام أحمد ص : 531 .
[43] الذهبي : تاريخ الإسلام ج : 561-570ه/ ص : 89 .
[44] انظر : ابن الجوزي : المنتظم ج 9 ص : 212 و ما بعدها .و 214 و ما بعدها .
[45] و لد الجيلاني في سنة 471 ه/ 1078م و ابن الجوزي و لد ما بين سنتي 507-510 ه/1113-1116م . ابن رجب : الذيل على طبقات الحنابلة ج 1 ص : 299 .و ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ج 4 ص : 329 .
[46] ابن رجب : المصدر السابق ج 1 ص : 295 .
[47] زكي مبارك : التصوف الإسلامي في الأدب و الأخلاق ، بيروت المكتبة العصرية ،ج 2 ص : 195 .
[48] نفس المرجع ج 2 ص : 198-199 .
[49] نفس المرجع ج 2 ص : 202 ، 204-205 .
[50] انظر : تلبيس إبليس ص : 49 و ما بعدها .
[51] انظر : المنتظم : ج 10 ص : 263 ، 264 ، 265 ، 276 ، 270 ، 272 ، . ابن رجب : المصدر السابق ج 1 ص : 407 ، 408 ، 409 ، و ما بعدها .
[52] انظر : ابن الجوزي : نفس المصدر ج 9 ص : 86 .
[53] ابن رجب : المصدر السابق ج 2 ص : 205 .
[54] سبق ذكر أقوالهم
[55] الأدفوي : الطالع السعيد ص : 133 ، 653 .
[56] نفس المصدر ص : 724 .
[57] ابن تيمية : درء تعرض العقل و النقل ج 4 ص : 136-137 .
[58] ابن تيمية : مجموع الفتاوى ج 5 ص : 490 .
[59] ابن تيمية : التفسير الكبير ج 4 ص: 150.
[60] ابن تيمية : منهاج السنة ج 4 ص :116. و خلاف الأمة ص :117 . 118.
[61] ابن تيمية : مجموع الفتاوى ج 10 ص :396 .
[62] نفس المصدر ج 2 ص :143 .
[63] نفس المصدر ج 2 ص " 131 ، 464 ، 465 .