يقول العلامة محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي الحسيني1
"إن الناس بعد عصر خلفاء الراشدين رضوان الله عليهم صاروا ثلاث فرق بالنسبة إلى آل النبي(صلى الله عليه وسلم) وحب أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) متبعين في ذلك لكتاب الله وسنة رسوله الكريم، ولا يرون أي مانع من الجمع بينهما، والشيعة على اختلاف بين فرقهم، يرون حب آلا النبي(صلى الله عليه وسلم) لا يجتمع مع حب أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم) كلهم فينتقصون الصحابة حتى الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وهم مختلفون في هذا التنقص، فالزيديون2- وهم من سكان اليمن- ينتسبون إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي وفاطمة عليهم السلام. ويثبتون خلافة الخلفاء الأربعة مع اعتقادهم أن عليا هو أفضلهم، ويعتقدون أن هذا مذهب زيد وأبيه وجده.
والإمامية الإثنا عشرية3 يرون ويعتقدون أن حب آل النبي(صلى الله عليه وسلم) لا يجتمع مع حب الخلفاء الراشدين الثلاثة، أبي بكر وعمر وعثمان وأكثر الصحابة ويدعون أن من أحبهم فقد أبغض آل النبي(صلى الله عليه وسلم).
والفرقة الثالثة هم الخوارج4 على علي رضي الله عنه، يتنقصون عليا وآل بيت النبي(صلى الله عليه وسلم). والذي ندين الله تعالى به ونعتقد أنه الحق الذي لاشك فيه هو الجمع بينهما. ونحن لا ننكر لفظ التشيع لعلي رضي الله عنه، ولا معناه. لأن الحق مع علي، وكل من خلفه فهو مخطئ5. ويتفاوت خطأ المخالفين له والدليل على أن التشيع لآل بيت النبي(صلى الله عليه وسلم) حق – إذا خلا من الغلو- قوله تعالى: "وإن من شيعته لََََإِبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم"6. قال ابن كثير رحمه الله :"من شيعته، أي نوح المذكور سابقا يقول من أهل دينه، وقال مجاهد على منهاجه وسنته، أي إبراهيم على منهاج نوح وسنته"7. ودين الأنبياء واحدا وإن اختلفت شرائعهم8لأن الشرائع التي قبل محمد(صلى الله عليه وسلم) كانت مؤقتة، وشريعة محمد(صلى الله عليه وسلم) نسختها كلها وهي باقية إلى قيام الساعة، إلى أن تهب ريح تأخذ أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة بقليل كما ثبت في الحديث9. فالأنبياء متفقون في توحيد الله تعالى، في ربوبيته وعبادته، وفي ذاته وأسمائه وصفاته، وفي إقامة العدل بين الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورحمة الضعيف إلى غير ذلك. قال تعالى في سورة الشورى : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه"10
والدلائل على أن الحق هو الجمع بين حب آل النبي(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه كثيرة، منها قوله تعالى في سورة التوبة : " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم"11وقوله تعالى في صورة الحشر بعد ذكر المهاجرين والأنصار : "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم"12 أقتصر على هاذين البرهانين من القرآن الكريم وأذكر برهانين من الحديث الشريف، أولهما ما رواه مسلم وغيره عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) " ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم تقلين أولهما كتاب الله فيه الهدي والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا بهن فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال : "أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي الحديث"13.
وثانيهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال :(وعظنا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد. وإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجد وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه. وقال الترمذي حديث حسن صحيح14. وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود.


مناظرة بين المؤلف

وبين مجتهد الشيعة في المحمرة


لما استقررت في الدورة 15، أردت أن أجتمع مع بعض علماء الشيعة بعدما قرأت شيئا من كتبهم ووجدت فيها عجائب وغرائب، فاتفقت مع أحد الفلاحين وهو الحاج غلام حسين، ومعنى غلام حسين عبد الحسين والشيعة يسمون عبد علي، وكلب علي وعبد الزهراء، وعبد الأمير، وأمثال ذلك من الأسماء الشركية16ومن أغرب ما وقع لي في ذلك، أنني سافرت من جدة إلى بومباي ورأيت الحجاج يقتتلون على الماء، فاستأجرت شابا فارسيا يأتيني بالماء من مستقى الباخرة من جدة إلى بومباي بربيتين أي درهمين هنديين، اسم ذلك الشاب عبد علي، فكنت أتجاهل إسمه وأناديه يا عبد العلي، فيغضب ويقول: (عبد العلي نا) ونا بالفارسية هي حرف النفي ترادف لا بالعربية17. ثم يكرر عبد علي عبد علي، فإذا نسبته إلى الله العلي يغضب ويريد أن ينسب إلى العبد وهو علي : سافر معي غلام حسين إلى المحمرة وهي على الجانب الشرقي من شط العرب، وقد انتزعتها الدولة الفارسية التي تسمى في هذا الزمان إيران، من الأمير الشيخ خزعل الذي كان يحكم تلك الناحية، وسكانها عرب من بني تميم، وألحقتها بمملكتها، فقلت لغلام حسين اختر لي عالما من علمائكم أزوره لا يكون متعصبا، فقال لي : أفضل علمائنا في هذا البلد هو الشيخ عبد المحسن الكاظمي، فقصدناه في الحسينية و الحسينية مبنى للشيعة يجتمعون فيه لقراءة قصة مقتل الحسين رضي الله عنه وقصة حرب علي مع عائشة وطلحت والزبير في وقعة الجمل. وكان ذلك اليوم يوم جمعة وهذا الشيخ من الإثناعشرية الإخباريين. فإن الإثناعشرية فرقتان : فرقة إخبارية وفرقة أصولية18، فالأخبارية يعتمدون على ما روى من الأخبار وإن كان مخالفا للقياس والأصول وآراء فقهائهم. والأصولية بعكسهم يعرضون المرويات على الأصول. والإخباريون يصلون الجمعة والجماعة بخلاف الأصوليين، فإنهم لا يصلون جمعة ولا جماعة، فلما دخلت على الشيخ عبد المحسن قام لي وصافحني وأجلسني بقربه وكان الحاضرون كثيرا يقدر عددهم بثلاثمائة، فقال أحدهم للروضخون، وهم ينطقون بالضاد زيا، والروضخون هو الذي يقرأ لهم قصة الحسين وقصة عائشة مع علي، قال له : عجل بقراءة القصتين نريد أن نسمع كلام العالمين، لأنهم من عادتهم أن يقرأوا القصتين في ضحى يوم الجمعة، وحثه على أن لا يطول وسيتبين لك مقصوده بذلك، فصعد الروضخون المنبر وبدأ يقرأ في قصة الحسين فلما بلغ مقتله وما صنع به أعداؤه، وضعوا طيالسهم على وجوههم وأخذوا يبكون ويتابكون19 رافعين أصواتهم وأحسيناه! وأبا عبد الله ! والظاهر أن بكاؤهم كان كاذبا، وإنما هو تصنع لأن هذه القصة يسمعونها في كل أسبوع مرارا. فقلما تؤثر فيهم، ولما فرغ من قصة الحسين شرع في قصة عائشة، وذكر أنها بعثت رسولها إلى البصرة إلى علي، وقالت له : إنه سيعرض عليك طعامه وشرابه، فإياك أن تأكل من طعامه أو تشرب من شرابه فإن فيه السم، فلما سمع ذلك الحاضرون قالو بصوت عال ونغمة تدل على الحقد (لا يا ملعونة)20 وأخذوا يكررونها في كل فقرة يسمعونها فاستعجل بعض الحاضرين الروضخون وقال له اختتم نريد أن نسمع كلام العالمين فغضب الروضخون وقال قد اختصرت القصتين وما ذكرت إلا ربعها ولما فرغ القاص أخذت أتحدث مع الشيخ بالحديث التالي : حسب ما بقي في ذاكرتي، فقد مضى على هذه القصة زهراء 48 سنة، فإنها كانت سنة 1343 21.
سألت الشيخ ما أهم كتب الحديث عندهم فذكر لي أربعة كتب لا أذكر الآن منها إلا كتاب الكليني22 وأثنى عليه وقال كل أحاديثه صحيحة فهو عندنا بمنزلة ... ثم سكت وأخذ يفكر فقلت لعلك تقصد البخاري عندنا فقال نعم هو عندنا بمنزلة البخاري عندكم والبحث في صحة الحديث وضعفه في هذا الزمان عبث، لأن الأحاديث الصحيحة معلومة يقينا23.فقلت له وكيف تعرف صحتها يقينا فقال لي تعرف بنص الأئمة المعصومين24 على صحتها. ثم قال دونك حديثا متواترا عندنا وعندكم فقلت له قل : فقال قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم). أنا مدينة العلم وعلي بابها. أما عندنا فليس هذا الحديث صحيحا ولاحسنا عند المحققين فضلا عن أن يكون متواترا، إنما هو حديث ضعيف. هكذا قلت له من حفظي والآن أثبت ما قاله الأئمة في هذا الحديث. قال السخاوي في المقاصد الحسنة، ما نصه باختصار " أنا مدينة العلم وعلي بابها" رواه الحاكم في المناقب من مستدركه والطبراني في معجمه الكبير وأبو الشيخ في السنة وغيرهم كلهم من حديث أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا به بزيادة فمن أتى العلم فليأت الباب. ورواه الترمذي في المناقب من جامعه وأبو نعيم في الحلية وغيرهما من حديث علي أن النبي(صلى الله عليه وسلم) وسلم قال : أنا دار الحكمة وعلي بابها"، قال الدرقطني في العلل عقب ثانيهما (يعني حديث الترمذي) إنه حديث مضطرب غير ثابت وقال الترمذي أنه منكر وكذا قال شيخه البخاري وقال إنه ليس له وجه صحيح وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في تاريخ بغداد أنه كذب لا أصل له، وقال الحاكم عقب أولهما أنه صحيح الإسناد وأورده ابن الجوزي من هذين الوجهين في الموضوعات ووافقه الذهبي وغيره على ذلك وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد بقوله، هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل أنه باطل25
ثم قلت له : وعلى فرض ثبوته فإن أريد أن هذه المدينة لها أبواب كثيرة وعلي من أفضل أبوابها فهو صحيح، وإن أريد أن هذه المدينة ليست لها إلا باب واحد وهو علي، فهذا باطل يكذبه القرآن والواقع ولا يختلف فيه العقلاء26، لأن النبي(صلى الله عليه وسلم) حين بعث كان علي صغيرا دون البلوغ فلو كان هو الباب الوحيد لهذه المدينة ما استطاع النبي(صلى الله عليه وسلم) أن يبلغ شيئا ولا يؤدي رسالة، وكان يقول لكل من سأله عن مسالة اذهب إلى علي وخد منه الجواب وهذا لا يقوله أحد يحترم نفسه وقد قال الله تعالى : "يأيها الرسول بلغ ما أنزل الله إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"27 وحذف المعمول هنا يدل على العموم أي بلغه جميع الناس كما قال تعالى في سورة الأعراف " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا"28 ولما وصلت إلى هذه المسألة اشترك مع الشيخ في المناظرة نحو عشرة أشخاص فقال لي أحدهم قول الله تعالى : (بلغ ما أنزل إليك من ربك) معناه بلغه عليا فقلت له هذه زيادة في القرآن فلو قلت لك أنا معناه بلغه أبا بكر لكان القولان متساويين فبأي دليل ترجح أحدهما على الآخر وكلاهما دعوى بلا دليل، فغضب الشيخ وقال أبو بكر (يأكل خراه) وهذا شتم قبيح مستعمل في تلك البلاد والعراق ونجد معناه يأكل العذرة التي تخرج منه، 29 كيف تقارن بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام وهو جاهل لا يعرف الأب المذكور في سورة عبس والعرب كلها تعرف الأب وهو العشب فقلت له أيها الشيخ30 إن علماء المناظرات يقولون أن الشتم سلاح العاجز لأن القادر على المناظرة بالدليل والبرهان لا يلجأ إلى الشتم.وأبو بكر لم يكن يجهل الأب لأنه كان من شيوخ العرب وحكمائهم وإنما قال ذلك تورعا وخوفا من الله تعالى وتعظيما لكتابه31 وعملا بقول النبي(صلى الله عليه وسلم) " من قال في القرآن برأيه فقد كفر"32 وقد خاف أبو بكر رضي الله عنه أن يراد بالأب معنى خاص يجيء فيه تفسير عن النبي(صلى الله عليه وسلم) فتوقف وهذا من فضائله ومناقبه. ثم قلت له إذا أراد الله أن تبليغ النبي(صلى الله عليه وسلم) إنما لعلي فلماذا لم يسمه كما سمى زيدا في سورة الأحزاب33، فقال لي إن قريشا حذفت كثيرا من القرآن، فقلت له قال تعالى في سورة الحجر "إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"34.
ولا شك أن الله تعالى لا يخلف الميعاد وقد حفظ هذا القرآن من التبديل والزيادة والنقص وهذه مزية خص الله بها هذا القرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية وقد أجمع المسلمون، وغير المسلمين إلا من شد من أعداء الإسلام على هذا، فأنت تجد القرآن في جميع أنحاء العالم على اختلاف أديان أهل تلك البلدان لا يستطيع أحد أن يزيد حرفا ولا نقطة ولا أن يغير منه حركة وحتى صفات الحروف كالتفخيم والترقيق مثلا محفوظة إذا سلمنا أن القرآن قد حذفت منه قريش كثيرا فلا بد أن تكون قد زادت فيه أيضا، فقال لي أما الزيادة فلم تقع، فقلت وكيف عرفت ذلك قال عرفناه من أقوال الأئمة المعصومين فإنهم أخبروا أن الزيادة لم تقع وإنما وقع الحذف، فقلت هذا مخالف لنص القرآن الذي ذكرته أنفا ومخالفا للعقل والله المستعان35. ثم قلت له فهل عندكم قرآن سالم من التغيير ليس فيه زيد ولا نقص فقال لي لما رأى أمير المؤمنين علي عليه السلام قريشا تحذف أشياء من القرآن وتكتبه على غير الوجه المتفق مع تاريخ النزول دخل بيته وعكف فيه أربعين يوما فكتب القرآن من أوله إلى أخره على ترتيب نزوله من أول آية إلى آخر. فقلت وأين هذا المصحف، فقال بقي عند الأئمة يثوارتونه آخرهم عن أولهم حتى وصل إلى الإمام المنتظر محمد بن الحسين العسكري36 عجل الله بخروجه فلما خرج من سرداب سمراء37 أخذه معه، فقلت له ولماذا لم يكتب علي رضي الله عنه إلا مصحفا واحدا ثم لم ينسخ أحد منه تلك الأزمنة المتطاولة ولا نسخة وقد كان لعلي كما تعلمون من الأنصار وآل البيت الحريصين على الخير وحفظ العالم ولاسيما كتاب الله وخصوصا قبل خلافته خلق كثير أما بعد خلافته فكان ينبغي أن يكون أول شيء يبدأ به إظهار هذا القرآن الصحيح وإحراق ما سواه من المصاحف فإن لم يفعل ذلك على سبيل التسليم الجدلي فلا بد أن يفعله شيعته وأنصاره، وقد جمع أبو بكر الناس على هذا المصحف ثم جمعه عثمان طبقا لمصحف أبي بكر وأحرق جميع المصاحف المشتملة على القراءة الشاذة، وعلي رضي الله عنه ليس دونهما في العلم والقدرة على إحقاق الحق فكيف أهل هذا الواجب العظيم؟ فقال لي تأدب فإن الأئمة لا يفعلون شيئا إلا بأمر الله وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام مشغولا بأمور أخرى من حروب المرتدين وتدبير شؤون المسلمين.
فقلت له هذا الاعتذار لم يقنعني ولا أراه يقنع أحدا من خصومكم، ثم لماذا أخذ الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري المصحف الوحيد السالم من التغيير معه حين دخل السرداب وأنتم تعتقدون أنه معصوم وأنه يحفظ القرآن ولا يحتاج إلى مصحف فكيف يترك شيعته على مصحف ناقص غير مرتب إلى عالم الغيب فقال لي قلت لك تأدب فإن الأئمة معصومون ولا يفعلون إلا ما أمرهم الله به38 ثم قال لي أحدهم سأورد عليك آية من القرآن تحجك وتسكتك فقلت : هات، فقال : قال الله تعالى " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين"39 من هو الإمام المبين أليس علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقلت : ذلك قولك أما أنا فأقول الإمام المبين هو اللوح المحفوظ40 المكتوب عند الله تعالى وهذا القرآن الذي بين أيدينا مطابق له : فقال لي كيف يكون الكتاب إماما وكيف يكون مبينا. فقلت له قال الله تعالى في سورة الأحقاف " وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين"41
فوقف حماره في العقبة ولم يستطع جوابا فقال لي شيخهم أليس علي نفس النبي بنص القرآن، فقلت وضح لي ما تقول كيف يكون علي نفس النبي فأخذ يتعتع ويكرر أنفسنا وأنفسكم ولم يعرف أحد منهم آية، لا الشيخ ولا غيره فعلمت أنه لا يحفظ القرآن أحد منهم فقلت لهم أنا أذكر لكم الآية التي تريدون قال الله تعالى في سورة آل عمران : " فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين "42. فقالوا جميعا هذه الآية التي نريد وهي حجة عليكم فإن قوله تعالى وأنفسنا المراد به علي بن أبي طالب فقلت لهم إن نفس النبي(صلى الله عليه وسلم) هي النبي ولا تتحمل الدلالة اللغوية غير ذلك فما هو دليلكم من جهة النقل أو اللغة على أن عليا هو نفس النبي(صلى الله عليه وسلم) فقالو هذا ثابت في التفاسير، فقلت أنا لا أسلمه إلا إذا ثبت عن النبي(صلى الله عليه وسلم) يسند صحيح هكذا قلت لهم مع أني أعلم أنه روي في خبر بسند ضعيف أن معنى أنفسنا هو النبي(صلى الله عليه وسلم) وعلي ونساءنا فاطمة ومعنى أبنائنا الحسن والحسين ثم راجعت الآن وأنا أكتب هذا تفسير ابن كثير فوجدت الخبر قد رواه ابن مردوية والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، قال ابن كثير هكذا قال الحاكم وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا وهذا أصح قال محمد ثقي الدين ومن المعلوم أن المرسل من قسم الضعيف43، ولو كان القوم أهل إنصاف لذكرت لهم هذا الخبر واعترفت به وبينت ضعفه وأنه لا حجة لهم في ذلك لأن فضل علي وقربه من الرسول الله(صلى الله عليه وسلم) لا ينكره إلا ضال، وذلك لا يدل على أنه هو الإمام بعد النبي(صلى الله عليه وسلم) ولا يدل البتة على بطلان خلافة الخلفاء الثلاثة قبله ولا يحط من قدرهم شيئا. فإن الأئمة الثقات رووا أحاديث كثيرة صحيحة كالشمس تدل على صحة خلافتهم وفضلهم ولكن لكل مقام مقال، ثم قال الشيخ ما تقول في أحاديث صحيح البخاري أصحيحة عندكم أم لا ؟ فقلت هي صحيحة لا نتوقف في قبول شيء منها، فقال الآن أورد لك حديثا من صحيح البخاري يثبت صحة اعتقادنا وفساد اعتقادهم، فقلت ما هو: فقال روى البخاري عن النبي(صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وأبو بكر آذاها فقد آذى النبي(صلى الله عليه وسلم)، ومن أذى النبي(صلى الله عليه وسلم) فهو كافر"44 فكيف يكون الكافر خليفة، فقلت له هذا الحديث صحيح ولكن لمعرفة معناه على التحقيق يجب أن تذكره كاملا حتى لا تكون مثل ذلك النصراني الذي احتج على المسلمين بقوله تعالى : " يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة"45 قال : فاذكر أنت الحديث كاملا، فقلت له إن علي بن أبي طالب أراد أن يتزوج بابنة أبي جهل على فاطمة فقام النبي(صلى الله عليه وسلم) خطيبا في الناس فقال إن ابن أبي طالب يريد أن تزوج بابنة أبي جهل على فاطمة ولا أحرم حلالا ولكن أخاف أن تفتن في دينها فو الله لا تجتمع ابنة نبي الله وابنة عدو الله في بيت واحد فإن أراد ابن أبي طالب أن يتزوج بابنة أبي جهل فليطلق ابنتي، فإن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما أذاها. هذا معنى الحديث.
فلما سمع القوم هذا الحديث ثاروا ثورة عظيمة وكثر ضجيجهم فقال لي شيخهم (رافعا صوته كفرتم كفرتم كفرتم أنتم كفرتم كل واحد حتى محمد بن عبد الله)، وسمعت من كان بقربي من الحاضرين يقولون بصوت ملؤه الحنق (لا يا ملاعين الوالدين أشلون يكذبون على أمير المؤمنين)، ومعنى ذلك إخسأوا يا ملاعين الوالدين كيف يكذبون على أمير المؤمنين يعنون عليا فقلت له كيف تكفروننا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونؤمن بكل ما جاء به رسول(صلى الله عليه وسلم) وعلي رضي الله عنه لسعة علمه وفضله ولم يكفر الخوارج الذين كفروا وقاتلوه46 فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى علي أنه سئل الخوارج أكفار هم، فقال لا من الكفر فروا. فإن لم تقبلوا على عادتكم في رد أحاديث أهل السنة47 ، فدونكم برهانا نظريا لا تستطيعون رده أبدا، قالوا ما هو؟ فقلت إن عليا قاتل الخوارج ولم يغنم أموالهم ولا سبى ذريتهم كما فعل هو وسائر أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في قتال المرتدين من بني حنيفة وأم ولده محمد سبية من بني حنيفة واسمها خولة. وأنتم تعلمون فقال أنا لا أكفرك أنت، فقلت لو كفرتني أنا وتركت البخاري ورجاله لكان أهون علي لأن كل ما نعتقده ونعمله من أمور الدين فهو إما من القرآن أو من رواية هؤلاء الرواة.
فقال لي : وأنا لا أكفر البخاري أيضا، فقد كان رجلا صالحا.
ولكن معاوية كان يبذل الأموال للوضاعين فيضعون الأحاديث في تنقص علي ويكذبون عليه وقد توهم البخاري48 فأدخل في كتابه هذا الحديث، فقلت له إن رجال هذا الحديث كلهم أئمة ثقات وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي بن ماجة. هذا ما قلته والآن أسوق هذا الحديث بالفاظه ليعرفه القارئ على وجهه أخرجه البخاري بسنده عن السور بن مخرمة في باب الخمس أن علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها السلام فسمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم : فقال إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتتن في دينها ثم ذكر صهر آله من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وبنت عدو الله أبدا49.
ورواه البخاري في كتاب النكاح في باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة عن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول وهو على المنبر بأن هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي ابن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن طالب أن يطلق ابنتي و ينكح ابنتهم ، فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها50.
وفي إحدى الروايات أن فاطمة عليها السلام ذهبت إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) فقالت له إن الناس يقولون أنك لا تغضب لبناتك وأخبرتك الخبر فتخرج إلى المسجد وخطب الناس51 ثم قلت وأبو بكر الصديق لم يؤذ فاطمة وإنما نفذ ما أمره به النبي(صلى الله عليه وسلم) في قوله " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة"52 وفاطمة غير معصومة من الخطأ فإن كان هذا هو سبب تكفيركم لأبي بكر الصديق53 فهو سبب واه. وقد تبين بطلانه فلما كفرتم عمر مع أنه حين جاء علي والعباس بعد وفاة فاطمة يطلبان أرض فدك التي طالبت بها فاطمة وأحضر عشرة من الصحابة فشهدوا كلهم أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". ثم قال لعلي والعباس إن التزمتما أن لا تعملا في هذه الأرض بما كان يعمل به رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سلمتها لكما فالتزمها ذلك فسلمها لهما، ثم اختلف علي والعباس فجاء العباس عمر يشتكي عليا فأبى عمر أن يغير ما حكم به 54...
ومما ذكرته لهم في تلك المناظرة وإنما أمليها من حفظي أن ما يدل على أهل بيت علي رضي الله عنه لم يكونوا يعتقدون عصمته أن عبد الله بن عباس أنكر عليه إحراق الغلاة الذين اعتقدوا الوهية علي فأحرقهم بالنار، فخطأه ابن عباس وقال قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) "لا يعذب بالنار إلا رب النار"55. فقال شيخ : هذه من وقاحته وقلة حيائه يعترض على إمامه56 ولما أخذوا يناظرونني وهم جماعة كما ذكرت أراد رفيقي أن يظهر دفاعه عني وقال أيها القوم إن كانت هذه مناظرة بين عالمين فدعهما يتناظران وأنصتوا وإن كانت حمية وعصبية فأنا أيضا أدافع عن صاحبي ولما رجعنا إلى الدورة قال لأهل السنة أشهد بالله أن عالمكم غلب عالمنا.