بسم الله الرحمن الرحيم

الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية _العلامة بن عثيمين رحمه الله تعالى

إن قال قائل: ما الجواب عما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتج آدم وموسى – وفي لفظ: تحاج آدم وموسى – فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثاً"(1). وعند أحمد(2): "فحجه آدم". أي غلبه في الحجة؟.
قيل له: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن احتجاج آدم بالقدر كان على المصيبة التي حصلت عليه وهي إخراجه وزوجه من الجنة، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن ليعتب على آدم في معصية تاب منها إلى الله تعالى فاجتباه ربه وتاب عليه وهدى، فإن هذا بعيد جداً أن يقع من موسى عليه الصلاة والسلام وهو أجل قدراً من أن يلوم أباه ويعتب عليه في هذا، وإنما عنى بذلك المصيبة التي حصلت لآدم وبنيه وهي الإخراج من الجنة الذي قدره الله عليه بسبب المعصية، فاحتج آدم على ذلك بالقدر من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب، لا على المعايب فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم(3).
فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفويض الأمر إلى قدر الله بعد فعل الأسباب التي يحصل بها المطلوب ثم يتخلف.
ونظير هذا أن يسافر شخص فيصاب بحادث في سفره فيقال له: لماذا تسافر؟ فيقول: هذا أمر مقدر والمقدر لا مفر منه، فإنه لا يحتج هنا بالقدر على السفر لأنه يعلم أنه لا مكره له وأنه لم يسافر ليصيبه الحادث، وإنما يحتج بالقدر على المصيبة التي ارتبطت به، وهذا هو الوجه الذي اختاره الشيخ المؤلف ( ابن تيمية) في هذه العقيدة ( التدمرية).
الوجه الثاني: أن الاحتجاج بالقدر على ترك الواجب، أو فعل المحرم بعد التوبة جائز مقبول، لأن الأثر المترتب على ذلك قد زال بالتوبة فانمحى به توجه اللوم على المخالفة، فلم يبق إلا محض القدر الذي احتج به لا ليستمر على ترك الواجب، أو فعل المحظور ولكن تفويضاً إلى قدر الله تعالى الذي لابد من وقوعه.
وقد أشار إلى هذا ابن القيم في – شفاء العليل(4) – وقال إنه لم يدفع بالقدر حقاً ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضوع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا) (الأنعام: 14. (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ) (الزخرف: 20). فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العز على أن لا يعود.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليلاً فقال: "ألا تصليان". الحديث. وأجاب عنه بأن احتجاج علي صحيح (ولذلك لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم" وصاحبه يعذر فيه؛ فالنائم غير مفرط، واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح.


مقتطف من كتاب تقريب التدمرية