كرم الله تعالى.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر, يدخلان الجنّة, يقاتل هذا في سبيل الله, فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد". متفق عليه1.
هذا الحديث يدل على تنوع كرم الكريم، وأن كرمه وفضله متنوع من وجوه لا تعد ولا تحصى، ولا يدخل في عقول الخلق وخواطرهم.
فهذان الرجلان اللذان قتل أحدهما الآخر قيض الله لكل منهما من فضله وكرمه سبباً أوصله إلى الجنة.
فالأول: قاتل في سبيله، وأكرمه الله على يد الرجل الآخر – الذي لم يسلم بعد – بالشهادة التي هي أعلى المراتب، بعد مرتبة الصديقين، وغرضه في جهاده إعلاء كلمة الله، والتقرب إلى ربه بذلك. فأجره على الله. وليس له على القاتل حق، فثبت أجره على الله.
وأما الآخر: فإن الله تعالى جعل باب التوبة مفتوحاً لكل من أراد التوبة بالإسلام وما دونه، ولم يجعل ذنباً من الذنوب مانعاً من قبول التوبة، كما قال تعالى في حق التائبين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فلما أسلم وتاب محا الله عنه الكفر وآثاره، ثم منَّ عليه بالشهادة، فدخل الجنة، كأخيه الذي قتله وأكرمه على يده، ولم يهنه على يد أخيه بقتله، وهو كافر.
فهذا الضحك من الباري يدل على غاية كرمه وجوده، وتنوع بره. وهذا الضحك الوارد في هذا الحديث وفي غيره من النصوص كغيره من صفات الله. على المؤمن أن يعترف بذلك
ويؤمن به، وأنه حق على حقيقته، وأن صفاته صفات كمال، ليس له فيها مثل، ولا شبه ولا ند.
فكما أن لله ذاتاً لا تشبهها الذوات فله تعالى صفات لا تشبهها الصفات، وكلها صفات حمد ومجد وتعظيم، وجلال وجمال وكمال. فنؤمن بما جاء به الكتاب والسنة من صفات ربنا، ونعلم أنه لا يتم الإيمان والتوحيد إلا بإثباتها على وجه يليق بعظمة الله وكبريائه ومجده.
وهذا الحديث من جملة الأحاديث المرغبة في الدخول في الإسلام وفتح أبواب التوبة بكل وسيلة؛ فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وما عمله الإنسان في حال كفره، وقد أسلم على ما أسلف1، حتى الرقاب التي قتلها نصراً لباطله، والأموال التي استولى عليها من أجل ذلك. كل ذلك معفو عنه بعد الإسلام.
وقولنا: "من أجل ذلك" احتراز ن الحقوق التي اقتضتها المعاملات بين المسلمين والكفار؛ فإن الكافر إذا أسلم وعليه حقوق وديون وأعيان أخذها وحصلت له بسبب المعاملة، فإن الإسلام لا يسقطها؛ لأنها معاملات مشتركة بين الناس، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم. بخلاف القسم الأول. فإن كلام من الطرفين – المسلمين والكفار – إذا حصل الحرب، وترتب عليه قتل وأخذ مال، لا يرد إلا طوعاً، وتبرعاً ممن وصل إليه. والله أعلم.
ويشبه هذا من بعض الوجوه، قتال أهل البغي لأهل العدل، حيث لم يضمنهم العلماء ما أتلفوه حال الحرب، من نفوس وأموال للتأويل، كما أجمع على ذلك الصحابة رضي الله عنهم حين وقعت الفتنة، فأجمعوا على أن ما تلف من نفوس، وأتلف من أموال، ليس فيه ضمان من الطرفين.
وفي قوله: "ثُمّ يتُوبُ الله عَلَى الآخر فَيُسلِمُ" دليل على أن توبة الله على من أسلم أو تاب من ذنوبه متقدمة على توبة العبد؛ فإنه تعالى أذن بتوبته وقدرها، ولطف به، إذ قيض له الأسباب الموجبة لتوبته، فتاب العبد، ثم تاب الله عليه بعد ذلك، بأن محا عنه ما سبق من الجرائم – الكفر فما دونه – فتوبة العبد محفوفة بتوبتين، تفضل بهما عليه ربه: إذنه له
وتقديره وتيسيره للتوبة حتى تاب، ثم قبول توبته ومحو زلته. فهو تعالى التواب الرحيم.
والتوبة من أجلّ الطاعات وأعظمها فهذا الحكم ثابت في جميع الطاعات كلها. يوفق الله لها العبد أو لا، وييسر له أسبابها، ويسهل له طرقها. ثم إذا فعلها المطيع قبلها، وكتب له بها رضوانه، وثوابه، فما أوسع فضل الكريم. وما أغزر كرمه المتنوع العميم. والله أعلم.
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله