كيف يحقق العبد مقام التوكل على الله ؟

ذكر ابن القيم - رحمه الله – في كتابه مدارج السالكين أن استكمال العبد لمقام التوكل على الله تبارك وتعالى يتحقق بثمانية درجات:

الدرجة الأولى: معرفة الرب وصفاته، من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
قال شيخنا - رحمه الله -: "ولذلك لا يصح التوكل ولا يُتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضاً من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات. فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم: سفلية وعلوية، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة ولا يقوم به صفة؟! فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى. والله سبحانه وتعالى أعلم".

الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات، فإن من نفاها فتوكله مدخول، وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها تمام التوكل. فليُعلم: أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكلٌ البتة؛ لأن التوكل أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به. فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سبباً ولا جعل دعاءه سبباً لنيل شيء، فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله، إن كان قد قُدّر حصل، توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدع، وإن لم يقدر لم يحصل توكل أيضاً أو ترك التوكل.

فالله سبحانه قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأت السبب امتنع المسبب، وهذا كما قضى بحصول الشبع إذا أكل والري إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو. وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطرق، فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة. وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات لم يدخلها أبداً.

فوِزان ما قاله منكرو الأسباب: أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها، فلابد أن يصل إليّ، تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت، سافرت أو قعدت، وإن لم يكن قد قضي لي لم يحصل لي أيضاً فعلت أو تركت. فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء؟ وهل البهائم إلا أفقه منه؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة. هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها حتى تحصل رزقها.

فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها. فتتعلق جوارحه بالأسباب فتباشرها، وأما قلبه فمتعلق بمسبب الأسباب سبحانه وتعالى.

الدرجة الثالثة: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل: فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح توحيده، بل حقيقة التوكل توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل. فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن ههنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب. وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح، فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها، فيكون منقطعاً منها متصلاً بها، والله سبحانه أعلم.

الدرجة الرابعة: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه: بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولا سكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه، ويلبسه السكون إلى مسببها، وعلامة هذا: أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها، وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به، فرأى حصناً مفتوحاً فأدخله ربه إليه، وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوه خارج الحصن، فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا معنى له.
وكذلك من أعطاه ملك درهماً فسُرق منه، فقال له الملك: عندي أضعافه فلا تهتم، متى جئت إليَّ أعطيتك من خزائني أضعافه، فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه، وعلم أن خزائنه مليئة بذلك؛ لم يحزن على فوته. وقد مثل ذلك بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره، وليس في قلبه التفات إلى غيره، كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل، لا يعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه".

الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل: فعلى قدر حسن ظن العبد بربه ورجائه له، يكون توكله عليه؛ ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله. والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل، إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه. فإذا تيقن العبد أن الله يؤيده ويعينه ويسدده توكل عليه ورجاه.

الدرجة السادسة: استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعاته. وهذا معنى قول بعضهم: التوكل إسقاط التدبير، يعني: الاستسلام لتدبير الرب لك، وهذا في غير باب الأمر والنهي، بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله.

الدرجة السابعة: التفويض: وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها، وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته وحسن ولايته له وتدبيره له، فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه، وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها. فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه، وراحته من حمل كلفها، وثقل حملها مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها، وعلمه بكمال علم من فوض إليه، وقدرته، وشفقته.

الدرجة الثامنة: درجة الرضا: وهي ثمرة التوكل، ومن فسر التوكل بها فإنما فسره بأجل ثمراته وأعظم فوائده، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله. وكان شيخ الإسلام - رحمه الله – يقول: "المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية أو معناه" اهـ.

وباستكمال هذه الدرجات الثمان استكمل العبد مقام التوكل، وثبتت قدمه فيه. وهذا معنى قول بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به.