قال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله :
(ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة، لا يدري أحد بما يُختم له ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار؛ لأن ذلك مغيَّب عنهم، لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان؛ ولذلك يقولون: إنا مؤمنون إن شاء الله. أي: من المؤمنين الذين يختم لهم بخير إن شاء الله، ويشهدون لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة.
فإن الذين سبق القضاء عليهم من الله أنهم يعذبون بالنار مدة؛ لذنوبهم التي اكتسبوها ولم يتوبوا منها، فإنهم يُرَدُّون أخيرًا إلى الجنة، ولا يبقى أحد في النار من المسلمين؛ فضلًا من الله ومنَّة، ومن مات -والعياذ بالله- على الكفر فمردُّه إلى النَّار، لا ينجو منها، ولا يكون لمَقامه فيها منتهى.)
شرح هذه الفقرة فضيلة الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله بما يلي :
(وهذا المسألة، وهي عواقب العباد: مبهمة، لا أحد يدري ما يُختم للإنسان؛ ولهذا فإن أهل السنة والجماعة لا يشهدون لأحد بعينه أنه من الجنة، ولا لأحد بعينه بأنه من أهل النار، إلا من شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة، نشهد لهم بالجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح هؤلاء العشرة شهد لهم الرسول بالجنة؛ فنشهد لهم بالجنة.
وكذلك الحسن والحسين وابن عمر وعبد الله بن سلام ممن شهد لهم النبي بالجنة، وعكاشة بن محصن وغيرهم، وكذلك أيضًا أهل بيعة الرضوان لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة أي: من شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة نشهد له بالجنة، ومن شهدت له النصوص بالنار نشهد له بالنار: كأبي لهب وأبي جهل ومن لم يُشهد له بالجنة.
فإننا نشهد للمؤمنين بالعموم بأنهم في الجنة، ونشهد للكفار بالعموم بأنهم في النار، أما الشخص المعيَّن من المسلمين فلا نشهد له بعينه بالجنة، لكن نشهد له بالعموم، المؤمنون جميعًا في الجنة، والكفار جميعًا في النار، أما فلان ابن فلان من أهل القبلة لا نشهد له بالجنة إلا إذا شهدت له النصوص، ولا نشهد عليه بالنار إلا إذا علمنا أنه مات على الكفر، وقامت عليه الحجة: كيهودي قامت عليه الحجة، أو نصراني، أو إنسان يعبد الأصنام والأوثان والحجة قائمة عليه، ومات على ذلك، نشهد له بالكفر، ونشهد له بالنار.
أما من لم تقم عليه الحجة، أو لم نعلم حاله، نشهد عليه بالعموم، كل كافر في النار، وكل يهودي في النار، وكل نصراني في النار، وكل وثنيّ في النار، وكل منافق في النار، أما فلان بن فلان فلا نشهد عليه إلا إذا علمنا أنه مات على الكفر وقامت عليه الحجة، وكذلك كل مؤمن في الجنة. أما فلان بن فلان فلا نشهد عليه بالجنة، ولا نشهد إلا لمن شهدت له النصوص.
هذه عقيدة أهل السنة والجماعة ؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة"، أي: لا يدري أحد ما يُختم له، هل يُختم له بالخير؟ أو يُختم له بالشر؟ لا يدري أحد بما يُختم له. "ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة"، وينبغي أن نقيد كلام المؤلف، إلا لمن شهدت له النصوص.
"ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار، إلا لمن شهدت له النصوص؛ لأن ذلك مغيب عنهم، لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان، أعلى إسلام أم على كفر؟ ولذلك يقولون -يعني المؤمنون-: إنا مؤمنون إن شاء الله "، فالمؤمن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. أي: من المؤمنين الذي يختِم الله لهم بخير إن شاء الله، وكذلك أيضًا يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله إذا أراد أنه لا يزكِّي نفسه، وأنه لا يدري أنه أدَّى ما عليه؛ لأن شعب الإيمان متعددة، ولا يجزِم بأنه أدى الواجبات، وترك المحرمات، فلا يزكي نفسه، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه لا يدري بما يُختم له.
" ويشهدون - أهل السنة والجماعة - لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة"، يعني: أن هذا على العموم، فكل من مات على الإسلام فهو من أهل الجنة، وكل مؤمن فهو من أهل الجنة، أما شخص بعينه، لا يُشهد له إلا لمن شهدت له بالنصوص.
قال المؤلف: " فإن الذين سبق القضاء عليهم من الله أنهم يُعذبون بالنار مدة؛ لذنوبهم التي اكتسبوها ولم يتوبوا منها، فإنهم يُرَدُّون أخيرًا إلى الجنة، ولا يبقى أحد في النار من المسلمين فضلًا ومنَّة"، يعني من مات على التوحيد، ثم عذب بالنار، فإنه يعذب فيها مدة، ثم يخرج منها -كما سبق- إلى الجنة؛ لأنه مات على التوحيد والإسلام.
ثم قال: "ومن مات -والعياذ بالله- على الكفر، فمرده إلى النار، لا ينجو منها، ولا يكون لمَقامه فيها منتهى". فمن مات على النار لا حيلة فيه، ولا تنفع فيه الشفاعة، ولا يدفع عنه عذاب الله أحد، ولو أتي بملء الأرض ذهبًا لم يدفع عنه عذاب الله، ولو اجتمع الخلق كلهم على أن ينقذوه من عذاب الله لم يستطيعوا.
قال -تعالى-: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ .
قال -سبحانه-: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ .
وقال -سبحانه-: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ .
وقال -سبحانه-: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ .
وقال -سبحانه-: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا .
فمن مات على الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو الظلم الأكبر - وهو ظلم الكفر -، أو الفسق الأكبر - فسق الكفر -، فلا حيلة فيه، وليس له شفاعة، ولا نصيب له في الرحمة، وهو آيس من رحمة الله.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يتوفانا على الإسلام وعلى التوحيد والإيمان، غير مغيرين ولا مبدلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.)
و قال الإمام الصابوني رحمه الله :(فأما الذين شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه بأعيانهم بأنهم من أهل الجنة، فإن أصحاب الحديث يشهدون لهم بذلك؛ تصديقًا منهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكره ووعده لهم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يشهد لهم بها إلا بعد أن عرَف ذلك، والله -تعالى- أطْلع رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما شاء من غيبه.
وبيان ذلك في قوله -عز وجل-: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ .
وقد بشَّر -صلى الله عليه وسلم- عشرة من أصحابه بالجنة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح
وكذلك قال لثابت بن قيس بن شماس -رضي الله عنه-: إنه من أهل الجنة قال أنس بن مالك فلقد كان يمشي بين أظهرنا، ونحن نقول: إنه من أهل الجنة.)
شرح هذه الفقرة فضيلة الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله :
(فإن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون لمن شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة، وثابت بن قيس بن شماس فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: أنت من أهل الجنة ؛ فقد كان خطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يرفع صوته في حضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه خطيب والخطيب يحتاج إلى رفع الصوت، فلما نزل قوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ خاف -رضي الله عنه- وجلس في بيته يبكي، وخاف أن يحبط عمله، فسأل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه، فقال للرسول: إنه من أهل النار؛ لأنه يرفع صوته فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أخبروه أنه من أهل الجنة، وليس من أهل النار هذه شهادة من النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد له بها.
وكذلك: الحسن والحسين شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم سيدا شباب أهل الجنة، وكذلك: عكاشة بن محصن وعبد الله بن عمر وبلال بن رباح وأن النبي سمع خشخشة نعله في الجنة وعبد الله بن سلام وجماعة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم.
العشرة المبشرون بالجنة الذين عدَّهم المؤلف -رحمه الله- كلهم يُشهد لهم بالجنة، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة من شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، نشهد لهم بالجنة.
كذلك: أهل بيعة الرضوان: لا يلج النار أحد بايعني تحت الشجرة وكانوا ألفًا وأربعمائة، أهل بدر كذلك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وما يدريك يا عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فأني قد غفرت لكم .
أما من لم يشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة فإنا نشهد له بالعموم، نشهد لجميع المؤمنين بالجنة، لكن لا نشهد بالخصوص إلا لمن شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم-، أما العموم: فكل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، اليهود في النار، والنصارى في النار، والوثنيون في النار، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
لكن فلان ابن فلان بعينه لا نشهد له بالجنة إلا لمن شهدت له النصوص، وفلان بن فلان بعينه في النار لا نشهد له بالنار إلا إذا علمنا أنه مات على الكفر، وقامت عليه الحجة، هذا هو عقيدة أهل السنة مثلًا أبو لهب شهدت له النصوص والقرآن بأنه في النار، وأبو جهل في النار، ومع ذلك فإنا نشهد للمؤمنين على العموم بالجنة، ونشهد للكفار بالنار.
لكن أهل السنة والجماعة يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، إذا رأوا إنسان مستقيمًا على طاعة الله، يؤدي ما أوجب الله عليه، وينتهي عمَّا حرَّم الله عليه، يرجون له الخير، ويرجون أنَّ الله يغفر له ويدخله الجنة، لكن لا يشهدون له بالجنة، لأن النصوص لم تشهد له.
والمسيء الذي يعمل المعاصي والكبائر، يخافون عليه من النار، ولا يشهدون عليه بالنار؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "فأما الذين شهد لهم رسول -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه، بأعيانهم، بأنهم من أهل الجنة، فإن أصحاب الحديث يشهدون لهم بذلك؛ تصديقا للرسول -عليه الصلاة والسلام- فيما ذكره ووعده لهم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يشهد لهم بها إلا بعد أن عرَف ذلك، والله -تعالى أطْلع رسوله على ما شاء من غيبه".
وبيان ذلك في قوله -عز وجل-: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ والنبي -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه الوحي، فإذا شهد لأحد بالجنة فإن هذا من الغيب الذي أطْلعه الله عليه، قال الله -تعالى-: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى .
وقد بشَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة من أصحابه بالجنة، وهم أبو بكر وعمر عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبو عبيدة بن الجراح هؤلاء العشرة يقال لهم: العشرة المبشرون بالجنة، وكذلك -كما سبق- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس بن شماس أنت من أهل الجنة -لما جلس في بيته يبكي- ولست من أهل النار قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: فلقد كان يمشي بين أظهرنا، ونحن نقول: إنه في الجنة، ومن أهل الجنة.)
و قال الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي التميمي الحنبلي في ( مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوى) ( 1 /113 /114):
(وقال في (الباب السبعون) من الكتاب المذكور وقد ذكرنا في أول الكتاب جملة مقالة أهل السنة والحديث التي اجتمعوا عليها كما حكاه الأشعري عنهم، ونحن نحكي مسائله المشهورة هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بها المقتدى بهم فيها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائغ عن منهج أهل السنة وسبيل الحق. قال وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن المسيب وغيرهما ممن جالسنا وأخذنا عنهم.... ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبير أتاها إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء على ما روي ولا بنص الشهادة، ولا نشهد أنه في الجنة بصالح عمله ولا بخير أتاه إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء على ما روي ولا بنص الشهادة. )