النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: كتاب الجناية على الإسلام في كتاب أسئلة الثورة بتقريظ الشيخ العلامة بقية السلف الفوزان

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2004
    المشاركات
    2,615

    كتاب الجناية على الإسلام في كتاب أسئلة الثورة بتقريظ الشيخ العلامة بقية السلف الفوزان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    كتاب الجناية على الإسلام في كتاب أسئلة الثورة بتقريظ الشيخ العلامة بقية السلف الصالح العلامة صالح الفوزان حفظه الله

    للشيخ فهد بن سليمان الفهيد

    تقديم سماحة العلامة

    الشيخ الدكتور/ صالح بن فوزان الفوزان

    عضو اللجنة الدائمة للإفتاء, وعضو هيئة كبار العلماء

    الحمدلله الذي هدانا للإسلام, ونسأله أن يثبتنا عليه ويجنبنا الفتن ودعاتها, والصلاة والسلام على نبينا محمد لا نجاة إلا باتباعه. أما بعد:

    فإن الكفار في هذه الزمان قد تألبوا على العرب والمسلمين ليدمروا بلادهم, ويفرقوا جماعتهم, ويقطعوا مواردهم بما يسمونه (الربيع العربي) - وهو في الحقيقة التدمير الغربي-, فأشعلوا الثورات في بلاد العرب والمسلمين, وجندوا من أبناء المسلمين من يمهد لهذه الثورات بالدعاية لها, وإلتماس المبررات لها.

    وبين أيدينا كتاب ظهر يسمى (أسئلة الثورة), وهو في الحقيقة الدعوة الى الثورة وشق عصا الطاعة وتفريق الجماعة, معتمداً على شبهات يستقيها من مقالات أعداء الإسلام, معرضاً عن أدلة الكتاب والسنة التي توجب السمع والطاعة ولزوم الجماعة, محاولاً تأويلها وتحريفها, وقد قيض الله له من يعمل لدفع خطره عن المسلمين برد شبهاته, وإبطال تأويله, كما قال الإمام أحمد رحمه الله: الحمد لله الذي جعل لكل فترة بقايا من أهل العلم ينفون عنه تأويل الجاهلين, وانتحال المبطلين. وممن رد على هذا الكتاب فضيلة الشيخ: فهد بن سليمان الفهيد, بكتاب سماه: " الجناية على الإسلام في كتاب أسئلة الثورة", فجزاه الله خير الجزاء على ما قام به من هذا الجهد, وبارك في علمه وعمله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    كتبه: صالح بن فوزان الفوزان

    عضو هيئة كبار العلماء

    مقدمة
    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
    أما بعد:
    فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدار دار ابتلاء واختبار، وجعل فيها من الفتن وأنواع المحن ما به يميز الله الخبيث من الطيب، فالمؤمنون الصابرون المتمسكون بالوحي المنزل المحفوظ بحفظ الله تعالى ثابتون على الحق لا تضرهم الفتن ولا يتنازلون عن دينهم، وأما المعرضون عن الوحي، المقلِّدون لأئمة الضلالة، فإنهم يتساقطون في الفتنة { ألا في الفتنة سقطوا } [التوبة:49]، قال تعالى: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فامنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } [آل عمران:179]. وقال تعالى: { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [طه:124- 126].
    ومن الأمور الظاهرة المعلومة: ما يمر به المسلمون في هذه السنوات الأخيرة- في بعض البلدان الإسلامية- من محن وبلايا وفتن عظيمة سفكت بسببها الدماء، وانتهكت الحرمات، وسلبت الأموال، وعمت الفوضى، وضعف الأمن، وثارت لأجلها ثارات الجاهلية.
    ومن أعظم أسباب وقوع هذه الفتن: اتباع الدَّاعين إلى الفتن والمحرِّضين على الثورات، وتصديقهم في نسبة باطلهم إلى الشريعة، واتباع المناهج الغربيَّة الكاسدة من العلمانية والديمقراطية الفاسدة، المشتملة على أنواع الضلال والإلحاد، والمضادة للقرآن والسنة، بالإضافة إلى ما فيها من التشتت والفرقة، ومع ظهور فسادها وخبثها، إلَّا أن هنالك من المفتونين من صار يزينها لأهل الإسلام ويزخرفها لهم، وصار هؤلاء المفتونون يُمَنُّون الناس أنهم سيجدون السعادة الكاملة إذا هم عملوا بها، فصاروا نافخين في الفتن وموقدين لنارها، وساعين في تأجيجها، وصاروا– من حيث لا يشعرون– أعوانًا للشيطان الذي قال الله تعالى عنه: { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [النساء:120]. وقال تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } [الأنعام:112].
    وقد اطلعت على كتاب ((أسئلة الثورة)) من تأليف: د. سلمان العودة(1)، ورأيته اشتمل على تقرير الثورات والتشجيع عليها، ورأيت في كتابه هذا أنواعًا من الجناية على الإسلام وأهله، فمن ذلك:
    (1) تقريره التهوين من تطبيق الشريعة، والاكتفاء بالقول (بسيادة الشريعة) وجواز تأخير تطبيقها بشبهات واهية، وتخويفه الناس من تطبيقها، وجعله تطبيق الشريعة ضربًا من المحال، وفي مقابل ذلك يدعو إلى وضع دستور يتوافق عليه أهل البلد بجميع طوائفه من الفجرة والفساق وأهل البدع والكفار.
    وصرح بإسقاط تنفيذ الحدود الشرعية بناء على قاعدة درء الحدود بالشبهات، وأن الشبهات قد تكون لفرد وقد تكون لمجتمع كامل!
    كما تضمن كتابه هذا التنقص لمن يطالب بإقامة الحدود على الزناة والسحرة، وزعم أن تطبيق الشريعة الموجود حاليًا لم يراعِ ظروف الحال، ولم يعطَ حقه من الفقه كما ينبغي.
    (2) تحسينه النظام الديمقراطي، وزعمه أن الشعب لو اختار من خلال هذا النظام غير الإسلام، فالعيب ليس في النظام الديمقراطي وإنما في الشعب!!
    ويجعل شرائع الإسلام وأصوله وأحكامه معروضة على آراء الناس؛ فما قبلوه أخذ به، وما لم يقبلوه تُرِك! ويعتذر بأنه لو وقع احتمال اختيار غير الشريعة بأن العيب ليس في الديمقراطية حينئذ!
    (3) احتفاؤه بنظرية العقد الاجتماعي لـ(جان جاك روسو)، وهي نظرية غربية فاسدة، متضمنة لأنواع من الفساد:
    ومن توابع القول بها: زعمهم أن عقد بيعة ولي الأمر لا بد أن يكون عن رضًا من الجميع، وبناء عليه فولاية التغلب والقهر لا تصح.
    ومن توابع هذه النظرية: أن بيعة ولاة الأمور عقد وكالة وليس عقد تفويض، وأن البيعة لولي الأمر قابلة للفسخ متى شاء أصحاب الحق الأصلي وهم الشعب، وأنه لا مانع من تحديدها بأربع سنوات أو خمس سنوات.
    ومن توابعها: تقرير أن الدولة لا بد أن تكون دولة مدنية، وتحذيره من الدولة الدينية، وزعمه أن دينية الدولة تعني ممارسة شر أنواع الاستبداد، وهو الاستبداد الديني! على ما في مصطلح الدولة المدنية والدينية من الوهم والإيهام.
    (4) اشتمل كتابه على تأييد العلمانية بلحن من القول، وزعم أنها قد تناسب بلدًا ولا تناسب بلدًا آخر، وأن العلمانية المقبولة هي التفريق بين (الحكم) وبين (الدولة)، ويُشترط في هذه العلمانية حفظ حقوق الأقليات! ولم يشترط الكاتب حفظ الدين والعقيدة! ويجب عنده أن تقوم دساتير تحفظ حقوق الأقليات وفق إطار ديمقراطي نزيه، ووفق حوارات وطنية موضوعية، والهدف عنده هو إقامة دولة مدنية ديمقراطية، قائمة على المواطنة وإقرار سيادة الشعب، ويوجب الكاتب تجنب التوظيف الديني في السياسة، وهذه هدية الكاتب للعلمانيين (بأنه لا دخل للدين في السياسة)، ويوصي الكاتب الإسلاميين أن يتبنوا- بوعي وإدراك غير متردد- منهج المشاركة في الحكم، وليس السيطرة عليه، منهج التعددية، لا الاستفراد!
    (5) ادعى الكاتب أن مشروع الأمة إنما يقوم بجميع فصائلها، حتى غير المسلمين سيشاركون في نهضة الأمة، وأشار الكاتب إلى تقرير حرية الأديان والاعتقادات، ودعا بصراحة ووضوح إلى سيادة القانون (وهو الدستور الذي تتوافق عليه جميع الأطياف في البلد)، ويجب عنده القبول بالتعددية والاختلاف، ويرى أنه لا بد من دمج جميع الطوائف- على اختلافها- من النصارى، والعلمانيين، والشيعة، وسائر الطوائف، وإشراكهم في التشريع الديمقراطي، والحضور السياسي، والمشاركة في قيادة الأمة في الدولة الإسلامية!
    وزعم أن التنوع الديني والعرقي كان في المدينة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استوعب المنافقين وأهل الكتاب في ضمن المشروع الوطني النهضوي، وأن شعار النبي صلى الله عليه وسلم لكل مَن في المدينة من الكفار والوثنيين والمنافقين هو: الاستيعاب والتكامل والتطمين!
    (6) روّج الكاتب لكتابٍ لأحد اليهود المحرضين على الثورات، وتضمن الكتاب بيان الوسائل العملية لإحداث الثورات، فكأنه يقول للقراء: ارجعوا لهذا الكتاب؛ حتى تعرفوا الوسائل العملية لثوراتكم!
    وأما استشهاد الكاتب بكلمات الفلاسفة من الكفار فيما يتعلق بأمور الإمامة والحكم والولاية، ففي مواضع كثيرة جدًّا، هذا مع إعراضه عن نصوص الوحي، وتحريفه لكثير من معانيها.
    (7) أضاف الكاتب على الضرورات الخمس- المعلومة عند علماء المسلمين- ضرورات جديدة لم يقل بها أحد من أهل العلم، ثم وجدت أن الكاتب في هذا مقلد لمحمد الجابري وأمثاله، وهذه الضرورات الجديدة هي: (العدالة، والحرية، وحفظ الحقوق، ورعاية الحياة، وحفظ الكرامة الإنسانية، والاجتماع البشري)!
    والسبب الذي دعا هؤلاء لوضع هذه الضرورات الجديدة، هو أنهم يقولون: يُكْتفَى بمرجعية الشريعة ومبادئها العامة. وهذه الضرورات التي أضافوها يجعلونها من المبادئ العامة التي إذا طبقتها دولة ما فقد طبقت الشريعة، وإن لم تلتزم بتفاصيل الأحكام؛ فيُسَوِّغون للحُكّام التفلّتَ من أحكام الشريعة الإسلامية التفصيلية، فلأجل هذا صاروا ينادون بإضافة ضرورات جديدة، ونسبتها للدين.
    (8) اعتدى الكاتب على مقام السنة النبوية؛ فزعم أنه ليس فيها ذكر قضية الخلافة والحكم، وأن الحكومة النبوية الأمر فيها أقرب إلى (حكومة لا مركزية).
    واعتدى الكاتب على مقام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أيضًا؛ فإنه شبه موضوع اختيار الخليفة في عهدهم بالطريقة الديمقراطية، وجعل فعل الخلفاء رضي الله عنهم تجربة، ولا يمكن تكرارها، ولا يمكن حمل الناس على منهجهم في كل عصر!
    وذكر الثورة على عثمان رضي الله عنه، وذكر من أسباب هذه الثورة: طول فترة خلافة عثمان رضي الله عنه، وجعل أجمل ما في القصة أن عثمان اختار أن يكون عبد الله المقتول، فهذا أجمل ما فيها عنده، ولطول خلافته ثاروا عليه!
    كما جعل معاوية رضي الله عنه مستغلًّا للظروف للتمهيد لقيام الدولة الأموية، وطي صفحة الخلافة الراشدة.
    (9) ذمَّ الكاتبُ العلماءَ السائرين على منهج السلف، ووصفهم بأوصاف غير لائقة، وذكر فقهًا جديدًا وهو (فقه الثورات ومآلاتها)، وعاب على أهل العلم ما ظنه تناقضًا عندهم في موقفهم من الحاكم المتغلب، واستخفَّ بكلامهم، وزعم أنه متناقض، وزعم أن ما قرره لا يوجد في كتب الفقه صراحة، وجعل فقه الأحكام السلطانية متأثرًا بالثقافة الفارسية، وأن ما عليه ملوك الإسلام إنما هو موروثات كسروية.
    (10) وفي مقابل ذمِّه للفقهاء والعلماء، ترى الكاتبَ يعتمدُ كثيرًا على مقولات للفلاسفة الكفار، ويُروِّج لها، ويمدحها، ورأيته يتَّبعُ كثيرًا- في كتابه هذا- د. محمد الجابري، المعروف بأنه علماني، قومي، فيلسوف، مدافعٌ عن طوائف الباطنية!
    فالكاتب في كتابه- أسئلة الثورة- وقع في المخالفة للشريعة الإسلامية في كثير من المواضع، وحرّف بعض الأدلة الشرعية؛ فعلى سبيل المثال حرّف قوله سبحانه: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [النساء:??]. فزعم أن معنى (الرد إلى الله وإلى الرسول): (هو الاحتكام إلى جهة شرعية محايدة، أو إلى حوار يفضي إلى تجاوز الخلاف)!
    وهذا من قبيح التحريف، وسيأتي بيان بطلانه.
    لقد سيطرت النفسية الغضبية على الكاتب، مما جعله يكتب عن الثورة، ويحلم بالثورة، ويلمز بلاد الإسلام وعلماء أهل السنة، ويريد تحقيق أحلام الثائرين.
    والثورة غضب قد ينفذه صاحبه، ولم يُمْدَح الغضبُ إلا فيما يحقق نصرة الشريعة ويوافقها تمامًا، مع أنه لا بد أن يصاحب هذا الغضب الممدوح العدل، والإنصاف، ولزوم الشرع، والتحاكم إليه في صغير الأمور وكبيرها.
    لقد سلك الكاتب مسلكًا إقصائيًّا للغاية؛ فقد أقصى الأدلة الشرعية عن كتابه، وأقصى آراء عامة أهل العلم، وأقصى الرأي الأقوى في معارضة كلامه.
    لقد رأيت د. سلمان العودة قد قرر أمورًا خطيرة في كتاب (أسئلة الثورة)، مما يوجب التأمل والتوقف عندها، والنظر في مآلاتها؛ فوجدته ساعيًا في تفريق جماعة المسلمين، حريصًا بكل جهده على إيقاع الثورة في بلاده وبلاد المسلمين، مؤسسًا لشبهات المعتزلة والخوارج، ومحرفًا الأدلة الصحيحة عن معانيها لتسويغ الخروج والثورة، محسِّنًا للناس سنن الجاهلية، مُنفّرًا ومُخَوِّفًا من تحكيم الشريعة، مُرَغِّبًا في الدساتير الوضعية، متعدِّيًا حدودَ الله تعالى، ومتجرِّئًا على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام الصحابة رضي الله عنهم في إطلاقات عديدة، ومتعدِّيًا على طريقة أهل العلم، ومسيئًا الظن فيهم.
    وكان الواجب على الكاتب وعلى غيره الاعتبار بما وقع قديمًا وحديثًا من الفتن العظيمة؛ بسبب الخروج عن شرع الله تعالى، وبسبب الثورات، وكان الواجب عليه أيضًا دعوة المسلمين إلى التوبة النصوح، والتمسك بالكتاب والسنة، والتحاكم إلى شرع الله تعالى، والسير على منهاج سلف الأمة وعلمائها الراسخين في العلم، وكان عليه بدلًا من الدعوة إلى الثورات أن يدعو المسلمين إلى التناصح فيما بينهم وبين حكّامهم بالطريقة الشرعية، ويوصيهم بالتمسك بالعقيدة الصحيحة، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي التي توجب سخط الرب سبحانه ومقته.
    ومن هنا أُذَكِّرُ نفسي وإخواني بأن الواجب على جميع المسلمين عامة، وعلى العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى خاصةً، أن يقفوا وقفة حازمة تجاه هذه الضلالات التي كثر الداعون إليها، وأن يحافظوا على عقيدتهم ودينهم، ويصدُّوا عدوان المعتدين، ولا ينجرفوا مع أهل الأهواء بسبب خذلان المنخذلين، وألَّا يسكتوا عما يخالف عقيدة الإسلام وشريعته، وأن يعرِفوا الحق ويعملوا به ولو خالف الهوى، وأن يجعلوا المعيار هو وزن أقوال الناس بالكتاب والسنة، وألَّا يجعلوا الكتاب والسنة تبعًا لأهواء الناس.
    لأجل هذه الأمور التي سبقت، ولاغترار كثير من الناس بهذا الكتاب وبما يدعو إليه مؤلفه، وإسهامًا في حماية أهل الإسلام من الأفكار المنحرفة والثورات الجاهلية، ودعوة للكاتب وكل من كان على طريقته للتوبة والرجوع، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، رأيت كتابة هذا الرد سعيًا في بيان الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة على منهج أهل السنة والجماعة، ونصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وحرصًا على حفظ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، معترفًا بقصور الباع والاختصار في كثير من المواضع التي تحتاج إلى بسط وتفصيل، ولكني متوكل على الله تعالى، وراجٍ فضله بأن يكون هذا الكتاب سببًا في صدِّ عدوان المعتدين على الشريعة وعلى بلدان المسلمين، وعلى عباد الله المسلمين، وراغبًا أن يقف أهل العلم والفضل والدين على حقيقة كلام الكاتب؛ فيتضح لهم منهجه بجلاء، ويتبين لهم أمره بلا خفاء، ولعل هذا الردَّ الذي كتبته يجلّي بعض ما تضمنه كتاب (أسئلة الثورة) من الفساد لكثير ممن لا يعرف أهداف الكاتب ومقاصده، فيعرفوه على حقيقته، وسميت هذا الرد:(الجناية على الإسلام في كتاب أسئلة الثورة)، وتتبعت كلام د. سلمان العودة بحسب ترتيب كتابه، فأنقل كلامه، ثم أبين ما فيه.
    والله سبحانه وتعالى هو المسئول والمرجو أن يهدينا جميعًا إلى صراطه المستقيم، وأن يجعلنا من الدَّاعين إليه على بصيرة، وأن يجنبنا وسائر المسلمين الشرَّ والفرقة والشذوذ والشقاق والنفاق، وأن يعيذنا من نزغات الشيطان، ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما أسأله تعالى أن يحفظ على بلادنا وعلى جميع بلدان المسلمين أمنها واستقرارها، وأن يعز الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله، وأن يصلح قادة المسلمين ورعيَّتهم، وأن يوفقهم للتحاكم إلى شرع الله، والعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى، وأن يرزقنا الفقه في الدين والثبات عليه، إنه سبحانه جواد كريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سبيله واقتفى أثره إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

    كتبه: د. فهد بن سليمان بن إبراهيم الفهيد
    غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
    صبيحة يوم السبت الحادي عشر
    من شهر ذي الحجة عام 1433هـ في مشعر منى

    حكم الثورات في الإسلام
    لفظ الثورة لم تَرِد به الشريعة، وإنما جاء في الشريعة لفظ: القتال، والجهاد، والمنازعة، والمنابذه بالسيف، والخروج.
    فلفظ الثورة الذي طَرَقَ أسماعَ الناسِ كثيرًا في هذا الوقت، ليس له أصل في الشرع الحنيف، وإنما هو من جهة التسمية تقليد للثورة الفرنسية الإلحادية، والثورة الخمينية الرافضية المجوسية، والثورات العربية القومية العلمانية التي حدثت قبل خمسين سنة تقريبًا.
    وهذا اللفظ- الثورة- لفظ مجمل يحتمل معاني متعددة، والحاكم إمَّا أن يكون بَرًّا، وإمَّا فاجرًا، فالحاكم المسلم- بَرًّا كان أو فاجرًا- لا يجوز الخروج عليه، ويجب السمع والطاعة له في غير معصية الله، ويجب نصيحته ودعوته إلى الحق بالطرق المشروعة.
    والحاكم الكافر يجب جهاده وتغييره بغير الثورة الهمجية، وإنما بالطريقة الشرعية، تحت نظر أهل العلم، وأهل الحل والعقد، وهذا مقيَّد بشروط دلت عليها النصوص الشرعية؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلَّا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان))(2). ومنها القدرة ووجود البديل الصالح، مع مراعاة المفاسد والمصالح ومآلات الأحوال.
    وهذه بعض الأدلة الواردة في هذا الباب:
    1 – فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم سترون بعدي أَثَرَةً وأمورًا تنكرونها)). قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((تؤدُّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم))(3).
    2 – وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))(4).
    3 – وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدَّع الأطراف))(5).
    4 – وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خلع يدًا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة الجاهلية))(6).
    5 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية))(7).
    6 – وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر؛ فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات مِيتة جاهلية))(8).
    7 – وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلَّا أن يُؤمر بمعصية، فإن أُمِر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة))(9).
    8 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك))(10).
    قال العلماء – كما حكى النووي –: (معناه: تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره، مما ليس بمعصية، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة). قال: (والأثرة: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم).
    9 – وعن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال:سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حُمِّلتم)).
    وفي رواية لمسلم أيضًا: فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم))(11).
    والمعنى: أن الله تعالى حمَّل الولاة وأوجب عليهم العدل بين الناس، فإذا لم يقيموا أثموا، وحمَّل الرعية السمع والطاعة لهم، فإن قاموا بذلك أُثِيبوا عليه، وإلَّا أثموا.
    10 – عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا بِشَرٍّ، فجاء الله بِخَيْرٍ، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: ((نعم)). قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: ((نعم)). قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: ((نعم)). قلت: كيف؟ قال: ((يكون بعدي أئمة؛ لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)). قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: ((تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع))(12).
    11 – وعن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)). قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعته)). وفي لفظ أخر له: ((ألا من ولي عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة))(13).
    12 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)). وفي لفظ: ((... ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني))(14).
    وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا الحديث في كتاب الأحكام من ((صحيحه)) فقال: باب قول الله تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء:59]. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وفي الحديث: وجوب طاعة ولاة الأمور، وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية، والحكمة في الأمر بطاعتهم: المحافظة على اتفاق الكلمة؛ لما في الافتراق من الفساد).
    13 – وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة))(15).
    14 – وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: ((إلَّا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان))(16).
    15 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومَن قاتل تحت راية عُمِّيَّة؛ يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب بَرَّها وفاجرَها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني، ولست منه))(17).
    16 – وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهنَّ: بالجماعة، وبالسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنَّه من فارق الجماعة قِيدَ شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع، ومن دعَا بدعوى الجاهلية فإنَّهُ من جُثَاء جهنم)). فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله))(18).
    17 – وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصيًا، وأَمَة أو عبد آبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها يكفيها المؤونة فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم))(19).
    18 – وعن عرفجة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم ويفرق كلمتكم، فاقتلوه)). وفي رواية: ((إنَّهُ ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنًا مَن كان))(20).
    19 – وعن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُنصَب لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة)). وإنَّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن يُبايع رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُنْصَب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر، إلَّا كانت الفَيْصل بيني وبينه (21).
    20 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فَضْلُ ماءٍ بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلَّا لدنيا؛ فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يُعْطِه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره، لقد أُعطيتُ بها كذا وكذا. فصدّقه رجل)). ثم قرأ هذه الآية: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } [آل عمران:77](22).

    ----

    (2) أخرجه البخاري (7199)، ومسلم (1709).
    (3) أخرجه البخاري (7052)، ومسلم (1843).
    (4) أخرجه البخاري (3062)، ومسلم (111).
    (5) أخرجه مسلم (648).
    (6) أخرجه مسلم (1851).
    (7) أخرجه مسلم (1848).
    (8) أخرجه البخاري (7053، 7054)، ومسلم (1849).
    (9) أخرجه البخاري (2955)، ومسلم (1839). ومعناه: لا طاعة في المعصية، ويطاع فيما ليس بمعصية ولا تنخلع بيعته.
    (10) أخرجه مسلم (1836).
    (11) أخرجه مسلم (1846).
    (12) أخرجه مسلم (1846).
    (13) أخرجه مسلم (1855).
    (14) أخرجه البخاري (2957، 7137)، ومسلم (1835).
    (15) أخرجه البخاري (7142).
    (16) أخرجه البخاري (7199)، ومسلم (1709) واللفظ له.
    (17) أخرجه مسلم (1848).
    (18) أخرجه الترمذي (2863)، وأحمد (17170، 17800).
    (19) أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (590)، وأحمد (23943).
    (20) أخرجه مسلم (1852).
    (21) أخرجه البخاري (7111)، ومسلم (1735).
    (22) أخرجه البخاري (2358)، ومسلم (108).

    وإليك بعضَ أقوال أهل العلم سلفًا وخلفًا في وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله، وتحريم الخروج عليهم ولو وقع منهم ظلم أو جور:
    * قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، مبينًا عقيدة أهل السنة والجماعة: (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم ...).
    إلى أن قال:(ومن السنة اللازمة التي من ترَك منها خصلةً- لم يَقْبَلْها ويُؤْمِنْ بها- لم يكن من أهلها ...) فذكر أمورًا، ثم قال: (والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين؛ البَرِّ والفاجر. ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّي أمير المؤمنين. والغزو ماضٍ مع الأمراء إلى يوم القيامة؛ البَرِّ والفاجر، لا يُترَك. وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ ليس؛ لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم. ودفع الصدقات إليهم جائزة ونافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه؛ برًّا كان أو فاجرًا، وصلاة الجمعة خلفه وخلف من وَلّى جائزة تامّة ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع، تارك للآثار، مخالف للسنة، ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاةَ خلف الأئمة؛ مَن كانوا برّهم وفاجرهم، فالسنة أن تصلي معهم ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع، وتدين بأنها تامة، ولا يكن في صدرك من ذلك شك. ومن خرج على إمام المسلمين، وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقرُّوا له بالخلافة بأي وجه كان؛ بالرضا، أو بالغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. ولا يحلُّ قتال السلطان، ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمَن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق)(23).
    وقال أيضًا رحمه الله: (هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة، المتمسكين بعروقها، المعروفين بها، المقتدَى بهم فيها؛ من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركتُ مَن أدركتُ من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق). وذكر أمورًا من أصول الاعتقاد منها: (... والانقياد إلى مَن ولَّاه الله أمركم، لا تنزع يدًا من طاعته، ولا تخرج عليه بسيفك حتى يجعل الله لك فرجًا ومخرجًا، ولا تخرج على السلطان، وتسمعُ وتطيعُ، ولا تنكث بيعة، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف، مفارق للجماعة، وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية، فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقه)(24).
    * وقال الإمام البخاري رحمه الله: (لقيت أكثر من ألفِ رجل من أهل العلم؛ أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتُهم كَرَّاتٍ، قرنًا بعد قرن، ثم قرنًا بعد قرن، أدركتُهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة...). وسمّى خلقًا كثيرًا منهم، ثم قال: (... فما رأيت واحدًا منهم يختلف في هذه الأشياء). فذكر أمورًا منها: (... وأن لا ننازع الأمر أهله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط مِن ورائهم)). ثمّ أكّد في قوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء:59]. وأن لا يرى السيفَ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
    وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة، لم أجعلها إلَّا في إمام؛ لأنه إذا صلح الإمام أَمِنَ البلادُ والعبادُ. قال ابن المبارك: يا معلم الخير، من يجترئ على هذا غيرك)(25).
    * وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة: عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركَا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار؛ حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا، فكان من مذهبهم...). وذكرَا أمورًا، ثم قالاَ: (ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا القتالَ في الفتنة، ونسمع ونطيع لمَن ولَّاه الله عز وجل أمرَنا، ولا ننزع يدًا من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفُرقة، وأنَّ الجهاد ماضٍ منذ بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين، لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين)(26).
    * وقال سهل بن عبد الله التُّستري رحمه الله وقد قيل له: متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟ قال: (إذا عرف من نفسه عشر خصال:لا يترك الجماعة، ولا يسبُّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف، ولا يكذِّب بالقدر، ولا يشكُّ في الإيمان، ولا يماري في الدِّين، ولا يترك الصلاة على مَن يموت من أهل القبلة بالذنب، ولا يترك المسحَ على الخُفَّين، ولا يترك الجماعة خلف كلِّ والٍ جَارَ أو عَدَل)(27).
    * وقال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني– الملقب بمالك الصغير – رحمه الله: (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم)(28).
    * وقال حرب الكرماني رحمه الله في عقيدته التي نقلها عن جميع السلف: (... وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية، فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقَّه)(29).
    * وقال المزني- من كبار علماء الشافعية-: (والطاعة لأولي الأمر فيما كان عند الله عز وجل مرضيًا، واجتناب ما كان عند الله مسخطًا، وتركُ الخروج عند تعدِّيهم وجَوْرهم، والتوبةُ إلى الله عز وجل؛ كيما يعطف بهم على رعيّتهم)(30).
    * وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي رحمه الله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا، وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والعافية)(31).
    * وقال التيمي الأصبهاني رحمه الله في رسالته التي جمعها في السنة- لما رأى غربة السنة وكثرة الحوادث واتباع الأهواء-: (ثمَّ من السّنة: الانقياد للأُمراءِ والسُّلطان؛ بأن لا يخرج عليهم بالسَّيْف وإن جاروا، وأن يسمعوا له، وأن يطيعوا، وإن كان عبدًا حَبَشِيًّا أجدع، ومن السّنة الحج مَعَهم، والجهاد معهم، وصلاة الجمعة والعيدين خلف كلِّ برٍّ وفاجر...). وقال في تمامها: (ويشهد لهذا الفصل المجموع من السُّنَّة كتبُ الأئمَّة؛ فأول ذلك: كتاب السّنة عن عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، وكتاب السّنة لأبي مسعود وأبي زرعة وأبي حاتم، وكتاب السّنة لعبد الله بن محمد بن النُّعْمان، وكتاب السّنة لأبي عبد الله محمد بن يُوسُف البَنَّا الصُّوفي، رحمهم اللَّه أجمعين. ثمَّ كتب السّنَن للآخرين، مثل: أبي أحمد العسَّال، وأبي إسحاق إبراهيم بن حمزة الطَّبَرَانِي، وأبي الشَّيْخ، وغيرهم مِمَّن ألَّفوا كتب السّنة، فاجتمع هؤلاء كلهم على إثبات هذا الفصل من السّنة)(32).
    وقال رحمه الله: (فصل يتَعَلَّق باعتقاد أهل السّنة ومذهبهم... وطاعة أولي الأمر واجبة، وهي من أوكد السّنن؛ ورد بها الكتاب والسّنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(33).
    * وقال الإمام أبو إسماعيل الصابوني رحمه الله: (ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برًّا كان أو فاجرًا، ويرون جهاد الكفرة معهم، وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف، ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل)(34).
    * وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: (وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين) (35).
    * وقال النووي رحمه الله: (أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية)(36).
    * وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما أهل العلم والدِّين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه؛ من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم، بوجه من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدِّين قديمًا وحديثًا، ومن سيرة غيرهم)(37).
    وقال أيضًا رحمه الله: (... ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة: لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة؛ التوحيد الذي هو سلب الصفات، والعدل الذي هو التكذيب بالقدر، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فيه قتال الأئمة)(38).
    * وقال ابن القيم رحمه الله: (... وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شرٍّ وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة)). وقال: ((من رأى من أميره ما يكرهه، فليصبر، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعته)). ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكَرٍ، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك- مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه)(39).
    * وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قال ابن بطال: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء)(40).
    * قال العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله: (وأما قولُهُ: (ويُؤدِّب منْ يُثبِّط عنه) فالواجب دفعُهُ عن هذا التثبيط، فإنْ كفَّ، وإلا كان مستحقًّا لتغليظ العقوبة، والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبس أو غيره؛ لأنَّه مرتكب لمحرم عظيم، وساعٍ في إثارة فتنة تُراق بسببها الدماء، وتُهْتَكُ عندها الْحُرَم، وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام، وقد ثبت في ((الصحيح)) عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((من نزع يده من طاعة الإمام، فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة، فإنه يموت موتة جاهلية)) )(41).
    ومن كلام بعض العلماء المعاصرين:
    * سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (سماحةَ الشيخ، هناك مَن يرى أنَّ اقترافَ بعض الحُكَّام للمعاصي والكبائر مُوجبٌ للخروج عليهم ومحاولة التغيير، وإن ترتَّب عليه ضررٌ للمسلمين في البلد، والأحداثُ التي يُعاني منها عالَمنا الإسلامي كثيرة، فما رأيُ سماحتكم؟).
    فأجاب رحمه الله: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه، أمَّا بعد: فقد قال الله عز وجل: { ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } [النساء 59]. فهذه الآيةُ نصٌّ في وجوب طاعة أولي الأمر، وهم الأمراءُ والعلماءُ، وقد جاءت السنةُ الصحيحةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبيِّن أنَّ هذه الطاعةَ لازمةٌ، وهي فريضةٌ في المعروف، ووردت النصوصُ من السنة تُبيِّن المعنى، وتُفيد بأنَّ المرادَ طاعتُهم بالمعروف، فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف، لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصيةِ فلا يُطاعون في المعصية، لكن لا يجوز الخروجُ عليهم بأسبابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أَلاَ مَن وَلِيَ عليه، والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعة)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعةَ، فمات، مات ميتةً جاهلية)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((على المرءِ السمعُ والطاعة فيما أحبَّ وكرِه، إلَّا أن يؤمَر بمعصيةٍ، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)). وسأله الصحابيُّ- لَمَّا ذكر أنَّه سيكون أمراء تعرفون منهم وتُنكرون- قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((أَدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلوا اللهَ حقَّكم)). وقال عُبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومَكرَهنا، وعُسرِنا ويُسرِنا، وأَثرة علينا، وأن لا نُنازع الأمرَ أهلَه). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إلَّا أن تَرَوْا كُفرًا بَواحًا عندكم من الله فيه بُرهان)). فهذا يدلُّ على أنَّه لا يجوز لهم منازعة وُلاة الأمور، ولا الخروج عليهم إلَّا أن يَرَوْا كُفرًا بواحًا عندهم من الله فيه بُرهان؛ وما ذاك إلَّا لأنَّ الخروجَ على وُلاة الأمور يُسبِّبُ فسادًا كبيرًا وشرًّا عظيمًا، فيختلُّ به الأمنُ، وتضيعُ الحقوقُ، ولا يَتَيَسَّر رَدْعُ الظالِم، ولا نَصْرُ المظلوم، وتختلُّ السُّبُلُ ولا تأمَن، فيترتَّبُ على الخروج على وُلاة الأمور فسادٌ عظيمٌ وشرٌّ كبيرٌ، إلَّا إذا رأى المسلمون كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالتِه إذا كان عندهم قدرة، أمَّا إذا لَم يكن عندهم قُدرةٌ فلا يخرجوا، أو كان الخروجُ يُسبِّبُ شرًّا أكثر، فليس لهم الخروجُ؛ رعايةً للمصالح العامة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها: أنَّه لا يجوز إزالةُ الشرِّ بما هو أشرُّ منه، بل يجب دَرءُ الشرِّ بما يُزيلُه أو يُخفِّفُه، وأمَّا دَرْءُ الشرِّ بشرٍّ أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطائفةُ التي تُريد إزالةَ هذا السلطان الذي فعل كفرًا بواحًا، وعندهم قدرة تُزيله بها، وتضع إمامًا صالِحًا طيِّبًا، من دون أن يترتَّب على هذا فسادٌ كبير على المسلمين وشرٌّ أعظم من شرِّ هذا السلطان، فلا بأس.
    أمَّا إذا كان الخروجُ يترتَّب عليه فسادٌ كبيرٌ، واختلالُ الأمن، وظلمُ الناس، واغتيالُ من لا يستحقُّ الاغتيال، إلى غير هذا من الفسادِ العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبرُ، والسمعُ والطاعةُ في المعروف، ومناصحة ولاة الأمور، والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشرِّ وتقليلِه، وتكثيرِ الخير، هذا هو الطريقُ السويُّ الذي يجب أن يُسلك؛ لأنَّ في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأنَّ في ذلك تقليل الشرِّ وتكثير الخير، ولأنَّ في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شرٍّ أكثر، نسأل اللهَ للجميع التوفيق والهداية.
    ثم قيل للشيخ: (سماحةَ الوالد، نَعلمُ أنَّ هذا الكلامَ أصلٌ من أصول أهل السنَّة والجماعة، ولكن هناك للأسفِ من أبناء أهل السنَّة والجماعة مَن يرى هذا فِكرًا انهزاميًّا، وفيه شيءٌ من التخاذل، وقد قيل هذا الكلام... لذلك يَدْعُون الشبابَ إلى تَبنِّي العنفَ في التغيير؟).
    فأجاب رحمه الله: (هذا غلَطٌ من قائله، وقلَّة فَهْم؛ لأنَّهم ما فهِموا السنَّةَ ولا عرَفوها كما ينبغي، وإنَّما تحملهم الحماسةُ والغيرةُ لإزالةِ المنكر على أن يقعوا فيما يُخالفُ الشرعَ، كما وقعت الخوارجُ والمعتزلة، حملهم حبُّ نصرِ الحقِّ أو الغيرة للحقِّ، حملهم ذلك على أن وقعوا في الباطل، حتَّى كفَّروا المسلمين بالمعاصي، أو خلَّدوهم في النار بالمعاصي كما تفعل المعتزلة؛ فالخوارجُ كفَّروا بالمعاصي وخلَّدوا العصاةَ في النار، والمعتزلةُ وافقوهم في العاقبة، وأنَّهم في النار مُخلَّدون فيها، ولكن قالوا: إنَّهم في الدنيا في منزلة بين المنزلتين. وكلُّه ضلالٌ، والذي عليه أهل السُنَّةِ هو الحقُّ أنَّ العاصيَ لا يكفُر بِمعصيتِه ما لَم يستحلَّها، فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذا شرب الخمرَ لا يكفر، ولكن يكون عاصيًا ضعيفَ الإيمان، فاسقًا تُقام عليه الحدود، ولا يكفر بذلك إلَّا إذا استحلَّ المعصيةَ وقال: إنَّها حلالٌ. وما قاله الخوارج في هذا باطلٌ، وتكفيرُهم للناسِ باطلٌ؛ ولهذا قال فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يَمرقون من الإسلام ثمَّ لا يعودون فيه))، ((يقتلون أهلَ الإسلامِ، ويَدَعون أهل الأوثان)). هذه حال الخوارج بسبب غُلُوِّهم وجهلهم وضلالِهم.
    فلا يليقُ بالشباب ولا غير الشباب أن يُقلِّدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنَّة والجماعة، على مقتضى الأدلَّة الشرعية؛ فيقفون مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاصٍ وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة والمشافهة، بالطرق الطيِّبة الحكيمة، بالجدال بالتي هي أحسن؛ حتى ينجحوا، وحتى يقلَّ الشرُّ أو يزول ويكثر الخير، هكذا جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } [آل عمران: 159]. فالواجب على الغيورين لله وعلى دعاة الهُدَى أن يلتزِموا بحدود الشرعِ، وأن يُناصحوا مَن ولَّاهم الله الأمور بالكلام الطيِّب، والحكمة والأسلوب الحسن؛ حتى يكثر الخيرُ ويقلَّ الشرُّ، وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدَّة، ويُناصحوا مَن ولَّاهم الله، بشتَّى الطرق الطيِّبة السليمة، مع الدعاء لهم في ظهر الغيب أنَّ الله يهديهم ويوفِّقهم ويعينهم على الخير، وأنَّ الله يعينهم على ترك المعاصي التي يفعلونها، وعلى إقامة الحقِّ، هكذا يدعو الله ويَضرَع إليه أن يهدي اللهُ ولاةَ الأمور، وأن يُعينهم على ترك الباطل، وعلى إقامة الحقِّ بالأسلوب الحسن بالتي هي أحسن، وهكذا مع إخوانه الغيورين ينصحهم ويَعِظُهم ويذكِّرهم؛ حتى ينشطوا في الدعوة بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدَّة، وبهذا يكثر الخيرُ ويقلّ الشرُّ، ويهدي الله ولاةَ الأمور للخير والاستقامة عليه، وتكون العاقبةُ حميدةً للجميع)(42).
    * وقال الشيخ العلامة عبد الله بن محمد بن حميد (ت:1402هـ)، في نصيحة لـ(ولي العهد فيصل بن عبد العزيز) وتكلم فيها عن الرعاع، فقال: (الذين يقول في وصفهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: وسائر الناس همج رعاع أتباع كل ناعق. الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق؛ فهم اتباع كل ناعق ضد الدين، أتباع كل ناعق ضد السياسة، أتباع كل ناعق ضد الأخلاق وحسن السيرة، أتباع كل ناعق ضد الأمن والطمأنينة، أتباع كل ناعق ضد الملوكية والولايات الشرعية، أتباع كل ناعق بالفتن، أتباع كل ناعق بالحرية المزعومة الغربية، أتباع كل ناعق بسقوط المروءات، أتباع كل ناعق وإن جهلوا غاية الناعق ومبدأه ومقاصده، كما يقول المفتون في قبره: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته... فمن كان ضدَّ الدين فهو ضد ملوك الإسلام وأهله، ومن كان ضدَّ ولاة الأمور فهو ضد الدِّين، وإن تظاهر بالنصرة للإسلام؛ لأن الإسلام ينهاه عن كل ما يمس السياسة الرشيدة، والإسلام يقول: ((من فارق الجماعة قِيدَ شبر، فمات، فميتته ميتة جاهلية)). والإسلام يقول: ((من أهان إمام المسلمين، أهانه الله)). والإسلام يقول: ((السلطان ظل الله في أرضه)). فمن خرج على الإمام يريد نصرة الإسلام بزعمه، فهو كاذب، ما لم يعين ما أخل به الإمام، ويناصحه سرًّا مرارًا، ثم يعلن له ذلك عند العجز عنها في السرِّ.
    ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه سيكون عليكم ولاة تعرفون منهم وتنكرون)). قال رجل: أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)). فهذه سياسة الإسلام للشعوب مع ولاة أمورها، لما يترتب على منازعة الوالي من ذهاب الإسلام، وتسلط الأعداء، وإراقة الدماء، والفوضى، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، كما هو مشاهد الآن في كثير من البلاد العربية وغيرها؛ كل انقلاب يحدث، يذهب فيه عشرات الألوف من الناس، كما هو مشاهد الآن في مصر، والعراق، وسوريا، واليمن، والجزائر، وغيرها، نسأل الله السلامة، وبما أنه قد علم أن الدِّين والملك أخَوان، يقوى هذا بقوة صاحبه، ويضعف بضعفه، كان من المتعين على ملوك الإسلام التمسك بالدين وحمايته، وصيانته عن كل ما يناقضه أو ينقصه، لاسيما مثلكم، فإنه لم يبق الآن من ملوك الإسلام، من يؤمَّل فيهم النصرة للدين سوى هذه الأسرة الميمونة، ولا تزال هي محطّ أنظار العالم الإسلامي، كيف لا، وأنتم حماة الحرمين الشريفين، وحماة قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأسلافكم الأفاضل، هم كانوا حماة الدين، ومنارًا ساطعًا لرفع راية التوحيد ...)(43).
    هذه نماذج من كلمات أهل العلم، وليس المقصود استقصاؤها.
    * * *
    تنبيه مهم:
    يعتقد أهل السنة والجماعة وجوب نصيحة الحُكَّام، ودعوتهم إلى الخير، ونهيهم عن الشرِّ، ووجوب الإنكار عليهم، ويرون أن النصيحة على درجات وأنواع؛ فقد تُعلن أمامه- وهو الإنكار عليه أمامه- كما في الحديث الذي عند الترمذي وغيره، وقد تُسَرّ، ونَفْعُ الإسرار بالنصيحة أكبر، وتجب النصيحة وتتأكد على مَن يخالطهم ويغشى مجالسهم، كما يعتقد أهل السنة والجماعة أهمية الدعاء للولاة والحُكَّام بالهداية والصلاح والمعافاة، وهذا من النصح لهم.
    وفي مقابل ذلك: فالواجب على الحكام قَبولُ نصح من ينصحهم إذا وافق الحق بدليله الشرعي، والتلطف والصبر على مَن نصح نصيحة في غير محلها؛ جاهلًا أو مخطئًا أو متأوّلًا.
    ويحرم غش الولاة بالكذب عليهم بتصحيح أفعالهم المخالفة للشريعة، أو تسويغ الظلم الذي قد يقعون فيه، أو تشجيعهم على الباطل لموافقة هوى نفوسهم، كما يفعل ذلك خلق كثير ممن لا همَّ لهم إلَّا الدنيا وإرضاء ذوي الجاه والسلطان.
    ومِن هنا يتأكد على جميع الحكّام تقريب الناصحين الصادقين، المعروفين بالعلم والسنة والتوحيد، والمعروفين بالعقل والحكمة وبُعْد النظر، واستشارتهم، وإبعاد مَن ظهر منه الشرُّ والفساد والسوء وتقديم الدنيا على الآخرة.

    -----

    (23) ((شرح اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (1/160، 161).
    (24) ((طبقات الحنابلة)) لأبي يعلى (1/24، 27).
    (25) ((شرح اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (1/172 – 176).
    (26) المصدر السابق (1/176 – 180).
    (27) ((شرح اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (1/183).
    (28) انظر:(( قطف الجنى الداني شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني)) (ص167).
    (29) كتاب ((السنة في مسائل حرب)) (ص34)، وانظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص104).
    (30) ((شرح السنة)) للمزني (ص86، 87، 92، 93).
    (31) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص386).
    (32) ((الحجة في بيان المحجة)) (1/235 – 242).
    (33) المصدر السابق (2/ 478).
    (34) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص92، 93).
    (35) ((رسالة لأهل الثغر)) (ص296).
    (36) ((شرح صحيح مسلم)) (12/222).
    (37) ((مجموع الفتاوى)) (35/12).
    (38) ((الاستقامة)) (2/215).
    (39) ((إعلام الموقعين)) (3/4).
    (40) ((فتح الباري)) (13/7).
    (41) ((السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار)) (4/514).
    (42) ((المعلوم في واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم)) للشيخ: ابن باز (ص7-13).
    (43) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (15/27).
    قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس فى أحواله وأعماله وقارنه سوءُ الحال وفساده فى دينه ومآله، فإن الرب تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرت عليها وحشة الإعراض وصارت مأْوى للشياطين وهدفاً للشرور ومصباً للبلاءِ، فالمحروم كل المحروم من عرف طريقاً إليه ثم أَعرض عنهاْ....

    موقع فضيلة العلامة الشيخ فالح بن نافع الحربي حفظه الله
    http://www.sh-faleh.com/index.php

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2011
    الدولة
    ......
    المشاركات
    1,355
    جزاكم الله خيرا وبارك فيكم

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    596
    أين طبع الكتاب
    "يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم قال لا بملئ فيهِ"

    قال سليمان بن موسى: ["إذا كان فقه الرجل حجازيا ، وأدبه عراقيا فقد كمل"]


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    May 2011
    الدولة
    ......
    المشاركات
    1,355
    يرفع للفائدة والاهمية .

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •