النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: التعقبات الواضحة على الدكتور قيس المبارك في تعليقاته على كتاب النصيحة الكافية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    3

    التعقبات الواضحة على الدكتور قيس المبارك في تعليقاته على كتاب النصيحة الكافية

    (2)
    التعقبات الواضحة
    على الدكتور قيس المبارك
    في تعليقاته على كتاب النصيحة الكافية

    بقلم
    (عبد الله الصالح)
    عفا الله عنه



    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد المصطفى الأمين وعلى آله وصحابته أجمعين ، أما بعد :
    في عام 1414هـ صدر كتاب "النصيحة الكافية" لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن أحمد بن محمد الفاسي المعروف بـ "زرُّوق" ، المتوفى عام 899 هـ صدر الكتاب محققاً معلقاً عليه ، والذي قام بتحقيقه والتعليق عليه الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ، وعضو هيئة التدريس في جامعة الملك فيصل ، وقد تولت مكتبتا الإمام الشافعي بالرياض ومكتبة الظلال بالأحساء بنشره ، فلما اطلعت على الكتاب أول صدوره رأيت فيه ما أدهشني وأثار عجبي ؛ إذ أن الدكتور – عفا الله عنه – وقع في تعليقه على الكتاب المذكور في هُوَّات كبيرة وأخطاء جسيمة خصوصاً في مسائل العقيدة ، إضافة إلى ثنائه على الصوفية ومدحهم ، وأخطاء أخرى في النقل مع ضعف وقصور في التعليق .
    وقد قمت بالرد – على قدر استطاعتي - موضحاً تلك الأخطاء في أصل الكتاب لـ :" زرًّوق" ، وحاشيته للدكتور قيس ، مع التنبيه على أن هذا الرد يتناول مسائل العقيدة فقط ولا أظن أني قد استوعبت كل المسائل .
    فإن يك - هذا الرد - صوابًا فمن الله وإن يك خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .


    *الملاحظة الأولى :
    جميع تصرفات الإنسان من أقوال وأفعال إنما يندفع إلى تحقيقها بدوافع كثيرة مرجعها إلى عاملين : الأول : قراراته العقلية . الثاني : استهواءاته العاطفية . (قيس)(المقدمة)
    ( التعليق ) :
    تصرفات الإنسان المسلم من أقوال وأفعال إنما يدفعه إلى تحقيقها الأمر الشرعي لا القرار العقلي أو الاستهواء العاطفي . قال تعالى : "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً" وقال تعالى : "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً " وقال تعالى : "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" وقال تعالى : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ " وقال تعالى : "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " وقال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " وقال تعالى : " إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً " وقال تعالى : " أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" وقوله تعالى" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" وقال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقال تعالى : "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" على غير ذلك من الآيات .
    وأما من السنة فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ (أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ) عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" رواه البخاري ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " رواه أبو داود والترمذي ، ومن ذلك أيضا أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما حدث بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ " ، قال بعض أبنائه : والله لنمنعهن . فغضب عليه عبد الله وسبه سباً شديداً ، وقال : "أقول قال رسول الله وتقول : والله لنمنعهن" . وأخرج الشيخان بسندهما أن امرأة سألت عائشة فقالت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت لها عائشة رضي الله عنها : " أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ، قُلْتُ لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّى أَسْأَلُ . قَالَتْ كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ . " واللفظ لمسلم .
    ومما هو معروف في أمر التدرج في تحريم الخمر وقد كان بعض الصحابة امتنع عنها عقلاً لما يعرف من ضررها ، وبعضهم كان يتعاطها لأنه لم ينزل في ذلك تحريم وكان الرسول يراهم يتعاطونها فلم يكن ينهاهم حتى نزلت آية التحريم التي في المائدة ، فقرأها عليهم فتركوها ، أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي ميسرة عن عمر رضي الله عنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فنزلت الآية التي في البقرة فدعي عمر فقرئت عليه فقال عمر : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فنزلت الآية التي في النساء : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى " فكان منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أقام الصلاة نادى : " لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى " فدعي عمر فقرئت عليه فقال : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " قال عمر رضي الله عنه انتهينا انتهينا . وعند أحمد بسند صحيح عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : "إِنِّي لَقَائِمٌ عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ مِنْ فَضِيخٍ لَهُمْ ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : إِنَّهَا قد حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ، فَقَالُوا : أَكْفِئْهَا يَا أَنَسُ . فَكْفَأْتُهَا" .
    من هذا يتبين أن الصحابة إنما كان يدفعهم إلى العمل أو الكف : النص الشرعي لا العقلي أو العاطفي ، فلتتنبه لذلك يا دكتور قيس !!
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الثانية :
    وإن الله سبحانه وتعالى حين تعلقت إرادته بعمارة هذا الكون ...(قيس)(المقدمة)
    ( التعليق ) :
    تقدم الكلام على هذه الملاحظة في نقدي لمذكرة الدكتور قيس التي أعدها لطلابه في جامعة الملك فيصل وقلت هناك : إنَّ الأشاعرة وغيرهم كالكلابية والماتريدية لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته ، لأن الله تعالى لا تقوم به الحوادث . وتسمى هذه المسألة عندهم بمسألة : "حلول الحوادث" ، فقالوا بالفرق بين قيام الصفة بالله منذ الأزل وبين قيامها بالله بعد ذلك فقالوا إن إضافتها إلى الله ليست إضافة حقيقية وإنما هي إضافة نسبة وتعلق . قال شيخ الإسلام عن مذهب المتكلمين كالأشاعرة والكلابية : "يقولون هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة , ولا تكون بمشيئته ؛ فأما ما يكون بمشيئته ؛ فإنه حادث , والرب تعالى لا تقوم به الحوادث ويسمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث" اهـ ( مجموع الفتاوى (6/220)
    قال الشيخ "خليل هراس" في شرح الواسطية في معرض حديثه عن صفة الإرادة عند الأشاعرة : " إنهم يثبتون إرادة واحدة في الأزل" اهـ
    (أما أهل السنة والجماعة فيثبتون الإرادةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه ، وأنَّه لم يزلْ مُريدًا بإراداتٍ متعاقِبةٍ ، فنوعُ الإرادةِ قديمٌ ، وأمَّا إرادةُ الشَّيءِ المعيَّنِ إنَّما يريدُه في وقتِه ، قال تعالى :" إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" ... شرح الواسطية للرشيد بتصرف يسير .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الثالثة :
    (...والولي الشعراني والقطب أبو الحسن البكري وكفاه شرفاً بأخذ هذين الشيخين عنه ) (شجرة النور الزكية في طبقات علماء المالكية لمخلوف ) (قيس) ص 6
    ( التعليق ) :
    نقل الدكتور قيس هذا النقل من كتاب شجرة النور الزكية في طبقات علماء المالكية لمحمد بن محمد مخلوف ، وأنا هنا أبين حال هذين الرجلين والذي شرف "زروق" بشرفهما :
    1) الولي الشعراني :
    عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحَنَفي ، نسبه إلى محمد ابن الحنفية ، الشَّعْراني ، أبو محمد الشَّعْراني (898 - 973 هـ من علماء المتصوفين . ولد في قلقشندة (بمصر) ونشأ بساقية أبي شعرة (من قرى المنوفية) وإليها نسبته : (الشعراني، ويقال الشعراوي) وتوفي في القاهرة . له تصانيف ، منها «الأجوبة المرضية عن أئمة الفقهاء والصوفية - خ» و «أدب القضاة - خ» و «إرشاد الطالبين إلى مراتب العلماء العالمين - خ» و «الأنوار القدسية في معرفة آداب العبوديّة – ط ( مختصر من الأعلام للزركلي)
    وله كتاب "الطبقات" حشد فيه قصص الخرافيين والمجذوبين ، أهل الابتداع والتصوف ، ترى فيه إن رأيت الدعوة إلى الشرك بالله تعالى والتعلق بالمقبورين والاستغاثة بهم ودعائهم واعتقاد أنهم يعلمون الغيب ويدبرون أمور الكون ، فمن ذلك مثلاً ما يذكر في الطبقات (2 / 185) في ترجمة سيده شعبان المجذوب ، إذ يقول : " كان من أهل التصريف بمصر المحروسة وكان يخبر بوقائع الزمان المستقبل وأخبرني سيدي علي الخواص رضي الله عنه ان الله تعالى يطلع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنة من رؤية هلالها ، فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوبًا على العباد وكان يقرأ سورًا غير السور التي في القرآن على كراسي المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد ، وكان العامي يظن أنها من القرآن لشبهها بالآيات في الفواصل " اهـ وقال الشعراني أيضاً في الطبقات (2ـ 87) : (الشيخ حسين أبو علي رضي الله عنه ،كان هذا الشيخ رضي الله عنه من كمل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى ، وكان كثير التطورات تدخل عليه بعض الأوقات تجده جنديًا ، ثم تدخل فتجده سبعاً ، ثم تدخل فتجده فيلاً ، ثم تدخل فتجده صبياً وهكذا ، ومكث أربعين سنة في خلوة مسدودة بابها ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء وكان يقبض من الأرض ويناول الناس الذهب والفضة ، وكان من لا يعرف أحوال الفقراء يقول هذا كيماوي سيماوي) ... إلى غير ذلك من القصص التي ينكرها كل عاقل سوي .
    2) وأما أبو الحسن البكري فهو محمد بن محمد جلال الدين البكري مِن كبار أقطابهم ، وكان يضع لهم الصلوات المتنوعة . توفي سنة 952هـ (انظر الأعلام للزركلي)
    فالدكتور قيس – هداه الله – مر على ذكر رجلين من الرجال لهما تاريخ في التصوف والبدعة والخرافة ولم يبين – بعد النقل الذي نقله من كتاب مخلوف - من أمرهما شيئاً ، وهذا يعتبر عند أهل التحقيق إقرار ورضى .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الرابعة :
    فدل على أن كل واضح في معناه – أي الأذكار والأدعية - مستحسن في ذاته يحسن الأخذ عنه سيَّما إن استند به لأصل شرعي ، كرؤيا صالحة أو إلهام ثابت المزية كأحزاب الشاذلي والنووي ونحوهما (زروق) ص 10
    ( التعليق ) :
    من مصادر التلقي عند الصوفية :
    1) الرؤى والمنامات :
    (غالب الصوفية يعتمدون على الرؤيا المنامية في إثبات بدعهم وخرافاتهم ، فالصادق منهم لبس عليه الشيطان بأنه رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في الحقيقة لم يره ، وأما الكذوب فأمـره بين . وقد ذكر العلماء – أي علماء أهل السنة والجماعة - أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام لا يثبت بها حكم شرعي أو يُنْفَى ، لأن الشريعة ثابتة بالأدلة الشرعية المعروفة الظاهرة ، وليست الرؤيا دليلا من هذه الأدلة . ثم قالوا إن من رأى رؤيا فليعرض رؤياه على الشرع ، فإن وافقت مقتضى الشرع فالحكم به ، وتكون الرؤيا من قبيل الاستئناس . وإن كانت مخالفة لأمر شرعي فمحال وباطلة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته ، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي المنامية ، فمن رأى شيئا من ذلك فرؤياه غير صحيحة ، إذ لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حقًا لم يخبره بما يخالف الشرع ، فمن أخبر بما يخالف الشرع واستند إلى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته له فهو أحد رجلين : إما كذوب دجال كابن عربي وأمثاله ، وإما صادق ولكن لبّس الشيطان عليه لقلة علمه فأوهمه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره) . (محبة الرسول بين الاتباع والابتداع) (1/336).
    2) كذلك من مصادر التلقِّي عند الصوفيَّة : "الإلهام" : وهو ما يقع في القلب ويكون من الله تعالى مباشرة دون واسطة ، ولذا جعلوا مقام الصوفي فوق مقام النبي ؛ لأن الوَليَّ – عندهم- يأخذ العلم مباشرةً عن الله تعالى ، وأما الولي يأخذه من الله مباشرة . فيقول أحدهم : "حدثني قلبي عن ربي "، بينما الرسول أو النبيُّ يأخذه من الْمَلَك الذي يوحي به إليه .
    والشاذلي هذا – الذي ذكره المصنف عند قوله : إن استند به لأصل شرعي ، كرؤيا صالحة أو إلهام ثابت المزية كأحزاب الشاذلي - هو : أبو الحسن على بن عبد الله بن عبد الجبار من المتصوفة ، صاحب المدرسة والطريقة الشاذلية ، ينقل الدكتور عبد الحليم محمود نقلاً عن درَّة الأسرار : "لما قدم المدينة زادها الله تشريفًا وتعظيمًا، وقف على باب الحرم من أول النهار إلى نصفه، عريان الرأس ، حافي القدمين، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسئل عن ذلك فقال: حتى يؤذن لي ، فإن الله عز وجل يقول: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلوا بيوتَ النبي إلا أن يؤذَنَ لكم) فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام : يا علي ، ادخل"اهـ وهذا مخالف للعقيدة . ويقول عن نفسه : "لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يكون في غد وبعد غد إلى يوم القيامة" وهذا ادعاءٌ لعلم الغيب وشرك بالله تعالى اهـ ( من كتاب المدرسة الشاذلية الحديثة ـ إمامها أبو الحسن الشاذلي ، للدكتور عبد الحليم محمود) .
    للشاذلي هذا أوراد تسمى "حزب الشاذلي" ، رُوي أنه لما اعترض الفقهاء على حزبه ، قال : "والله لقد أخذته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً بحرف ". ولشيخ الإسلام ابن تيمية رد على حزبه هذا . قال عنه شيخ الإسلام : "كما يوجد فى كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهى مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض ، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما فى حزب الشاذلي . ( مجموع الفتاوى 14/226)
    والدكتور قيس – أصلحه الله - : مر على هذه الجملة من الأصل ، وما كان ينبغي عليه أن يتركها دون تعليق ، وفيها ما فيها من المخالفات الواضحة المخلة بالعقيدة كما رأيت .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الخامسة :
    والخلاص منها - أي الوسوسة – بالتلهي عنها ، والعلم بأن أحداً لن يقدر الله حق قدره وإن عمل ما عمل ، واعتقاد أنه متعبد بعمله لا مكتسب له ... (زروق) ص 20
    ( التعليق ) :
    قوله : "واعتقاد أنه متعبد بعمله لا مكتسب له" : هو قول الجهمية الجبرية القائلين بأن العبد مجبور على فعله غير مكتسب له ، وهذا ضلال بَيِّن مخالف للكتاب والسنة ، قال تعالى : "لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" وقال: " الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ " وقال : " ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" وقال : " لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ " وقال : " فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " وعن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن: فيما العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ قال: ففيم العمل ؟ قال : { اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ } رواه مسلم وفي البخاري نحوه .
    قال شيخ الإسلام في الواسطية : ( والعباد فاعلون حقيقة، والله [ خلق ] أفعالهم، والعبد هو: المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، والمصلي، والصائم ...) ، يقول الشيخ عبد العزيز الرشيد معلقاً على هذه العبارة من كلام شيخ الإسلام : قوله : (والعباد فاعلون ... ) إلخ قال الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي : خلقكم والذي تعملونه ، فدلت على أن أفعال العبد مخلوقة لله ، وعلى أنها أفعال لهم حقيقة ... فقول المصنف : (والعباد فاعلون حقيقة) رد على الجبرية الذين يقولون: إن العبد ليس بفاعل أصلا، بل هو مجبور على أفعاله وواقعة بغير اختياره، وأن الفاعل فيه سواه والمحرك له غيره، فهو آلة محضة، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات المرتعش، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها وشرها، لموافقتها للمشيئة والقدر، وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة لله ومناقضة لكتابه ورسله ودينه) . (التنبيهات السنية للرشيد )
    والدكتور قيس – هداه الله – مر على هذه الجملة من كلام المؤلف في الأصل ولم يعلق عليها ، وفيها طامة من طواف المبتدعة الجهمية . اللهم ثبتنا على الدين حتى نلقاك .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة السادسة :
    ... أشار إلى ذلك أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ... (زروق) ص 50
    ح(3) ص 50 شيخ الطائفة الشاذلية علي بن عبد الله بن عبد الجبار ... قال ابن دقيق العيد : ما رأيت أعرف بالله منه . (شذرات الذهب : 5/278 ، العبر : 3/282 )(قيس)
    ( التعليق ) :
    قد مر شيء من ترجمة أبي الحسن الشاذلي ، ونريد أن نبين هنا : أنْ إذا وجد أحد من أهل العلم المعتبرين – كابن دقيق العيد هنا – يثني على أحد من رؤوس البدعة فإنه يعتذر له بأنه لم يعرف من حاله ما يعرفه الآخرون الذين رووا سيرته ، والذي يقرأ سيرة الشاذلي يقطع أنَّ من مثل ابن دقيق العيد لا يمكن أن يثني ثناءً مطلقاً على الشاذلي .
    والدكتور قيس -سامحه الله- على عادته يمر على سير الصوفية الغلاة ولا يبين بياناً عادلاً شافياً !!
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة السابعة :
    ومن الباطل السحر والطلسمات والعزائم والأشكال والموالد والخط (زروق) ص 57
    ح(6) ص 57-58 علق الدكتور قيس على كلمة (الخط) الواردة من كلام المؤلف قائلاً : ضرب من الكهانة يستدل به على المغيبات عن طريق الخط على الرمل ويسمى علم الرمل وأكثر العلماء على تحريمه ، انظر النووي على مسلم : 5/23 ، وبذل المجهود 5/217-218 ، وأفتى أبو القاسم بن سراج بعدم جواز الصلاة خلف إمام يشتغل به . المعيار : 1/133(قيس)
    ( التعليق ) :
    قول الدكتور قيس : "وأكثر العلماء على تحريمه" فيه تساهل كبير ، يَفهم منه القارئ أن قلة من العلماء أجازوه . فعجبت من هذا وقلت : سبحان الله ! وهل يوجد عالم معتبر يجيز الكهانة – التي هي ادعاء علم الغيب - والتي منها الخط على الرمل للاستدلال على المغيبات ؟؟!! .
    أحال الدكتور - عفا الله عنه - على شرح مسلم وعلى بذل المجهود ليؤكد به على صحة ما ذهب إليه من أن : "أكثر العلماء على تحريمه" ، فلما نظرت في شرح مسلم – ومنه نقل صاحب بذل المجهود - فلم أجد فيه معنى ما قال بل وجدت فيه قول النووي : " فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن "اهـ وفرق بين العبارتين كما لايخفى ، وأنا ناقل هنا قول النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم : " كَانَ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ " ليدرك القارئ الفرق بين العبارتين :
    قال النووي في شرحه على مسلم :
    قوله : " كَانَ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ " اختلف العلماء في معناه فالصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له ، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح ، والمقصود أنه حرام لانه لا يباح إلا بيقين الموافقة وليس لنا يقين بها وإنما قال النبي صلى الله عليه و سلم فيمن وافق خطه فذاك ولم يقل هو حرام بغير تعليق على الموافقة لئلا يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط فحافظ النبي صلى الله عليه و سلم على حرمة ذاك النبي مع بيان الحكم في حقنا فالمعنى أن ذلك النبي لا منع في حقه وكذا لو علمتم موافقته ولكن لا علم لكم بها . وقال الخطابي : هذا الحديث يحتمل النهي عن هذا الخط اذا كان علما لنبوة ذاك النبي وقد انقطعت فنهينا عن تعاطي ذلك . وقال القاضي عياض المختار أن معناه : أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته فيما يقول لا أنه أباح ذلك لفاعله ، قال ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا ، فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن اهـ ( شرح مسلم للنووي (5/27)
    .................................................. ........................................

    *الملاحظة الثامنة :
    ولم يتكلفوا تأويل الصفات (3) السمعية المعارض ظاهرها للمعقول بل يعتقدون كمال التنزيه ونفي التشبيه . (زروق) ص59-60
    ح(3) ص59-60 أي تأويلا تفصيلياً أما التأويل الإجمالي فقد قال الشيخ حسن البنا رحمه الله في العقائد ص 77 : خلاصة هذا البحث أن السلف والخلف قد اتفقوا على أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق وهو تأويل في الجملة اهـ أما تأويلها تفصيلاً فقد نص الذهبي في السير (14/396) على أنها طريقة معروفة . وقال الإمام الشعراني في اليواقيت والجواهر (1/104) : قال جمهور المتكلمين : وما صح في الكتاب والسنة من آيات الصفات وأخبارها نعتقد ظاهر المعنى منه وننزه عند سماع المشكل منه ، كما في قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ونحو ذلك ، ثم اختلفوا : هل يؤل المشكل أم يفوض علم معناه المراد إلى الله تعالى مع تنزيهنا له عن ظاهر اللفظ حال تفويضنا فمذهب السلف التسليم ومذهب الخلف التأويل ثم إنهم اتفقوا سلفاً وخلفاً على أن جهلنا تفصيل ذلك لا يقدح في اعتقادنا المراد منه مجملاً قالوا والتفويض أسلم والتأويل إلى الخطأ أقرب اهـ وقد نقل الإمام السهروردي في آداب المريدين ص 17 : إجماع الصوفية على القول بمذهب السلف ، ولابن تيمية فتوى نص فيها على إجماع السلف على الإيمان بهذه الصفات من غير تفسير لها وأنهم أمروها كما جاءت . وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم عنها (مجموع الفتاوى 4/2-8) وهذا عجيب منه إذ كتبه طافحة بوجوب تفسير آيات الصفات وتأويلها على ظاهرها فأشكل علي أمره رحمه الله فهل كان يقول بهذا ثم رجع عنه أم أنه آخر ما استقر عليه قبل وفاته لكن بساط الأدب يقتضي منا الاعتذار له رحمه الله وهذا هو المنهج الذي أدبنا به علماؤنا رضي الله عنهم ، وقد قال الحافظ الذهبي رحمه الله راداً على ابن خزيمة : وكتابه في التوحيد مجلد كبير وقد تأول في ذلك حديث الصورة فليعذر من تأول بعض الصفات وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل أمنوا وكفوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الإئمة معنا رحم الله الجميع بمنه وكرمه اهـ (سير الأعلام : 14/374-367) (قيس)
    ( التعليق ) :
    في هذه الحاشية وقع الدكتور قيس – أصلحه الله وأرشده – في سقطات كبيرة ، جانب فيها الصواب ووافق أقوال المبتدعة في صفات الله ، نحصر هذه السقطات في أربعة أمور :
    - الأمر الأول : أثبت أن عقيدة السلف التفويض – أي تفويض معاني صفات الله - .
    - الأمر الثاني : ذكر أن شيخ الإسلام له فتوى نص فيها على إجماع السلف على القول بعقيدة التفويض ، ويقول : إن شيخ الإسلام خالف الإجماع بفتاوى أخر تناقض ذلك ، ثم أخذ يتشكك في مذهبه بقوله : هل هو باق على عقيدة التفويض أو أنه رجع عنها ؟ ثم أخذ يعتذر له خطأه - على زعمه- ناقلاً كلام الذهبي في ابن خزيمة : " ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الإئمة ..." ، وبهذا التعليق أوهم القارئ : أن الأمة قاطبة مجمعة على ما ذهب إليه من تفويض الصفات ولم يشذ منهم إلا شخص واحد فقـط هو ابن تيمية .
    - الأمر الثالث : قوله : "أما تأويلها تفصيلاً فقد نص الذهبي في السير (14/396) على أنها طريقة معروفة" فالقارئ عندما يقرأ هذه العبارة يتوهم أن التأويل (صرف اللفظ عن ظاهر معناه) طريقة مشروعة لا عيب على من انتهجها .
    - الأمر الرابع : استشهد على إثبات عقيدة التفويض – والتي ظلم السلف بإلصاقها بهم – بأقوال رجال من المتصوفة أو من غلاتهم . [ وسوف نورد تراجمهم قريباً إن شاء الله ] .
    • أما في الأمر الأول :
    فإني هنا سوف أبين عقيدة السلف في صفات الله بالأدلة وأقوال الأئمة حتى يتبين للقارئ الحق في هذه المسألة : "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" .
    أقول : الحق في صفات الله الواردة في الكتاب والسنة هو : إثباتها بمعانيها الحقيقية المعروفة باللسان العربي والتي خاطبنا الله تعالى به ، وأما كيفية الصفات فلا نعلمها ، هذا هو مذهب سلف الأمة في آيات الصفات وأحاديثها : إثباتها كما جاءت ، مع اعتقاد ما دلت عليه ، من غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، ومن غير تحريف ولا تأويل ولا تفويض ،كما أجاب الإمام مالك رحمه الله السائل - عن قوله تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" كيف استوى ؟ . قال له : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . اهـ فالسلف رحمهم الله يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا مجازًا على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله .
    ومن الأدلة على صفات الله من القرآن والسنة ما يلي :
    - قوله تعالى : "لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
    - وقوله تعالى : "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" . والمثل الأعلى : هو كل صفة كمال .
    - وقوله تعالى : "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"
    - وقوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }
    - وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ :"قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ" فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : "سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ" فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ" رواه البخاري
    - قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : " أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ " متفق عليه
    - وقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع : " أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟" قالوا: نعم . " أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟"، قالوا : نعم. " أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟". قالوا : نعم . وكان يقول: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " يشير إلى السماء بأصبعه ، وينكتها إلى الناس . متفق عليه
    - ومن ذلك أيضاً قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : " أَيْنَ اللهُ ؟" قالت : في السماء فقال : "مَنْ أَنَا ؟" ، قالت : رسول الله . قال: " أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ " . رواه مسلم
    وقد أجمع السلف على ذلك ، فصفة العلو مثلاً – وقد تقدم بعض الأدلة عليها - : مذهبهم فيها إثبات العلو لله على ما يليق بجلاله سواء كان علو الذات أو علو القدر أو علو القهر ، وهذ ه عقيدة أئمة السلف قاطبة ، وقد نقل الصابوني إجماعهم عليها فقال في رسالته في السنة: (ويعتقد أصحاب الحديث ، ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق به كتابه ، وعلماء الأمة , وأعيان الأئمة من السلف ، لم يختلفوا أن الله على عرشه ، وعرشه فوق سمواته) اهـ وقد نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى والذهبي في كتاب " العلو " وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية " وأقروه .
    ومنه قول الإمام الأوزاعي رحمه الله : "كنا والتابعون متوافرون نقول :"إن الله تعالى فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات " رواه البيهقي في " الأسماء و الصفات" بإسناد حسن .
    وقال ابن عبد البر إمام أهل المغرب : "أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ 00 الآية) هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله . اهـ"العقيدة الحموية" لابن تيمية .
    فهذه عقيدة السلف في العلو – والقول في صفة كالقول في بقية الصفات لا يختلف – إثبات على حقيقيته على ما يليق بجلال الله تعالى بلا كيف .
    أما المفوضة فإنهم لا يعتقدون أن الله في السماء ، بل يقولون : "الله أعلم بما أرد" ، فحقيقة عقيدتهم هو التعطيل لأنك ترى أنهم لم يثبتوا لله صفة أبداً ، يقرؤونها – أي الصفات- حروفاً فقط دون أن يكون لها معان فعندهم صفة النزول مثل صفة الاستواء ومثل صفة الكلام ومثل بقية الصفات لا تختلف .
    •الأمر الثاني :
    قول الدكتور قيس -هداه الله - :"ولابن تيمية فتوى نص فيها على إجماع السلف على الإيمان بهذه الصفات من غير تفسير لها وأنهم أمروها كما جاءت وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم عنـها "زاعماً أن هذا من ابن تيمية قول بالتفويض، وذكر أن ذلك موجود في :(مجموع الفتاوى 4/2-8) وقد راجعت الفتاوى في الموطن المشار إليه فتبين لي أن الدكتور نقل من كلام شيخ الإسلام ما يوافق مذهبه وترك ما عداه ، وكان عليه أن يأتي بكلام شيخ الإسلام تأماً ليتبين المراد منه ، وهذا – أيها القارئ - كلام شيخ الإسلام بتمامه لتعلم خطأ الناقل في نقله :
    قال شيخ الإسلام في الفتاوى (4/2-8) : فمن سبيلهم في الاعتقاد :" الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه " التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها ولا تفسير لها ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين ؛ ولا سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا علمها إلى قائلها ؛ ومعناها إلى المتكلم بها ...اهـ
    فيا دكتور ! ما معنى قول شيخ الإسلام "ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها" ؟ معناه : أن لصفات الله الواردة في الكتاب والسنة معاني ظاهرة معروفة معلومة في العربية الفصيحة ، واضحة بينه يفهمها كل عربي لم تؤثر العجمة على لسانه ، ولا يجوز تأويلها بما يخالف معناها الحقيقي .
    وعليه فلو تحريت – يا دكتور قيس - في النقل لفهمت هذا من كلام شيخ الإسلام ولما احتجت أن تتشكك في مذهبه وتقول بعد ذلك : (فأشكل علي أمره رحمه الله فهل كان يقول بهذا ثم رجع عنه أم أنه آخر ما استقر عليه قبل وفاته ؟) ، وسيتبين بعد قليل كيف أن شيخ الإسلام نقض مذهب المفوضة نقضاً قوياً مبرماً وذلك في كتابه الكبير : " الفتوى الحموية" .
    أما نقله أن السلف قالوا في صفات الله (أمروها كما جاءت بلا تفسير) فقولهم هذا قول صحيح لا غبار عليه ، لكن ما هو معناه ؟ هل معناه أن آيات الصفات وأحاديثها ألفاظ لا معاني لها ، و"المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق" كما يذهب إليه الدكتور قيس - أصلحه الله – أو أن معناه : أمروها كما جاءت بمعناها الذي خاطبنا الله به في القرآن الكريم ، وأمرنا أن نتدبره كما في قوله تعالى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وَقَالَ : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } نعم هذا هو المعنى الصواب وغيره باطل مردود .
    أما قولهم – أي السلف - (بلا تفسير) : أي تفسير يخالف ظاهر معنى الصفة ، كما فسرت المعتزلة (الاستواء) على غير ظاهره ، فسرته بالاستيلاء . قال قوام السنة رحمه الله : "فمذهب السلف رحمة الله عليهم أجمعين إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها ، فهذا إجماع معلوم متيقن عند جميع أهل السنة والحديث" كتاب الحجة في بيان المحجة (1/174)
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتوى الحموية : " قوله من غير تفسير" : أراد تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا الصفات بخلاف ما عليه الصحابة والتابعون من الإثبات" اهـ
    وقال في نفس المصدر :" فقولهم : أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان ؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد ؛ أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ بلا كيف ؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول" اهـ .
    ومما يؤيد هذا قول الأئمة فيما ورد عنهم : "أمروها كما جاءت بلا كيف" أي أمروها كما وردت في الكتاب والسنة بالمعنى الظاهر من دون تكييف : الاستواء معلوم – معلوم المعنى - ، والكيف مجهول ، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله : "كل شيء وصف الله نفسه في القرآن فقراءته تفسيره ، لا كيف ولا مثل" (كتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) (3/478)
    وقال الحافظ محمد بن علي الكرجي : كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه به نبيه فهي صفة حقيقية لا مجازاً " تذكرة الحفاظ (3/939)
    ومما يدل أيضاً أن على أن مراد السلف بقولهم : " أمروها كما جاءت" بمعناها الحقيقي - لا التفويض أو التأويل أو التكييف أو التشبيه - ما ورد عن أحمد رحمه الله وهو أحد السلف القائلين بها : قال المروذي قلت لابي عبد لله : إن رجلا قال أقول كما قال الله (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره فقال هذا كلام الجهمية بل علمه معهم فأول الآية يدل على أنه علمه (رواه ابن بطة في كتاب الابانة (2/161)
    وسأورد فصلاً – ملخصاً – من فصول كتاب الحموية لشيخ الإسلام فيه حل لكثير من الإشكالات وجواب نافع بإذن الله لبعض الشبهات ، ومنها : أن المفوضة يورودون على صحة مذهبهم قولـه تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ " يقولون : إن في القُرْآن – كما في هذه الآية - مالا يُعلم معناه ، ومنها آيات الصفات .
    أجاب شيخ الإسلام على هذه الشبهة في كتابه الحموية (تلخيص الشيخ ابن عثيمين) :
    (وأما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف .
    وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من نصوص الصفات ألفاظ مجهولة لا يعرف معناها حتى النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بأحاديث الصفات ولا يعرف معناها .
    ثم هم مع ذلك يقولون : ليس للعقل مدخل في باب الصفات .
    فيلزم على قولهم أن لا يكون عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة السلف في هذا الباب علوم عقلية ولا سمعية وهذا من أبطل الأقوال .
    وطريقتهم في نصوص الصفات إمرار لفظها مع تفويض معناها ومنهم من يتناقض فيقول : تُجرى على ظاهرها مع أن لها تأويلاً يخالفه لا يعلمه إلا الله . وهذا ظاهر التناقض فإنه إذا كان المقصود بها التأويل الذي يخالف الظاهر وهو لا يعلمه إلا الله فكيف يمكن إجراؤها على ظاهرها ؟
    وقد قال الشيخ رحمه الله عن طريقة هؤلاء في كتاب ( العقل والنقل) (1/121) : "فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد " أ هـ.
    والشبهة التي احتج بها أهل التجهيل هي وقف أكثر السلف على { إِلاَّ اللَّهُ } من قوله تعالى : "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }. وقد بنوا شبهتهم على مقدمتين :
    - الأولى : أن آيات الصفات من المتشابهة .
    - الثانية : أن التأويل المذكور في الآية : هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر فتكون النتيجة أن لآيات الصفات معنى يخالف ظاهرها لا يعلمه إلا الله.
    والرد عليهم من وجوه :
    • الأول : أن نسألهم ماذا يريدون بالتشابه الذي أطلقوه على آيات الصفات. أيريدون اشتباه المعنى وخفاءه، أم يريدون اشتباه الحقيقة وخفاءها ؟ فإن أرادوا المعنى الأول وهو مرادهم فليست آيات الصفات منه لأنها ظاهره المعنى، وإن أرادوا المعنى الثاني فآيات الصفات منه لأنه لا يعلم حقيقتها وكيفيتها إلا الله تعالى : وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق التشابه على آيات الصفات بل لابد من التفصيل السابق .
    • الثاني : أن قولهم : " إن التأويل المذكور في الآية هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر" غير صحيح ، فإن هذا المعنى للتأويل اصطلاح حادث لم يعرفه العرب والصحابة الذين نزل القرآن بلغتهم، وإنما المعروف عندهم أن التأويل يراد به معنيان :
    1) إما التفسير ويكون التأويل على هذا معلوماً لأولي العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله" وعليه يحمل وقف كثير من السلف على قوله تعالى: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } من الآية السابقة.
    2) وإما حقيقة الشيء ومآله وعلى هذا يكون تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر غير معلوم لنا، لأن ذلك هو الحقيقة والكيفية التي هو عليها وهو مجهول لنا كما قاله مالك وغيره في الاستواء وغيره، وعليه يحمل وقف جمهور السلف على قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } من الآية السابقة .
    • الوجه الثالث: أن الله أنزل القرآن للتدبر، وحثنا على تدبره كله ولم يستثن آيات الصفات، والحث على تدبره يقتضي أنه يمكن الوصول إلى معناه وإلا لم يكن للحث على تدبره معنى، لأن الحث على شيء لا يمكن الوصول إليه لغو من القول ينزه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وهذا - أعني الحث على تدبره كله من غير استثناء- يدل على أن لآيات الصفات معنى يمكن الوصول إليه بالتدبر، وأقرب الناس إلى فهم ذلك المعنى هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولأنهم أسرع الناس إلى امتثال الحث على التدبر خصوصاً فيما هو أهم مقاصد الدين . وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهما كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعاً. فكيف يجوز مع هذا أن يكونوا جاهلين بمعاني نصوص الصفات التي هي أهم شيء في الدين؟!
    • الرابع : إن قولهم يستلزم أن يكون الله قد أنزل في كتابه المبين ألفاظاً جوفاء لا يبين بها الحق، وإنما هي بمنزلة الحروف الهجائية والأبجدية، وهذا ينافي حكمة الله التي أنزل الله الكتاب وأرسل الرسول من أجلها .
    تنبيه: علم مما سبق أن معاني التأويل ثلاثة :
    - أحدها : التفسير وهو إيضاح المعنى وبيانه ، وهذا اصطلاح جمهور المفسرين ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : " اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ " رواه أحمد ، وهذا معلوم عند العلماء في آيات الصفات وغيرها.
    - الثاني: الحقيقة التي يؤول الشيء إليها، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة كما قال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فتأويل آيات الصفات بهذا المعنى هو الكنه والحقيقة التي هي عليها، وهذا لا يعلمه إلا الله .
    - الثالث : صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر، وهو اصطلاح المتأخرين من المتكلمين وغيرهم. وهذا نوعانِ صحيحٌ وفاسدٌ.
    فالصحيح ما دل الدليل عليه مثلُ تأويل قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) إلى أن المعنى إذا أردت أن تقرأ . والفاسد ما لا دليل عليه ، كتأويل استواء الله على عرشه باستيلائه، ويده بقوته ونعمته ، ونحوِ ذلك . اهـ (من مختصر الحموية للشيخ ابن عثيمين )
    • الأمر الثالث :
    الدكتور قيس – هداه الله – عندما أورد قوله : "أما تأويلها تفصيلاً فقد نص الذهبي في السير (14/396) على أنها "طريقة معروفة"" أوهم القارئ أن التأويل طريقة مشروعة ، وقد اجتزأ من كلام الذهبي هذه العبارة وتركها مطلقة موهمة لم يبين معناها ، فلما رجعت إلى كلام الذهبي في السير في ترجمة السرَّاج محمد ين إسحاق وجدت ما يلي : (أخبرنا إسماعيل بن إسماعيل في كتابه، أخبرنا أحمد بن تميم اللبلي ببعلبك ، أخبرنا أبو روح بهراة ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن محمد الخفاف، حدثنا أبو العباس السرَّاج إملاء ، قال : من لم يقر بأن الله - تعالى – يعجب ، ويضحك ، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ، فيقول: (مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ) ، فهو زنديق كافر يستتاب ، فإن تاب ، وإلا ضربت عنقه ، ولا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين .
    قلت – أي الذهبي - : لا يكفر إلا إن علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – قاله ، فإن جحد بعد ذلك ، فهذا معاند - نسأل الله الهدى - وإن اعترف إن هذا حق ، ولكن لا أخوض في معانيه ، فقد أحسن ، وإن آمن ، وأول ذلك كله ، أو تأول بعضه ، فهو طريقة معروفة) اهـ
    فالذهبي هنا فصَّل الأحكام على ثلاثة أحوال : الجحود ، والإثبات ، والتأويل ، فقال في الجحود : إنه كفر ، وقال في الإثبات -إثبات المعنى الحقيقي دون التعرض لتفسيرات وتأويلات المعتزلة الباطلة- : إنه إحسان ، وقال في التأويل : إنها طريقة معروفة فلم يبين حكمها للعلم بها .
    وجادة أهل العلم عندما يشكل شيء من كلام إمام من الأئمة فإنه يرجع إلى الصريح من قوله ، وهو ما يسمى برد المتشابه إلى المحكم ، والعجب أن الدكتور أورد كلام الذهبي بنصه القاطع على إبطال التأويل في نفس التعليق فياليته تأمل قليلاً ليدرك الأمر حتى لا يوقع الآخرين في حيرة وشك ، قال : قال الذهبي في ترجمة ابن خزيمة : (وكتابه في التوحيد مجلد كبير وقد تأول في ذلك حديث الصورة فليعذر من تأول بعض الصفات وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا ...) اهـ (14/375-376)
    وقال في ترجمة ابن الجوزي : (ثم لما ترعرع ، حملته عمته إلى ابن ناصر، فأسمعه الكثير، وأحب الوعظ، ولهج به، وهو مراهق، فوعظ الناس وهو صبي، ثم ما زال نافق السوق معظمًا متغاليًا فيه، مزدحمًا عليه، مضروبًا برونق وعظه المثل، كماله في ازدياد واشتهار، إلى أن مات -رحمه الله وسامحه- فليته لم يخض في التأويل، ولا خالف إمامه ). (سير أعلام النبلاء 21/368) فتبين مما لا مجال للشك فيه أن الذهبي ممن يبطل التأويلات ويراها أنها ليست على طريقة السلف بل هي على طريقة الخلف المذمومة .
    قال الإمام الشنقيطي رحمه الله : (أمّا حمل اللفظ على غير ظاهره لا لدليل : فهذا لا يسمى تأويلاً في الإصطلاح بل يسمى لعباً لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومن هذا تفسير غلاة الرافضة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، قالوا: عائشة ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان كقولهم استوى بمعنى استولى فهذا لا يدخل في اسم التأويل لأنه لا دليل عليه البتة وإنما سمي في اصطلاح أهل الأصول لعباً . لأنه تلاعب بكتاب الله جل وعلا من غير دليل ولا مستند فهذا النوع لا يجوز لأنه تهجم على كلام رب العالمين والقاعدة المعروفة عند علماء السلف أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله ولا سنة رسوله عن ظاهره المتبادر منه إلاّ بدليل يجب الرجوع إليه ) (الأسماء والصفات نقلاً وعقلاً/ ص22) .
    وقد يتبادر إلى ذهن من لا علم عنده أن الذهبي – وذلك من بعض النقول التي نقلت عنه – يقول بالتفويض وهذا باطل أيضاً ، بل إن الإمام الذهبي على جادة أهل السنة في الأسماء والصفات ، انظر إلى قوله في كتاب العلو : (وكما قال سفيان وغيره ، قراءتها تفسيرها ، يعني أنها بينة معروفة واضحة في اللغة لا يبتغى بهامضائق التأويل والتحريف وهذا هو مذهب السلف مع اتفاقهم أنها لا تشبه صفات البشر بوجه إذ الباري لا مثل له في ذاته ولا في صفاته ) اهـ
    ومما ينبغي أن ينبه عليه هنا أن قول الذهبي : ( ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الإئمة معنا رحم الله الجميع بمنه وكرمه ) اهـ (سير الأعلام : 14/376) لا يعطي البراءة لكل عالم إذا أخطأ في اجتهاده ، بل يصرف قول الذهبي هنا إلى أولئك العلماء الكبار الذين ثبتوا على الطريقة المحمودة ؛ طريقة السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ، وإنما وقعوا - عن اجتهاد - في أخطاء يسيرة جداً ، فإنهم لا يتابعون على أخطائهم مع الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ، أما من كان صوفياً خرافياً أو ضالاً حلولياً أو داعية إلى بدعته فإن هذا لا ينطبق عليه كلام الذهبي ، فانظر مثلاً لما تكلم في ابن الفارض – بعد ما أورد بعض قصائده الاتحادية - قال : (فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده ، فما في العالم زندقة ولا ضلال ، اللهم ألهمنا التقوى ، وأعذنا من الهوى ، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله ؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله) . (سير أعلام النبلاء (22/368)
    وانظر أيضاً في ترجمة عبد المجيد بن الإمام عبد العزيز بن أبي رواد (سير أعلام النبلاء (9/436) قال : (وقال أبو داود: كان عبد المجيد رأسًا في الإرجاء . وقال يعقوب بن سفيان: كان مبتدعًا ، داعية .
    قال سلمة بن شبيب : كنت عند عبد الرزاق ، فجاءنا موت عبد المجيد، وذلك في سنة ست ومائتين ، فقال: الحمد لله الذي أراح أمة محمد من عبد المجيد . قال ابن عدي : عامة ما أنكر عليه الإرجاء
    وقال هارون بن عبد الله الحمال : ما رأيت أخشع لله من وكيع، وكان عبد المجيد أخشع منه .
    قلت – أي الذهبي-: خشوع وكيع مع إمامته في السنة ، جعله مقدمًا، بخلاف خشوع هذا المرجئ - عفا الله عنه - أعاذنا الله وإياكم من مخالفة السنة ، وقد كان على الإرجاء عدد كثير من علماء الأمة ، فهلا عد مذهبًا ، وهو قولهم : أنا مؤمن حقا عند الله الساعة ، مع اعترافهم بأنهم لا يدرون بما يموت عليه المسلم من كفر أو إيمان ، وهذه قولة خفيفة ، وإنما الصعب من قول غلاة المرجئة : إن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة ، وإن تارك الصلاة والزكاة ، وشارب الخمر، وقاتل الأنفس، والزاني، وجميع هؤلاء، يكونون مؤمنين كاملي الإيمان، ولا يدخلون النار، ولا يعذبون أبدًا . فردوا أحاديث الشفاعة المتواترة، وجسروا كل فاسق وقاطع طريق على الموبقات - نعوذ بالله من الخذلان ) اهـ(سير أعلام النبلاء (9/437)
    فهنا الذهبي بدَّعه وقال : "المرجئ" ، ولم يقل في ابن خزيمة مثلاً " المعتزلي" بل اعتذر له ودعا له ، مع البراءة مما وقع فيه من خطأ .
    • الأمر الرابع :
    الغريب من الدكتور قيس استشهاده على أمور العقيدة بأقوال أناس ليسوا أصلاً من العلماء الذين يعتد بأقوالهم في العلم فضلاً عن العقيدة كحسن البنا ، والشعراني ، فـ :
    1) أما حسن البنا : فهو إنسان اجتهد في إصلاح الناس ودعوتهم بطريقة خاصة به ، ومع هذا كان صوفياً على طريقة الصوفية الحصافية . يقول / أبو الحسن الندوي في كتابه : ( التفسير السياسي للإسلام ص 138-139) : " الشيخ حسن البنا ونصيب التربية الروحية في تكوينه وفي تكوين حركته الكبرى : إنه كان في أول أمره - كما صرح بنفسه - في الطريقة الحصافية الشاذلية ، وكان قد مارس أشغالها وأذكارها وداوم عليها مدة ، وقد حدّثني كبار رجاله وخواص أصحابه أنه بقي متمسكاً بهذه الأشغال والأوراد إلى آخر عهده وفي زحمة أعماله " وكان إعجابه ومواظبته على وردها المعروف " بالوظيفة الرزوقية " صباحاً ومساءً تبعاً لاتجاه والده . اهـ
    ويقول عن مذهبه في صفات الله : " فهم يثبتون اليد والعين والأعين والاستواء والضحك والتعجب ... الخ وكل ذلك بمعان لا ندركها " (مجموع رسائل حسن البنا ص 392)
    2) وأما الشعراني : فهو رأس في التصوف الغالي ، من أراد أن يعرف الشعراني وصوفيته فليقرأ كتبه أمثال (طبقات الشعراني) وغيرها ليعرف حقيقته .
    ومن أمثلة ذلك يقول يقول الشعراني في طبقاته : "إن شيخي أخذ على العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد البدوي ، وسلمني إليه بيده ، فخرجت اليد الشريفة من القبر (يذكر الصاوي في حاشيته على شرح الخريدة للدردير، أن الرفاعي وقف تجاه قبر الرسول، وناجاه بهذين البيتين :
    في حالة البعد روحي كنت أرسلها…تقبل الأرض عني، وهي نائبتي
    وهذه دولة الأشباح، قد حضرت……فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي!!
    قالوا : فخرجت اليد من القبر، ويظهر أن الشعراني أبى إلا أن تكون له ولسيده البدوي تلك الكرامة!!) (هذه هذه الصوفية لعبد الرحمن الوكيل)
    فهل تأخذ يا دكتور قيس العقيدة من أمثال الشعراني وعنده ما عنده من ضلالات وبدع الصوفية الشيء الكثير ؟!
    فقول الشعراني : "ثم اختلفوا : هل يؤل المشكل أم يفوض علم معناه المراد إلى الله تعالى مع تنزيهنا له عن ظاهر اللفظ حال تفويضنا فمذهب السلف التسليم ومذهب الخلف التأويل ثم إنهم اتفقوا سلفاً وخلفاً على أن جهلنا تفصيل ذلك لا يقدح في اعتقادنا المراد منه مجملاً قالوا والتفويض أسلم والتأويل إلى الخطأ أقرب اهـ
    هذا الكلام الذي نقله الدكتور قيس راضياً به صريح بأن صاحبه من الأشاعرة المفوضة .
    وكلمة " السلف" التي أتى بها الشعراني في قوله : "فمذهب السلف التسليم "، وأتى بها أيضاً الدكتور قيس بقوله : "وقد نقل الإمام السهروردي في آداب المريدين ص 17 : إجماع الصوفية على القول بمذهب السلف" ، فقولهما "السلف" هنا ، إلصاق بمذهبهم بما هم برءاء منه ، وإلا مذهب السلف كما عرفت إثبات المعنى على ما يليق بجلاله تعالى بلا تشبيه ، وتنزيه بلا تعطيل .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة التاسعة :
    ولم يتكلفوا تأويل الصفات السمعية المعارض ظاهرها للمعقول (1) بل يعتقدون كمال التنزيه ونفي التشبيه . (زروق) ص60
    ح(1) ص60 لأن الأخذ بالظاهر تجسيم وتشبيه وظاهر اللفظ هو ما وضع له فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة وهكذا وأما مذهب السلف فليس أخذها على ظاهرها ولكن السكوت جملة عن البحث فيها اهـ من كتاب العقائد للشيخ حسن البنا : ص :71 نقلاً عن ابن الجوزي . (قيس)
    ( التعليق ) :
    سوف نقف عدة وقفات مع عبارة المؤلف ( زرُّوق) والمعلق (الدكتور قيس) :
    • الوقفة الأولى :
    قول المصنف : "ولم يتكلفوا تأويل الصفات السمعية المعارض ظاهرها للمعقول بل يعتقدون كمال التنزيه ونفي التشبيه" :
    - أولاً : نريد أن نبين أن الصفات تنقسم من حيث ثبوتها في الكتاب والسنة إلى قسمين :
    - صفات خبرية (سمعية) : وهي الصفات التي ثبتت عن طريق الخبر عن الله جلَّ وعلا أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، مثل : الوجه ، الفرح ، الضحك .
    - صفات عقلية : وهي الصفات التي ثبتت عن طريق الخبر عن الله جلَّ وعلا أو عن رسوله  وثبتت أيضاً عن طرق العقل الصحيح ، مثل : العلم ، والسمع ، والبصر ، والإرادة .
    فأهل السنة ولجماعة بثبتون جميع الصفات بدون استثناء اثباتاً حقيقياً على ما يليق بجلال الله تعالى بلا تشبيه وتنزيهاً بلا تعطيل " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " وكذلك (الأشاعرة المتقدمون يثبتون صفات الله تعالى دون تفريق بين الخبرية والعقلية ، وينفون الصفات الاختيارية – المتعلقة بالمشيئة-، أما المتأخرون منهم فلا يثبتون من صفات الله إلا سبعاً – لدلالة العقل كما زعموا عليها - وهي : السمع والبصر والعلم والكلام والقدرة والإرادة والحياة ، ويؤولون الصفات الخبرية أو يفوضونها ، وينفون الصفات الاختيارية) . (انظر مجموع الفتاوى 3/228، و4/167) مع ملاحظة أن طريقة الأشاعرة في الإثبات تخالف طريقة أهل السنة ، انظر طريقتهم مثلاً في إثبات صفة الكلام لتعرف الفرق بين الطريقتين .
    - ثانياً : وعبارة المصنف : "ولم يتكلفوا تأويل الصفات السمعية المعارض ظاهرها للمعقول..." : تشعر بأنه يقسم الصفات السمعية إلى صفات يوافق ظاهرها المعقول ، وصفات يعارض ظاهرها المعقول ، وهذا من المصنف خطأ ظاهر لأن : ( المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط ، و ما تنازع فيه الناس فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها ، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار ، كمسائل التوحيد والصفات ، ومسائل القدر ، والنبوات ، والمعاد ، وغير ذلك و ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه السمع ، والذي يقال إنه يخالفه ؛ إما حديثٌ موضوع ، أو دلالة ضعيفة ، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح فكيف إذا خالفه صريح المعقول ) ( درء تعارض العقل و النقل ، لابن تيمية (1/ 147)
    • الوقفة الثانية :
    قول المصنف : "... بل يعتقدون كمال التنزيه ونفي التشبيه" : أرى أن هذه عبارة قاصرة لا تفي بالغرض ، لأن أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ينفون عنه سبحانه صفاته تعالى زاعمين أنهم ينزهونه والأمر ليس كما زعموه فإن التنزيه لا يكون بنفي صفة الكمال . والتنزيه الذي عند أهل السنة والجماعة ودل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة هو تنزيه الله تعالى من صفات النقص بلا تعطيل للصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم .
    وتصويب العبارة أن يقال : كمال التنزيه بلا تعطيل ، وإثبات الصفات على المعنى الحقيقي بلا تشبيه
    • الوقفة الثالثة :
    قول الدكتور قيس – ناقلاً عن البنا في رسالته :"العقائد" - : "الأخذ بالظاهر تجسيم وتشبيه وظاهر اللفظ هو ما وضع له فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة " عبارة خاطئة ، وقبل أن أرد عليها ، أقـول :
    * ما معنى كلمة "الظاهر" أو"ظاهر اللفظ" ؟ :
    من المعلوم المتقرر أن الله أنزل علينا القرآن بلغة العرب لكي نفهمه ونتدبره ، قال تعالى : "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " ، وقال : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ " وقال : "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ"
    قال شيخ الإسلام : (الظاهر ما كان متلقى في اللفظ على طريق المقتضى وذلك مما يتداوله أهل الخطاب بينهم حتى ينصرف مطلقه عند الخطاب إلى ذلك عند من له أدنى ذوق ومعرفة بالخطاب العربي واللغة العربية وهذا كما نقول في ألفاظ الجموع وأمثالهم : إن ظاهر اللفظ يقتضي العموم والاستغراق وكما نقوله في الأمر إن ظاهره : الاستدعاء من الأعلى للأدنى يقتضي الوجوب إلى أمثال ذلك مما يرجع فيه إلى الظاهر في المتعارف) بيان تلبيس الجهمية (1/37)
    ويقول الشيخ محمد بن عثيمين : " ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وهو يختلف بحسب السياق ، وما يضاف إليه الكلام ، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق ، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه .
    فلفظ (القرية) مثلاً يراد به القوم تارة ، ومساكن القوم تارة أخرى .
    فمن الأول : قوله تعالى: "وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً"
    ومن الثاني : قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم : "إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ".
    وتقول : صنعت هذا بيديَّ ، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}، لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له ، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به ، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق ، أو بالعكس .
    وتقول : ما عندك إلا زيد ، وما زيد إلا عندك فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى، مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فتغير المعنى به . (فتاوى العقيدة 3/298-302) باختصار .
    فـ: (إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني .
    وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام :
    القسم الأول : من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقا يليق بالله عز وجل ، وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والذين لا يَصْدُقُ لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم .
    وقد أجمعوا على ذلك ، كما نقله ابن عبد البر فقال : "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" اهـ ....
    القسم الثاني : من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله ، وهو التشبيه ، وأبقوا دلالتها على ذلك . وهؤلاء هم المشبهة ، ومذهبهم باطل ، محرم ...
    القسم الثالث : من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله ، وهو التشبيه ، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله . وهم أهل التعطيل، سواء كان تعطيلهم عاما في الأسماء والصفات، أم خاصا فيهما، أو في أحدهما. فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم ، واضطربوا في تعيينها اضطرابا كثيرًا ، وسموا ذلك تأويلاً وهو في الحقيقة تحريف.
    ومذهبهم باطل من وجوه :
    • أحدها : أنه جناية على النصوص، حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له.
    • الثاني : أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره. والله تعالى خاطب الناس بلسان عربيٍ مبين ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر ، فوجب حمل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي، غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله عز وجل.
    • الثالث : أن صرف كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله بلا علم، وهو محرم لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، ولقوله سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فالصارف لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم، وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:
    1) الأول : أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كذا، مع أنه ظاهر الكلام.
    2) الثاني : أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام. وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قولٌ بلا علم، فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام ؟ مثال ذلك : قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} فإذا صرف الكلام عن ظاهره وقال : لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين، وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟ وما دليلك على ما أثبت ؟ فإن أتى بدليل وأنّى له ذلك ، وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته ...)(فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين 3/298-302) باختصار .
    بعد هذه النقول يتبين القارئ خطأ ما ذهب إليه الدكتور قيس – أصلحه الله- مقلداً فيه البنا وابن الجوزي من أن : "ظاهر اللفظ هو ما وضع له فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة " ، وأتساءل – متعجباً من الدكتور قيس – وأقول : ألا يوجد مشتركات في الألفاظ تتفق لفظاً وتختلف كيفية ؟!!
    بلى يوجد وهو كثير ، ومثاله : ما ذكره الله في كتابه مما أعده من نعيم لعباده المتقين في قوله : " فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ [فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ] " رواه البخاري ، ويصدق ذلك – على أحد التفاسير - قوله تعالى : " وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً " : متشابها في الاسم مختلف في اللون والطعم والشكل .
    وأسأل أيضاً الدكتور قيس – هداه الله - : لفظة (العين) هل وضعت للعين المبصرة ، أو للعين الحاسدة أو لعين البئر ؟ فلا بد أن يكون جوابك : كل وما يخصه ؛ تطلق على معانٍ كثيرة منها : العَيْن لكل ذي رُوح يُبْصِر بها، والعَيْن التي تُصِيب الإنسانَ، وفي الحديث: "الْعَيْنُ حَقٌّ"، والعين : عين الماء . والعين : عين البئر... إلخ ، فإذا كان هذا التباين في المخلوقات فالخالق جل وعـلا أولى " وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ " .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (فإن الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات ، من أصناف المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماء ولحماً وفاكهة وحريراً وذهباً وفضة وحوراً وقصوراً . وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء" فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى -فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق. وهذا بين واضح) (الرسالة التدمرية)
    وإذا أطلقت صفة العلم ، فعلى القاعدة – أيها الدكتور - التي تابعت فيها البنا وابن الجوزي فستقـول :
    ظاهر اللفظ هو ما وضع له فلا معنى للعلم حقيقة إلا علم الإنسان ، فستنفي عنه صفة العلم بالتفويض أو التأويل وفي كلا الأمرين وقعت في التعطيل ، والسلامة أن تقول – ولا بد – علم الله لا كعلم الإنسان – علم الله صفة ذاتية خاصة به كما تليق بجلاله ، وعلم الإنسان خاص به . (قال الله عن نفسه : " إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً " وقال عن الإنسان: " إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " ونفى أن يكون السميع كالسميع والبصير كالبصير فقال: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " وأثبت لنفسه علماً وللإنسان علماً فقال عن نفسه: " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ " وقال عن الإنسان : " فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " وليس علم الإنسان كعلم الله تعالى : فقد قال الله عن علمه: " وسع كل شيء علماً " وقال: " إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ " وقال عن علم الإنسان: " وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا "...) (تقريب التدمرية لابن عثيمين) . وقل مثل هذا في جميع الصفات .
    وأظن أن القوم ما أوتوا إلا من قبل عدم تفريقهم بين ظاهر اللفظ والكيفية ، فلو فرقوا بينهما سلموا من الانحراف في هذا الباب . فـ :
    - ظاهر اللفظ هو : ما يتبادر إليه الذهن من المعاني التي تقتضيها لغة العرب .
    - وأما الكيفية فهي الحالة التي يكون عليها الموصوف ، وهذه لا تتحقق إلا بالمشاهدة ، فالله تعالى لا يعرف كيف هو إلا هو سبحانه ، وهذا من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها ، ولم نكلف إلا أن نفهم خطاب الله لنا بالمعنى الذي أمرنا أن نفهمه به وهو لغة العرب ، وأما الكيفية فهي مجهولة لنا ، وما أوروع جواب مالك لما سئل عن الاستواء : " الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة" .
    فهل بعد هذا – يا دكتور قيس – من فهم المعنى على حقيقته وآمن به كما أراد الله منا ورسوله ، وأحال علم الكيفية إلى الله سبحانه يكون مجسماً أو مشبهاً ؟
    وهل تعلم يا دكتور قيس بتفويضك معنى صفات الله تكون قد عطلته عن صفاته كلها ، ولم تجعل له أي صفة تليق به ، بل بهذه العقيدة شابهت الجهمية والمشبهة في اعتقادهم في صفات الله ؛ فبالتفويض شبهت صفات الله بخلقه ثم أردت تنزيهه عن ذلك فعطلت ، و إثبات صفات الله يلزم منه الإيمان بما تدل عليه من معان ، وأهل التفويض آمنوا بالألفاظ مجردة عن المعاني ؛ فصفة العلو مثلاًلم يثبتوها كما أثبتها أهل السنة لأنهم لا يعرفون معناها كما زعموا فوقعوا في التعطيل شعروا أو لم يشعروا .
    ألا تعلم يا دكتور قيس أن مذهب التفويض شر المذاهب وقد سمى أهل العلم أهله بأهل التجهيل لأن مذهبهم يتضمن تجهيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ومن تبعهم بإحسان وأنهم لا يعرفون معاني نصوص الصفات .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
    (وأما التفويض ، فإن من المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبّر القرآن ، وحضّنا على عقله وفهمه ، فكيف يجوز مع ذلك أن يُراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله ؟ وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا، أنه لم يبيّن الحق ، ولا أوضحه ، مع أمره لنا أن نعتقده ، وأن ما خاطبنا به ، وأمرنا باتباعه ، والردّ إليه لم يبيّن به ولا كشفه ، بل دلّ ظاهره على الكفر والباطل ، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً ، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه ، وهذا كله مما يُعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه... )(درء تعارض العقل والنقل 1/ 201 ، 202 )
    وقال أيضاً :
    (فعلى قول هؤلاء – أي المفوضة- يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ، ولا الملائكة ، ولا السابقون الأولون ، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن ، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه ، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه . ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء ، إذ كان الله أنزل القرآن ، وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس ، وأمر الرسول أن يبلّغ البلاغ المبين ، وأن يبيّن للناس ما نزل إليهم ، وأمر بتدبر القرآن وعقله ، ومع هذا فأشرف ما فيه - وهو ما أخبر الرب عن صفاته - لا يعلم أحد معناه ، فلا يعقل ولا يتدبر ، ولا يكون الرسول بيّن للناس ما نزل إليهم ... فتبيّن أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) . (الدرء 1/204-205) .
    • الوقفة الرابعة :
    واضح لكل ذي بصيرة أن البنا – عفا الله عنه - في رسالته " العقائد " منتحل مذهب التفويض وقد اعتمد فيها على رسالة لابن الجوزي :"دفع شبه التشبيه" وهو كتاب ألفه ابن الجوزي – سامحه الله- على مذهب أهل الأهواء اشتمل على التحريف والتعطيل والتأويل والتفويض .
    وابن الجوزي حنبلي المذهب في الفروع أما الأصول فهو على طريقة المتكلمين وقد خالف إمامه الإمام أحمد رحمه الله في العقيدة ، ( فليته لم يخض في التأويل، ولا خالف إمامه ) (سير أعلام النبلاء 21/368)
    وكان يرد على الحنابلة ويقول : إثباتكم للصفات يعني التمثيل والتشبيه والتجسيم ، ويرى بعض العلماء أنه كان مضطرباً في منهجه فقد وجد في بعض مؤلفاته ما يوافق أهل السنة والحديث في إثبات الصفات ، و شيخ الإسلام يرى أنه : (يميل إلى مذهب المعتزلة كثيراً فهو بين النفي والإثبات وتناقضه ظاهر ، فلم يثبت على أحدهما، وله من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أثبت به كثيراً من الصفات التي أنكرها في مصنفاته الأخرى ، خاصة في كتاب دفع شبه التشبيه) وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله عن هذا الكتاب أنه لم يكن المقصود به الرد على جنس الحنابلة ، بل كان الرد على بعضهم كالقاضي أبي يعلى رحمه الله وأبي عبد الله بن حامد وابن الزاغوني) (دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية للغصن /ص187) .
    فإذا كانت هذه حالة ابن الجوزي رحمه الله فإنه لا يؤخذ عنه هذا العلم أبداً ، ولا يستشهد بأقواله المخالفة في إثبات المسائل العقدية ؛لأن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق ، فانتبه لذلك يا دكتور قيس وإياك والزلل !!
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة العاشرة :
    ومن القبيح ما يقع للعوام ، وينبغي للطالب ، بل يجب التحرز منه ، ألفاظ منها :
    قولهم ، عند وقوع نازلة أو اعتراض عارض : أي شيء عملت تحت الله ، وهذا مع كونه مشعراً بالجهة (5) ، مؤذن باعتقاد نسبة الظلم إلى الله تعالى . ص61
    ح(5) ص61 الصحيح أن القائل بالجهة لا يكفر ، نص على ذلك العز بن عبد السلام ، في قواعد الأحكام : 1/171 وعلله بقوله : إن الشرع إنما عفا عن المجسمة ، لغلبة التجسيم على الناس فإنهم لا يفهمون موجوداً في غير جهة ... اهـ (قيس)
    ( التعليق ) :
    الدكتور قيس أتى بهذا التعليق وهو قوله :"القائل بالجهة لا يكفر" ولم يفصل متابعاً فيه المصنف "زروق" ، والتفصيل في ذلك أن يقال :
    لفظ :" الجهة" : لا يصح إطلاقه على الله تعالى - نفياً أو إثباتاً - ، بل لابد من التفصيل ؛ لأن هذا اللفظ يحتمل حقاً وباطلاً . فإن أريد بهذا اللفظ :
    •جهة سفل .
    •أو أنه ليس في جهة بل هو في جميع الجهات .
    •أو أنه في جهة علو محاط بالجهات .
    •أو أنه حالٌّ في خلقه ، وأنه بذاته في كل مكان .
    فإن ذلك كله باطل ممتنع على الله ، منتفٍ في حقه ، والقائل به مبتدع ضال .
    •وإن أريد بالجهة أنه في جهة علوٍّ تليق بجلاله وعظمته ، من غير إحاطة به ، ومن غير أن يكون محتاجاً لأحد من خلقه فإن ذلك حق ثابت له ، ومعنى صحيح دلت عليه نصوص الكتاب والسنة قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، وقال تعالى : " أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ "رواه البخاري ، فصفة العلو أوالفوقية : صفة ذاتية لله تعالى ، ثابتة له بالكتاب والسنة ، وإجماع الصحابة وأتباعهم باحسان من أهل السنة والجماعة .
    قال شيخ الإسلام في الحموية :
    "إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له: إن الله مستو على عرشه كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " وقد قال الله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " وقال: " بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ " وقال: " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ " وقال تعالى حكايةً عن فرعون: " يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا " كذَّب موسى في قوله : إن الله فوق السماوات، وقال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ " فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، فكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، ليس إذا قال: " أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى أن الله - عز وجل - ذكر السماوات فقال : " وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا "فلم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعًا . ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله على العرش الذي فوق السماوات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض اهـ
    ( وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين ، أن الله تبارك وتعالى على عرشه ، فوق سمواته ، بائن من خلقه ، وعلمه محيط بجميع خلقه ، لا يأبى ذلك وينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية) اهـ (الإبانة (3/136)
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً : (فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقًا، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه ، كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه، ونحو ذلك وقد علم أن ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته .
    فيقال لمن نفي الجهة : أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلًا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات، وكذلك يقال لمن قال الله : في جهة أتريد بذلك أن الله فوق العالم ؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟
    فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل وكذلك لفظ التحيز : أن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال الله تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يَقْبِضُ اللهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟ " ... وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها منفصل عنها ليس حالًا فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة : فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه) . (الرسالة التدمرية)
    وسئل شيخ الإسلام – في الفتاوى - عمن يعتقد [ الجهة ] : هل هو مبتدع أو كافر أو لا ؟
    فأجاب : أما من اعتقد الجهة ؛ فإن كان يعتقد أن اللّه في داخل المخلوقات تحويه المصنوعات، وتحصره السماوات، ويكون بعض المخلوقات فوقه ، وبعضها تحته ، فهذا مبتدع ضال .
    وكذلك إن كان يعتقد أن اللّه يفتقر إلى شيء يحمله ـ إلى العرش، أو غيره ـ فهو أيضًا مبتدع ضال وكذلك إن جعل صفات اللّه مثل صفات المخلوقين ، فيقول : استواء اللّه كاستواء المخلوق، أو نزوله كنزول المخلوق، ونحو ذلك، فهذا مبتدع ضال؛ فإن الكتاب والسنة مع العقل دلت على أن اللّه لا تماثله المخلوقات في شيء من الأشياء، ودلت على أن اللّه غني عن كل شيء، ودلت على أن اللّه مباين للمخلوقات عالٍ عليها . وإن كان يعتقد أن الخالق ـ تعالى ـ بائن عن المخلوقات، وأنه فوق سمواته على عرشه بائن من مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن اللّه غني عن العرش وعن كل ما سواه، لا يفتقر إلى شيء من المخلوقات، بل هو مع استوائه على عرشه يحمل العرش وحملة العرش بقدرته، ولا يمثل استواء اللّه باستواء المخلوقين ؛ بل يثبت للّه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفي عنه مماثلة المخلوقات، ويعلم أن اللّه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا أفعاله ـ فهذا مصيب في اعتقاده موافق لسلف الأمة وأئمتها . فإن مذهبهم أنهم يصفون اللّه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيعلمون أن اللّه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليمًا، وتَجَلَّى للجبل فجعله دكًا هشيمًا . ويعلمون أن اللّه ليس كمثله شيء في جميع ما وصف به نفسه، وينزهون اللّه عن صفات النقص والعيب، ويثبتون له صفات الكمال، ويعلمون أنه ليس له كفو أحد في شيء من صفات الكمال . قال نعيم بن حماد الخزاعي : من شبه اللّه بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف اللّه به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف اللّه به نفسه ولا رسوله تشبيهًا ، واللّه أعلم . (مجموع الفتاوى 5/262-263)
    بعد هذا أقول : لتعلم يا دكتور قيس أن كثيراً من الفرق خالفت الحق وأهله في اثبات صفة العلو على المعنى الحقيقي الذي يليق يجلال الله ، ومنها :
    - الجهمية والمعتزلة : أنكر جهم بن صفوان أن يكون الله في السماء دون الأرض ، وأن يكون هناك كرسي ، وقال إنه لا يوصف بشيء مما يوصف به العباد ، وهم الذين يقولون : لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما ، وهو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم .
    - الصوفية الحلولية يقولون : إنه بذاته في كل مكان ، كما يقول ذلك أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية ، وهو قول طوائف من المعتزلة .
    - وطائفة من أهل الكلام والتصوف تقول : إن الله بذاته فوق العالم ، وهو بذاته في كل مكان .
    - والأشاعرة المتأخرون : يثبتون لله علو القدر والقهر وينفون علو الذات وعلو المكان .
    - والأشاعرة أهل التجهيل – التفويض - : يقولون لا ندري ما معنى العلو ، وتقدم أن لازم قولهم التعطيل .
    وما دام أن الدكتور قيس صرح بعقيدة التفويض في صفات الله وادعى أنها مذهب السلف فيرى - على هذا - أن صفة العلو غير ثابتة لله على المعنى الذي يثبته أهل السنة والجماعة لقيله قبل أن : " الأخذ بالظاهر تجسيم وتشبيه ... وأما مذهب السلف فليس أخذها على ظاهرها ولكن السكـوت "
    فأقول للدكتور قيس –أصلحه الله - : إن أردت النجاة فكن مع أهل الحق واسلك سبيلهم وكن رفيق دربهم تكن ناجياً بإذن الله تعالى ، قال تعالى: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ".
    ولتعلم يا دكتور قيس أن العز بن عبد السلام رحمه الله لا يؤخذ بقوله في هذه المسألة ، وإن كان معدوداً في العلماء الصادقين الذين دافعوا عن حمى الدين وردوا على كثير من المبتدعين ، إلا إنه وقع في التأويل المذموم ، عامله الله بعفوه وغفر له .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الحادية عشرة :
    ... فالصحيح أنه لا يجوز أن يسمى إلا بما سمى به نفسه وإن كان مشتقاً من أسمائه ، ولا خلاف في منع غير المشتق (3) ص62
    ح(3) ص62 قال المصنف في شرح الرسالة (1/27) : قال الشيخ أبو العباس ابن البنا : لا يصح أن تكون أسماء الله مشتقة من شيء ، لأن المشتق مسبوق بالمشتق منه ، وأسماؤه قديمة ، فلا يصح أن تكون مشتقة من شيء ، قال : وإنما الأشياء مشتقة منها لقوله في الحديث : (وهي الرحم وأنا الرحمن شققت لها اسماً من اسمي) (قيس)
    ( التعليق ) :
    لي مع كلام المصنف وقفتان :
    • الوقفة الأولى :
    قول المصنف: " فالصحيح أنه لا يجوز أن يسمى إلا بما سمى به نفسه وإن كان مشتقاً من أسمائه ، ولا خلاف في منع غير المشتق " يظهر من كلام المصنف السابق أنه يقسم الأسماء الحسنى إلى مشتقة وغير مشتقة ، وهذا صنيع بعض الأشاعرة ، إذ أن (بعض الأشاعرة يقسمون الأسماء إلى قسمين :
    القسم الأول: أسماء مشتقة.
    القسم الثاني: أسماء غير مشتقة.
    قال البغدادي: "جملة أسمائه قسمان : مشتق وغير مشتق".
    فيجعلون اسم "الله" غير مشتق أي لا يدل على معنى فيعاملونه معاملة الأسماء الجامدة ، وهذا مخالفة لمذهب أهل السنة الذين يعتقدون بأن أسماء الله جميعها متصفة لمعاني وليس فيها اسم جامد لا يدل على معنى) (معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله للتميمي)
    • الوقفة الثانية :
    قول المصنف في شرح الرسالة فيما نقله عن أبي العباس ابن البنا : " لا يصح أن تكون أسماء الله مشتقة من شيء" ليس بصواب ، بل : (أسماء الله مشتقةٌ من صفاته ، وصفاته قديمةٌ به ، فأسماؤه غير مخلوقة ... والربُّ تعالى يُشتَقُّ له من أوصافه وأفعاله أسماءٌ ، ولا يُشتَقُّ له من مخلوقاته ، وكل اسم من أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته ، أو فعل قائم به ، ...)(شفاء العليل)
    قال ابن القيم : ( زعم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق ؛ لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه سبحانه قديم لا مادة له فيستحيل الاشتقاق ، ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى فهو باطل ، ولكن من قال بالاشتقاق لم يُرد هذا المعنى ولا ألمّ بقلبه ، وإنما أراد أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى من العليم والقدير فإنها مشتقة من مصادرها بلا ريب ، وهي قديمة والقديم لا مادة له ، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء كان جواب من قال بالاشتقاق في الله تعالى ، ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى ، لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله ) (بدائع الفوائد 1/22)
    فقول المصنف والذي تابعه عليه الدكتور قيس يوهم أن أسماء الله جامدة ، لا تتضمن أوصافاً ومعاني وهذا هو قول المعتزلة سواء بسواء فإنهم قالوا : هو العليم بلا علم والسميع بلا سمع ، والبصير بلا بصر ، وقولهم باطل بإجماع السلف .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الثانية عشرة :
    حتى قال بعضهم : إنه لا يجوز إطلاق الصفة في حقه تعالى ، وإن كانت الصفات ثابتة له (4) ، إذ لم يطلقها على نفسه . (زروق) ص (62)
    ح(4) ص (62) لعله يشير إلى ابن الجوزي في كتابه (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه)حيث ذهب إلى أن تسميتها صفات تسمية مبتدعةلم ترد في كتاب ولا سنة . (قيس)
    ( التعليق ) :
    أورد المصنف هذه المقولة : "حتى قال بعضهم : إنه لا يجوز إطلاق الصفة في حقه تعالى ..." وكذلك فعل الدكتور قيس – عفا الله عنه – عندما أشار إلى كلام ابن الجوزي إشارة دون تحرير أو تحقيق .
    وكلام ابن الجوزي الذي ورد في الكتاب المشار إليه ، هو قوله : " وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات ، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة ، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل،..."
    والحق أن يجوز أن نصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ونسمي ذلك بالصفات ، وقد تقدم ذكر بعض الأدلة على ذلك ، منها :
    قوله تعالى : "لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ،
    قال الإمام البغوي في تفسيره : "وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى" ، الصفة العليا وهي التوحيد وأنه لا إله إلا هو ، وقيل : جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء وغيرها من الصفات اهـ
    وفي زاد المسير يقول ابن الجوزي – نفسه - : " وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى " أي : الصفة العليا من تنزُّهه وبراءته عن الولد اهـ
    وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ :"قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ" فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : "سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ" فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ" رواه البخاري
    (واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا)(الفتوى لحموية) و (العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح ، كما أن المنقول عن الأنبياء عليهم السلام لا يخالف بعضه بعضًا ، ولكن كثيرا من الناس يظن تناقض ذلك ، وهؤلاء من الذين اختلفوا فى الكتاب ، وإن الذين اختلفوا فى الكتاب لفي شقاق بعيد)(مجموع الفتاوى 7/665 )
    ومقتضى كلام ابن الجوزي : " فسموها بالصفات تسمية مبتدعة " أن الله معطل عن الصفات ، وأنه ولا يوصف بشيء منها ، وهذا عينه قول الجهمية والمعتزلة ، وأداه إلى هذا زعمه الباطل أن الأخذ بالظاهر تشبيه ، يقول شيخ الإسلام : (إن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين ، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه ؛ فيقع في أربعة أنواع من المحاذير :
    •أحدها : كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين ، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
    •الثاني : أنه إذا جعل ذلك هو مفهومهاً وعطله ؛ بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله ، فيبقى مع جنايته على النصوص ، وظنه السيء الذي ظنه بالله ورسوله ؛ حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل ؛ قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى .
    •الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم ، فيكون معطلا لما يستحقه الرب .
    •الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات ، فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب ، ومثله بالمنقوصات والمعدومات ، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات ، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات ، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل ، فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته...)(التدمرية لشيخ الإسلام)
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الثالثة عشرة :
    ومن ذلك ما وقع لبعض الصوفية ، من قولهم : أنا هو ، وهو أنا ، مما يوهم الاتحاد، والحلول، وهذا لا يجوز اتباعهم فيه ، ولا يجوز لأحد أن يسلم لقائله حالة سماعه (2) وإن ساغ له تأويله بعد وقوعه ، وانقراضه ، بما يوافق الحق ، مع إقامة رسم الشرع فيه ، وإن صح له اعتقاد قائله مسلما ونحوه (3) وقد قتل الحلاج (4) بإجماع أهل زمانه إلا أبا العباس بن سريج ، فإنه قال: لا أدري ما أقول ، وأخرج بسببه جماعة عن بلدانهم ، ولم يكن ذلك قادحا فيهم ، ولا في مخرجهم ، (ص63)
    ولا المنكر عليهم . (2) وقد وقع كثير من هذا النوع ، كابن الفارض،(3) وابن العربي(4) ، والششتري ، (ص64)
    وابن سعبين ، (2) مع إمامتهم في العلم، وظهورهم بالديانة، فليتق المؤمن ذلك، مشفقًا على دينه، فارّاً من موارد الغلط، راجعا لأصول الاعتقاد، قائما مع الحق بالكلام في القول لا في القائل (3) (ص65)
    وقائلا في مثل أولئك القوم: ما كان من قولهم موافقا للكتاب والسنة، فأنا أعتقده، ومالا فأنا أكل علمه إلى أربابه منزها قلبي عن اعتقاد ظاهره، وإياهم كذلك وقد نص على ذلك الشيخ ولي الدين العراقي في أجوبة المكيين فانظره . ومن ذلك، قول: ياهو، في استغاثته بالله وندائه ، لما في ذلك من الإيهام والتسوي ، وعلل أخرى ذكرها النحاة، وغيرهم . ومن ذلك إطلاق : شيء، وعين، وثابت، وحق، وذات، وغير ذلك من الأسماء المقتضية لإثبات الذات أوالصفات الخارجة عن الأسماء الحسنى التي لا تشعر بالأدب والافتقار ، وإنما يجوز إطلاق هذه في باب التعليم .
    كما أنه لا يجوز: ياهو، إلا إلى رجل استغرق في التعظيم ، حتى لم يبق من رسومه غير الإشارة، ولم يجد حاله إلا في الإبهام، وهذا محكوم عليه، فيسلم له ، كما نص عليه أئمة هذا الشأن ، والله أعلم وبه التوفيق.... ومن ذلك ، قول بعضهم لمن يساله عن حاله : بخير من الله ، بشر من نفسي ، وهذا إشعار باعتقاد الفاعلية ... ويزاد عليها : تحسين الظن بهم، بنفي ذلك مرة، وتأويله أخرى، والتسليم للقائل فيهم، إذ لم يتكلم إلا بعلم، واحترامهم إذا كانوا على قدم الصدق مع الحق . (زروق) (ص65-67)
    ح (2) ص(63) قال المصنف في قواعده (رقم81) : لا يقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم ولا يسلم لأحد فيه ما وقع منه ، دون كلام فيه ، بل يرد في نفسه وذكره ، وإن عدم تأول بما يرده لأصل الحق ، وإن وافق أصلاً شرعياً في إطلاقه ، وأثبت إمامة قائله كما في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله في مسألة الاستواء وغيره اهـ
    ح (3) ص(63) قال الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام (1/158) : إذا نظرنا في رسومهم التي حدوا، وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن ، والتماس أحسن المخارج ، ولم نعرف لها مخرجًا ، فالواجب علينا التوقف عن الاقتداء والعمل وإن كانوا من جنس من يقتدى بهم ، لا ردًّا لهم واعتراضًا ، بل لأنا لم نفهم وجه رجوعه إلى القواعد الشرعية كما فهمنا غيره .
    ح (4) ص(63) قال السلمي : أكثر المشايخ ردوا الحلاج ونفوا أن يكون له قدم صدق في التصوف (سير أعلام النبلاء 14/314) (قيس)
    ح (2) ص(64) قال المصنف في القاعدة الرابعة بعد الثمانين : تحقيق العلم بالمزية ، لا يبيح السكوت عند تعين الحق ، إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل ، من غير شك ، ثم إن وقع إنكاره ، فليس بقادح في واحد منهما ، إذ كل علم علم الله إياه ، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما اهـ
    ح (3) ص(64) شرف الدين عمر بن علي الحموي الأصل قال الذهبي : ينعق بالاتحاد الصريح في شعره ، وهذه بلية عظيمة ، فتدبر نظمه ولا تستعجل ، ولكن حسن الظن بالصوفية . اهـ الميزان 4/134
    ح (4) ص(64) محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد الطائي الحاتمي (560-639) ولد بمرسية من الأندلس ، تكلم في التصوف بلغة ثرية جزلة المعنى والمبنى ، واختلف العلماء فيه اختلافاً كبيراً بسبب ما نسب إليه في كتبه من مخالفة لأصول الشريعة فذب عنه قوم منهم الإمام عبد الوهاب الشعراني حيث قال : تتبعت المسائل التي أشاعها ، وأجبت عنها لأن كتبه المروية لنا بالسند الصحيح ، ليس فيها ذلك اهـ من اليواقيت والجواهر : 1/3 ، وقد أطال في الدفاع عنه فانظره تستفد . وقال الذهبي : قولي أنا فيه : إنه يجوز أن يكون من أولياء الله الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت ، وختم له الحسنى اهـ ميزان الاعتدال :5/106 .
    قلت : وممن نقل عنه تكفيره ابن تيمية ، لكن لعله رجع في آخر عمره ، قال الذهبي : كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول : أنا لا أكفر أحداً من الأئمة اهـ سير أعلام النبلاء : 15/88 (قيس)
    ح (2) ص(65) قطب الدين عبد الحق إبراهيم بن محمد المرسي الصوفي (624-669) قال الذهبي : كان من زهاد الفلاسفة من القائلين بوحدة الوجود ، له تصانيف وأتباع يقدمهم يوم القيامة اهـ ( العبر :3/320) ، نيل الابتهاج ص 184)
    ح (3) ص(65) نقل العلامة أبو العباس أحمد بابا التنبكتي رحمه الله عن المصنف قوله : والظن بهم البراءة مما رموا به ، ولكن ضاقت عليهم العبارة من حقائق تصريح العلم فأدت بظاهر ما يتوهم أنهم براء منه ، هذا معتقدنا فيهم وعند الله تعالى الموعد اهـ من نيل الابتهاج ص203(قيس)
    ( التعليق ) :
    في كلام المصنف والمعلق عدة وقفات :
    • الوقفة الأولى : في تراجم الصوفية . الحلاج وابن الفارض وابن العربي والششتري وابن سعبين .
    1) ترجمة الحلاج : هو الحسين بن منصور بن مَحْمِيٍّ ، أبو عبد الله – ويقال : أبو مُغيث – الفارسي ، البيضاوي ، الصوفي. وكان جده محمي مجوسيًا . نشأ الحسين بِتُسْتَر ، فصحب سهل بن عبد الله التُّسْتَرِيّ ، وأكثر الترحال والأسفار والمجاهدة. كان حلولياً يقول : "إن الله في الأرض كما هو في السماء وهو بذاته حال في جميع الأشياء " ، ومنهم من نسبه إلى الزندقة . تبعه طائفة من ذوي الضلال واعتقدوا ألوهيته . من أقواله الكفرية : " أنا الحق سبحاني ما أعظم شأني هل في الدارين غيري " ، وقوله : "ما في الجبة سوى الله " ، أفتى بكفره كثير من علماء المسلمين ، وأقيم عليه الحد ، وقتل بتهمة الزندقة والقول بالحلول ، قتل ببغداد بباب الطاق يوم الثلاثاء سنة 309هـ . (انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء والأعلام للزركلي)
    قال ابن كثير في (البداية والنهاية) :
    " حكى عن غير واحد من العلماء إجماعهم على قتله وأنه قتل كافراً ، وكان مشعوذاً متلوناً فهو مع كل قوم على مذهبهم إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقاً وغيرهم , وما زال يضل الناس ويسموه عليهم حتى ادعى الربوبية فسجن في بغداد وأجمع الفقهاء على كفره وزندقته وأنه ساحر ممخرق , قتل ببغداد بعد فتوى الفقهاء ". (البداية والنهاية 11/133)
    2) ترجمة ابن الفارض :
    شرف الدين عمر بن علي بن مُرشد الحموي ، ثم المصري ، صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به قصيدته التائية ، يقول في قصيدته تلك :
    ولا تحسبن الأمر عني خارجًا ... فما ساد إلا داخل في عبودتي
    فلا حي إلا عن حياتي حياته ... وطوع مرادي كل نفس مريدة
    ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن ... شهود ولم تعهد عهود بذمة
    ولا منصت إلا بسمعي سامـع ... ولا با طش إلا بأزلي وشدتي
    "فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده ، فما في العالم زندقة ولا ضلال ، اللهم ألهمنا التقوى ، وأعذنا من الهوى ، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله ؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله" توفي : سنة 632هـ (انظر ترجمنه في سير أعلام النبلاء والأعلام للزركلي)
    قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : (وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائية المعروفة (بنظم السلوك) ، وقد نظم فيها الاتحاد نظماً رائق اللفظ ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية ذهب ، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك) (مجموع الفتاوى 4/73-74).)
    ومن ذلك قول ابن حجر في لسان الميزان : (ينعق بالاتحاد الصريح في شعره ، وهذه بلية عظيمة ، فتدبر نظمه ولا تستعجل ، ولكنك حسن الظن بالصوفية ، وما ثم إلا زي الصوفية ، وإشارات مجملة، وتحت الزي والعبارة فلسفة وأفاعٍ، وقد نصحتك) (لسان الميزان 4/362-363)
    3) ترجمة ابن عربي :
    هو محيي الدين محمد بن علي بن محمد الطائي الأندلسي ثم الدمشقي ، المعروف بابن عربي ، وينتهي نسب ابن عربي إلى عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الطائي . اشتغل بتحصيل الحديث وسماعه ، ثم مال بعد ذلك إلى الأدب ونظم الشعر ، ثم بعد ذلك كله سلك طريق التصوف فتزهد وتعبد وأقبل على الخلوات وانقطع للتنسك إلى أن أصبح رأسًا في التصوف ، تصوف أهل وحدة الوجود القائلين بـ:"أن وجود الكائنات هو عين وجود الله ، ليس وجودها غيره ، فالخالق هو المخلوق لا فرق " نعوذ بالله من الكفر والضلال ، رحل إلى مصر وأخذ بتأليف الرسائل والكتب وهناك ظهر منه ما يستوجب النقد والإنكار ، فأنكر عليه علماء مصر وحكموا بكفره وإراقة دمه ، وكاد أن يقتل لولا أن شفع له من شفع متأولاً حتى عُفي عنه . من أشهر تصانيفه "الفتوحات المكية" ، و"فصوص الحكم" "فإن كان لا كفر فيه ، فما في الدنيا كفر ، نسأل الله العفو والنجاة" ، وقد عظمه جماعة، وتكلفوا لما صدر منه ببعيد الاحتمالات ، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا، أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربي : شيخ سوء ، كذاب، يقول بقدم العالم ، ولا يحرم فرجًا . لم يجاهر بآرائه وزنقدته وكفره إلا لخواص أصحابه وتلامذته خوفًا من الوقوع تحت سيف الشرع متظاهرًا بين عامة أهل العلم بالتنسك والعبادة والزهد وانتشرت كتبه عرف الناس حقيقة أمره وحقيقة مذهبه فحكم أكثر العلماء بكفره وزندقته وكذبه على الله ورسوله ، كما فعل برهان الدين البقاعي في "تنبيه الغبي إلى تكفر ابن عربي" ، والصوفية الآن أكثرهم يعدون ابن عربي الشيخ الأكبر ، وكثير منهم اليوم على مذهبه بفهم وبغير فهم . توفي سنة 683هـ (انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء والأعلام للزركلي )
    ومن العلماء الذين كفروا ابن عربي :
    شيخ الإسلام زين الدين العراقي ،. بدر الدين بن جماعة ، وشيخ الإسلام بن حجر العسقلاني ، ولي الدين العراقي ، الإمام أبو علي السكوني ، علاء الدين البخاري الحنفي ، قاضي القضاة زين الدين التفهني ، قاضي القضاة محمود العيني الحنفي ، والعز بن عبد السلام وغيرهم كثير .
    يقول عنه الذهبي في الميزان :
    (صنف التصانيف في تصوف الفلاسقة وأهل الوحدة ، فقال أشياء منكرة ، عدها طائفة من العلماء مروقًا وزندقة ، وعدها طائفة من العلماء من إشارات العارفين ورموز السالكين ، وعدها طائفة من متشابه القول ، وأن ظاهرها كفر وضلال ، وباطنها حق وعرفان ، وأنه صحيح في نفسه كبير القدر وآخرون يقولون : قد قال هذا الباطل والضلال ، فمن الذي قال إنه مات عليه ، فالظاهر عندهم من حاله أنه رجع وأناب إلى الله ، فإنه كان عالمًا بالآثار والسنن قوى المشاركة في العلوم .
    وقولى أنا فيه – الذهبي- : إنه يجوز أن يكون من أولياء الله الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت، وختم له بالحسنى ، فأما كلامه فمن فهمه وعرفه على قواعد الاتحادية وعلم محط القوم ، وجمع بين أطراف عباراتهم - تبين له الحق في خلاف قولهم . وكذلك من أمعن النظر في فصوص الحكم ، أو أنعم التأمل لاح له العجب، فإن الذكى إذا تأمل من ذلك الاقوال والنظائر والاشباه فهو أحد رجلين : إما من الاتحادية في الباطن ، وإما من المؤمنين بالله الذين يعدون أن هذه النحلة من أكفر الكفر . نسأل الله العفو، وأن يكتب الايمان في قلوبنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة . فو الله لان يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن يصلى بها الصلوات ويؤمن بالله وباليوم الآخر - خير له بكثير من هذا العرفان وهذه الحقائق، ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة ) اهـ الذهبي في الميزان (3/630)
    4) ترجمة الششتري :
    هو أبوالحسن علي النميري الششتري، تلميذ ابن سبعين، أندلسي، مات في مصر (دمياط)، سنة (668هـ) ،
    ومن شعره :
    محبوبي قد عم الوجود ... ... وقد ظهر في بيض وسود
    وفي النصارى مع اليهود ... ... وفي الخنازير مع القرود
    وفي الحروف مع النقط ... ... أفهمني قط أفهمني قط
    عرفته طول الزمان ... ... ظهر لي في كل أوان ( إيقاظ أولي الهمم لابن عجيبة)
    5) ترجمة ابن سبعين :
    عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين بن نصر بن فتح بن سبعين العتكي الغافقي المرسي المربوطي أبو محمد نزيل بجاية ثم مكة ولد سنة أربع وعشرين وست مائة أو في التي قبلها وأشتهر بالزهد والسلوك وكانت له بلاغة وبراعة وتفنن في العلوم وكثر أتباعه وله مقالة في تصوف الاتحادية ذكر بن دفيق العيد أنه جلس معه من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاما يعقل مفرداته ولا يعقل مركباته كذا حكاه الذهبي ... واشتهر عنه مقالة ردته وهي قوله لقد كذب بن أبي كبشة على نفسه حيث قال لا نبي بعدي ... مات في تاسع شوال سنة تسع وستين وست مائة (لسان الميزان لابن حجر3/449)
    وبعد :
    هذه تراجم هؤلاء المتصوفة الأربعة الذين أثنى عليهم المصنف بقوله : "مع إمامتهم في العلم ، وظهورهم بالديانة ..." وقوله : "ويزاد عليها تحسين الظن بهم ، بنفي ذلك مرة ، وتأويله أخرى ، والتسليم للقائل فيهم ، إذ لم يتكلم إلا بعلم ، واحترامهم إذا كانوا على قدم الصدق مع الحق "
    ولا ينقضي عجبي من قوله :" مع إمامتهم في العلم ": إمامتهم في ماذا ؟ في وحدة الوجود والاتحاد والحلول ؟!! أو إمامتهم في الإلحاد والزندقة ، أعوذ بالله من الضلال !
    أما تعليقات الدكتور قيس فإنه لا يختلف عنه كثيراً ؛ بل زاد على المصنف بتخفيه تحت عبارات يوردها في تراجمهم على استحياء فيها نقد يسير هين لين ، لا يرتقي والضلال الذي أظهروه والإلحاد الذي أبدوه ، ومن أراد مثالاً على ذلك فينظر إلى ما أورده في ترجمة ابن عربي من قول الذهبي : "قولي أنا فيه : إنه يجوز أن يكون من أولياء الله الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت ، وختم له الحسنى" وقارن هذه العبارة المجتزأة من كلام للذهبي بكلام الذهبي التام عنه في نفس المصدر ، وهـو :
    " ...وآخرون يقولون : قد قال هذا الباطل والضلال ، فمن الذي قال إنه مات عليه ، فالظاهر عندهم من حاله أنه رجع وأناب إلى الله ، فإنه كان عالمًا بالآثار والسنن قوى المشاركة في العلوم .
    وقولى أنا فيه – الذهبي- : إنه يجوز أن يكون من أولياء الله الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت، وختم له بالحسنى ، فأما كلامه فمن فهمه وعرفه على قواعد الاتحادية وعلم محط القوم ، وجمع بين أطراف عباراتهم - تبين له الحق في خلاف قولهم . وكذلك من أمعن النظر في فصوص الحكم ، أو أنعم التأمل لاح له العجب، فإن الذكى إذا تأمل من ذلك الأقوال والنظائر والاشباه فهو أحد رجلين : إما من الاتحادية في الباطن ، وإما من المؤمنين بالله الذين يعدون أن هذه النحلة من أكفر الكفر . نسأل الله العفو، وأن يكتب الايمان في قلوبنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة . فو الله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئًا سوى سور من القرآن يصلى بها الصلوات ويؤمن بالله وباليوم الآخر - خير له بكثير من هذا العرفان وهذه الحقائق ، ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة ) اهـ الذهبي في الميزان (3/630)
    فلو أن الدكتور قيس - هداه الله وأصلحه - نقل كلام الذهبي بتمامه لتبين للقارئ أن الذهبي بإيراده ما أورد يريد أن يجمع بين قولين متعارضين قيلا فيه ، قول يقول : إنه مات على ضلالاته وقول يقول : إنه تاب منها قبل موته . فأراد أن يقول : إن الإنسان الكافر الملحد قد يسلم قبل الموت ولا أحد يعلم عنه إلا الله ، وهذا الذي أراده الذهبي ، هو معروف لكل عامي وعالم ، وهذا لا يبحث فيه الإنسان ، إنما يبحث في كلامه الذي قاله والإلحاد الذي ألحده ، بل أبطل الذهبي إمامته لأن ما ظهر منه أبداً لا يكون صاحبه إماماً ، قال : " فإن الذكى إذا تأمل من ذلك الأقوال والنظائر والاشباه فهو أحد رجلين : إما من الاتحادية في الباطن ، وإما من المؤمنين بالله الذين يعدون أن هذه النحلة من أكفر الكفر" .
    أما ما نقله الدكتور من كلام الشعراني في دفاعه عن ابن عربي وثنائه عليه ، فهذا في ميزان النقد غير مقبول ، فهل يا دكتور قيس تريد من الشعراني وهو من أهل التصوف الغالي ، هل تريده أن يكفر ابن عربي أو يذمه وهو على طريقه ومنهجه وقد ألف كتاباً في الدفاع عنه ؟ !!
    أما قولك يا دكتور قيس : "وممن نقل عنه تكفيره ابن تيمية ، لكن لعله رجع في آخر عمره ، قال الذهبي : كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول : أنا لا أكفر أحداً من الأئمة" اهـ (سير أعلام النبلاء : 15/88 )
    أولاً / شيخ الإسلام قال فيما نقله عنه الذهبي : "أنا لا أكفر أحداً من الأمة" ، وقد تحرفت في كلام الدكتور قيس – وأظنها بغير قصد - كلمة "الأمة" إلى "الأئمة".
    ثانياً / كلام الشيخ عام في أصحاب المقالات التي لم تبلغ الكفر ، أو صار عنده مانع من موانع التكفير ، أو كان ذلك في المسائل الخفية ، أما المقالات الكفرية الصريحة كقول ابن عربي : "إن وجود الكائنات هو عين وجود الله ، ليس وجودها غيره ، فالخالق هو المخلوق لا فرق" فهل يظن عاقل - فضلاً عن شيخ إمام كشيخ الإسلام- أن يقول : إني لا أكفر من يقول مثل هذه المقالة ؟!
    ثالثاً / هب – يا دكتور قيس – تنزلاً أن شيخ الإسلام – رحمه الله - رجع عن تكفيره فماذا تقول في علماء كثر - وقد تقدم ذكر بعضهم - كفروا ابن عربي هل تقول عنهم : لعلهم رجعوا أيضاً .
    خذ مثالاً لذلك : برهان الدين البقاعي في كتابه : "تنبيه الغبي إلى تكفر ابن عربي" وقد ألفه غضبة لله جل وعلا ودفاعاً عن دينه ، يقول في كتابه : ( وبعد، فإنِّي لَمَّا رأيتُ الناسَ مضطربِين في ابن عربي ـ المنسوب إلى التصوُّف ، الموسوم عند أهل الحق بالوحدة ، ولم أرَ مَن شفى القلبَ في ترجمته، وكان كفرُه في كتابه الفصوص أظهرَ منه في غيره ـ أحببتُ أن أذكرَ منه ما كان ظاهراً ؛ حتى يُعلم حالُه ، فيُهجر مقالُه ، ويُعتقَد انحلالُه ، وكفرُه وضلالُه ... إلى أن قال : وسَمَّيتُ هذه الأوراق "تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي"، وإن شئتَ فسمِّها "النصوص من كفر الفصوص"؛ لأنِّي لَم أستشهد على كفرِه وقبيحِ أمرِه إلاَّ بما لا ينفع معه التأويل من كلامِه ، فإنَّه ليس كلُّ كلامٍ يُقبل تأويلُه وصرفُه عن ظاهرِه ). اهـ
    وهذه بعض النقولات التي نقلها البقاعي في كتابه عن الهالك ابن عربي في فصوص الحكم :
    - وقوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}: أي حكم ، فالعالم يعلم مَن عَبد ، وفي أيِّ صورةٍ ظهر حتى عُبد ، وأنَّ التفريقَ والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة ، وكالقِوى المعنويَّة في الصورة الروحانية، فما عُبد غير الله في كلِّ معبود!!!).
    - وقوله : {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} : أي: تَدَعهم وتتركهم ، {يُضلُّوا عِبَادَكَ} : إلى الخير!! فيُخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية ، فينظرون أنفسهم أرباباً بعد ما كانوا عند أنفسِهم عبيداً ، فهم العبيد الأرباب!!! .
    - وقوله: ومن أسمائه الحسنى : العلي، على مَن وما ثمَّ إلاَّ هو؟!!! فهو العليُّ لذاته .
    - وقوله {مَا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: فكلُّ ماشٍ فعلى صراط الربِّ المستقيم ، فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ، ولا ضالُّون ، فكما كان الضلالُ عارضاً، فكذلك الغضبُ الإلَهي عارض ، والمآل إلى الرَّحمة التي وسعت كلَّ شيء!!! )).
    - وقوله : فقُلْ في الكون ما شئتَ، إن شئتَ قلتَ : هو الخلق ، وإن شئتَ قلتَ : هو الحق ، وإن قلتَ: هو الحقُّ الخلق .
    يقول الذهبي في ترجمة ابن عربي في السير : " ومن أردأ تواليفه كتاب (الفصوص) ، فإن كان لا كفر فيه ، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله !اهـ (سير أعلام النبلاء 23/48)
    • الوقفة الثانية : الشريعة والحقيقة و الظاهر والباطن عند الصوفية .
    "وقالوا- الصوفية الباطنية - : العلوم ثلاثة : ظاهر , وباطن, وباطن الباطن , كما أن الإنسان له ظاهر , وباطن , وباطن الباطن , فعلم الشريعة ظاهر , وعلم الطريقة باطن, وعلم الحقيقة باطن الباطن" (الفتوحات الإلهية لابن عجيبة)
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في وصف الباطنية : (ويزعمون أن هذه النصوص لها تأويل وباطن يخالف الظاهر المعلوم للمسلمين... وقد دخل في كثير من أقوالهم في العلوم , أو في العلوم والأعمال طائفة من المنتسبين إلى التصوف , والكلام , وكلام ابن عربي , وابن سبعين وامثالهما من ملاحدة المتصوفة يرجع إلى قول هؤلاء ) انظر (الصفدية) (1/4- 5)
    وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني -رحمه الله تعالى- لأحد تلامذته : " يا بني، إذا نظرت في القوم الذين ادعوا التصوف اليوم : وجدت أن أكثرهم من الزنادقة الحرورية والمبتدعة ورأيتهم أكثر الناس جهلاً وحمقاً، وأشدهم مكراً وخديعة، وأعظمهم عجباً وتطاولاً، وأسوأهم ظناً بأهل الزهد والتقوى" (كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله للرفاعي)
    جاء في كتاب تقديس الأولياء في الفكر الصوفي للدكتور محمد أبو لوح ما نصه : (عمدت الصوفية إلى تقسيم الدين الإسلامي إلى شريعة ، وحقيقة صوفية ، وزعمت أن نصوص الشريعة لها ظاهر وباطن ، وأن ظاهرها المتبادر إلى العقول والأذهان إنما هو للعوام والجمهور ، وأما التفسير الباطني الذي هو لب الدين ومقصد الشارع الأساسي فلا يدركه إلا أولياء التصوف وأقطابه (العارفون الواصلون) ويعنون بهم أولئك الذين سقطوا في أوحال الحلول ، أو في مستنقعات الاتحاد والوحدة .
    وبهذا التقسيم تمكنوا من إقناع الجماهير بأن القيود والتكاليف الشرعية إنما هي للعوام ، وأما أهل الحقيقة – وهم المقدسون عندهم – فلهم أن يخرجوا عن الشريعة ولا يسوغ لأحد أن ينكر عليهم. وعلى هذا أستطيع أن أقول: إن الحركة الصوفية تستهدف إلى نقض عرى العقيدة الإسلامية الصحيحة عروة عروة، وتحاول أن تهدم جدار الشريعة المنيع وتستقطب الصوفية في ذلك كل الأفكار والمبادئ والوسائل التي تساعدهم على تحقيق ذلك اهـ
    أقول :
    وهذا يفسر ما يذهب إليه بعض الصوفية - ومنهم المصنف وتبعه الدكتور قيس راضياً به – من تأويلهم وتعذيرهم لشطحات الصوفية وانحرافاتهم ، انظر مثلاً :
    قول المصنف فيما نقله عنه الدكتور قيس: " قال المصنف في القاعدة الرابعة بعد الثمانين : تحقيق العلم بالمزية ، لا يبيح السكوت عند تعين الحق ، إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل ، من غير شك ، ثم إن وقع إنكاره ، فليس بقادح في واحد منهما ، إذ كل علم علم الله إياه ، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما اهـ
    وأيضاً :
    ما نقله الدكتور قيس في تعليقه أيضاً: " نقل العلامة أبو العباس أحمد بابا التنبكتي رحمه الله عن المصنف قوله : والظن بهم البراءة مما رموا به ، ولكن ضاقت عليهم العبارة من حقائق تصريح العلم فأدت بظاهر ما يتوهم أنهم براء منه ، هذا معتقدنا فيهم وعند الله تعالى الموعد اهـ من نيل الابتهاج ص203"
    وأيضاً قول المصنف – غفر الله له – فيما نقله عنه الدكتور قيس : "قال المصنف في قواعده (رقم81) : لا يقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم ولا يسلم لأحد فيه ما وقع منه ، دون كلام فيه ، بل يرد في نفسه وذكره ، وإن عدم تأول بما يرده لأصل الحق ، إن وافق أصلاً شرعياً في إطلاقه ، وأثبت إمامة قائله كما في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله في مسألة الاستواء وغيره اهـ "
    وأيضاً ما نقله الدكتور قيس عن : "الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام (1/158) : إذا نظرنا في رسومهم التي حدُّوا، وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن ، والتماس أحسن المخارج ، ولم نعرف لها مخرجًا ، فالواجب علينا التوقف عن الاقتداء والعمل وإن كانوا من جنس من يقتدى بهم ، لا ردًّا لهم واعتراضًا بل لأنا لم نفهم وجه رجوعه إلى القواعد الشرعية كما فهمنا غيره "
    ومن هذه النقول لا بد أن نذكر أموراً أربعة :
    1) الأمر الأول : التأويل السائغ إنما ينفع إذا كان القول محتملاً وله مخارج في الشرع واللغة ، وأما التأويل غير السائغ : فهو التأويل الذي ليس له مُسوِّغٌ لا في اللغة ولا في الشرع ، فهذا غير مقبول ويحكم عليه بالكفر، فلما تكلم المنافقون بكلام صريح من ثلبهم للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة نزل فيهم قوله تعالى : " وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ . لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" ، وقد نقلَ العبدري في التاج والإكليل لمختصر خليل (6/285) عن ابن أبي الربيع قوله: "لأنَّ ادعاءه للتأويل في لفظٍ صُراحٍ لا يُقبل..."ا.هـ قال ابن الوزير في كتابه إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات (1/377): "وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله, كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى بل جميع القرآن والشرائع والمعادِ الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار"ا.هـ
    يقول الدكتور الوهيبي في كتابه نواقض الإيمان القولية والعملية (1/148) : " واتفق أهل السنة والجماعة - أيضاً - على أن هنالك تأويلات لا يعذر بها ؛ كتأويلات الباطنية ، والفلاسفة ، وغيرهم من الغلاة ؛ لأن حقيقة أمرهم هي تكذيب للدين جملة وتفصيلاً ، أو التكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به ، أو عدم عبادة الله وحده ؛ كإنكار الفلاسفة لحشر الأجساد، وقولهم إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، أو القول بتحريف القرآن، أو اعتقاد النفع والضر في الأموات كما يفعله غلاة القبوريين ...ونحو ذلك من الاعتقادات الغالية التي لا تعتمد على أصول شرعية . اهـ
    وعليه أقول : على أي وجه يؤل قول الحلاج :"أنا الحق سبحاني ما أعظم شأني هل في الدارين غيري" ، ومثله قول ابن عربي :" أن وجود الكائنات هو عين وجود الله" ، ولذا قال البقاعي في مقدمة كتابه – وقد ذكرته سابقاً -: (لَم أستشهد على كفرِه- يعني ابن عربي - وقبيحِ أمرِه إلاَّ بما لا ينفع معه التأويل من كلامِه ، فإنَّه ليس كلُّ كلامٍ يُقبل تأويلُه وصرفُه عن ظاهرِه ) اهـ أما تأويلات الصوفيه وتفريقهم بين الحقيقة والشريعة أو الباطن والظاهر فهذا قول مبتدع مردود محدث في دين الله : قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " رواه مسلم .
    2) الأمر الثاني : قول المصنف : "ثم إن وقع إنكاره ، فليس بقادح في واحد منهما ، إذ كل على علم الله إياه ، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما اهـ" فهذه عجيبة من المصنف وطامة ، والأعجب من ذلك سكوت الدكتور المحقق -عفا الله عنه- فهل شطحات الصوفية وخزعبلاتهم ومواجيدهم كالعلم الذي أعطاه الله الخضر ، فهل أوحى الله للصوفية بعلم خصهم به دون الخلق ؟؟!!
    إن العلم الذي عند الخضر إنما هو من الله ، قال تعالى : " " فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا " وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري في قصة الخضر : "يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ " فنسب الخضر العلم إلى الله ولم ينسبه إلى نفسه ، أو إلى الإلهام أو العلم اللدني .
    3) الأمر الثالث : قول المصنف – الذي نقله الدكتور قيس -: " وإن عدم تأول بما يرده لأصل الحق ، إن وافق أصلاً شرعياً في إطلاقه ، وأثبت إمامة قائله كما في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله في مسألة الاستواء وغيره اهـ " ظاهر قول المصنف هذا أنه يسوي -فيمن يُتأول لهم ويُعتذر- بين أصحاب المقالات من أهل الوحدة الاتحاد وبين أهل السنة والحديث الذين يقولون ويؤمنون بما قال الله ورسوله على ما أراد الله ورسوله ، فابن أبي زيد القيرواني مالكي المذهب على جادة أهل السنة والجماعة في مسائل الاعتقاد ، يقول عنه الذهبي في السير : ( ابن أبي زيد أبو محمد عبد الله القيرواني المالكي الإمام، العلامة، القدوة، الفقيه، عالم أهل المغرب، أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، المالكي، ويقال له:مالك الصغير . وكان أحد من برز في العلم والعمل . قال القاضي عياض:حاز رئاسة الدين والدنيا، ورحل إليه من الأقطار ونجب أصحابه ، وكثر الآخذون عنه ، وهو الذي لخص المذهب ، وملأ البلاد من تواليفه ، تفقه بفقهاء القيروان ... قلت – أي الذهبي - : وكان - رحمه الله - على طريقة السلف في الأصول ، لا يدري الكلام ، ولا يتأول ، فنسأل الله التوفيق اهـ . (سير أعلام النبلاء 17/10-12)
    يقول ابن أبي زيد رحمه الله في مقدمة الرسالة : " من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له ، ولا نظير له ، ولا ولد له ، ولا والد له، ولا صاحبة له ، ولا شريك له . ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء ، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في مائية ذاته ، (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم)العالم ، الخبير ، المدبر، القدير السميع ، البصير، العلي ، الكبير ، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته ، وهو في كل مكان بعلمه ، خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . على العرش استوى ، وعلى الملك احتوى ، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى لم يزل بجميع صفاته وأسمائه ، تعالى أن تكون صفاتُه مخلوقة وأسماؤه محدثة كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه، وتجلى للجبل فصار دكا من جلاله" اهـ .
    فهذا ابن أبي زيد يؤمن باستواء الله جل وعلا استواء حقيقياً كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى ، يقول الشيخ عبد المحسن العباد في شرحه لمقدمة رسالة ابن أبي زيد :
    ( لَمَّا ذكر ابن أبي زيد – رحمه الله – أنَّ من أسماء الله العليّ، وقد ذكره قريباً مقترناً باسم العظيم، وباسم الكبير، بيَّن في هذا أنَّ علوَّ الله عزَّ وجلَّ وفوقيَّتَه على عرشه أنَّه علوٌّ بالذَّات ، كما أنَّه عليٌّ بالقدر وعليٌّ بالقهر، وإنَّما نصَّ على علوِّه على عرشه بذاته لمَّا وُجد من يقول : إنَّ علوَّ الله علوُّ قدرٍ وعلوُّ قهرٍ، وأوَّلَ علوَّه على عرشه باستيلائه عليه ، وأنَّه ليس على العرش حقيقةً بذاته ، فعبَّر بعلوِّ الذَّات ردًّا على من قال: إنَّه علوٌّ مجازيٌّ وليس بحقيقيّ ، وهذا نظيرُ قولِ السَّلف عن القرآن إنَّه غيرُ مخلوقٍ لمَّا وُجد من يقول : إنَّه مخلوقٌ .
    وأمَّا قوله: " وهو في كلِّ مكانٍ بعلمه " فهو لنفي القولِ بالحلول والاتِّحاد ، وهو أنَّ اللهَ حالٌّ في المخلوقات ، متَّحدٌ معها ، مختلِطٌ بها ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ الخالقُ ، وكلُّ ما سواه مخلوقٌ ، والمخلوقاتُ كلُّها كانت عدماً فأوجدها اللهُ، ووُجودُها مبايِنٌ لوجودِ الله، وهو سبحانه وتعالى بائنٌ من خلقه، ليست المخلوقاتُ حالَّةً في الله، ولا الخالقُ حالاًّ في المخلوقات .
    ومعيَّةُ الله فُسِّرتْ بأنَّها معيَّةٌ بالعلم ، كما قال ابنُ أبي زيد القيرواني هنا، قال اللهُ عزَّ وجلَّ : "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "
    فقد بُدئت هذه الآيةُ بالعلم، وخُتمت بالعلم .
    قال شيخ الإسلام في الواسطية : ( ... وما ذُكر في الكتاب والسُّنَّة من قُربه ومعيَّته لا يُنافي ما ذُكر من علوِّه وفوقيَّته ؛ فإنَّه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليٌّ في دُنُوِّه ، قريبٌ في علُوِّه ).
    ويشيرُ شيخُ الإسلام رحمه اللهُ بالجملة الأخيرة وهي قولُه: ( عليٌّ في دُنُوِّه، قريبٌ في علُوِّه ) إلى ما جاء في حديث نُزول الرَّبِّ إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلثُ الآخر من الليل، وحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم (1348): أنَّ رسول الله قال: ( ما من يوم أكثر من أن يُعتقَ اللهُ فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنَّه لَيَدنو، ثمَّ يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ )) اهـ مختصراً من كتاب قطف الجنى الداني شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني .
    4) الأمر الرابع : نقل الدكتور قيس – أصلحه الله - كلام الشاطبي في الاعتصام : " قال الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام (1/158) : إذا نظرنا في رسومهم التي حدُّوا... " ونقله هذا أشكل على من يقرؤه كيف يمدح الشاطبي الصوفية الزنادقة أمثـال ابن عربي والحلاج وابن سبعين ؟
    والجواب أن الدكتور قيس أصلحه الله جعل الأمر ملتبساً حينما أقحم هذا التعليق والنقل من كلام الشاطبي في سياق حديث للمصنف – سامحه الله - عن أسماء صوفية من مثل الحلاَّج وابن عربي وابن سبعين .
    وإذا أردنا أن نزيل اللبس لا بد أن نبين للقراء أولاً : معنى كلمة "التصوف" ، وعند شرحنا لهذه الكمة يتجلى الأمر ويزال اللبس .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    (واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف هذا هو الصحيح ، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء ، وقيل إلى صوفة بن أد بن طانجة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك ، وقيل إلى أهل الصُّفة ، وقيل إلى الصفا ، وقيل إلى الصفوة ، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله ؛ وهذه الأقوال : ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل صفي أو صفائي أو صفوي أو صفي ولم يقل صوفي) مجموع الفتاوى (11/5-6 )
    وقال رحمه الله :
    (وأما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك) . مجموع الفتاوى ( 11 / 5 ) .
    وقد سئل علماء اللجنة الدائمة :
    هل يوجد في الإسلام طرق متعددة مثل : الطريقة الشاذلية ، والطريقة الخلوتية ، وغيرهما من الطرق ، وإذا وجدت هذه الطرق فما هو الدليل على ذلك ؟ وما معنى قول الحق تبارك وتعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وما معنى قوله أيضاً : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ما هي السبل المتفرقة ، وما هو سبيل الله ، ثم ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه عنه ابن مسعود أنه خط خطّاً ثم قال : " هذا سبيل الرشد " ثم خطَّ عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : " هَذِه سُبُل ، على كل سَبِيل مِنْهَا شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهِ " ؟ فأجابوا :
    لا يوجد في الإسلام شيء من الطرق المذكورة ، ولا من أشباههما ، والموجود في الإسلام هو ما دلت عليه الآيتان والحديث الذي ذكرتَ وما دلَّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، كلها في النار إلا واحدة " ، قيل : من هي يا رسول الله ؟ قال : " مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً ، لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وهم على ذلك " والحق هو اتباع القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الصحيحة الصريحة ، وهذا هو سبيل الله ، وهو الصراط المستقيم ، وهو قصد السبيل ، وهو الخط المستقيم المذكور في حديث ابن مسعود ، وهو الذي درج عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وعن أتباعهم من سلف الأمَّة ومن سار على نهجهم ، وما سوى ذلك من الطرق والفِرق هي السبل المذكورة في قوله سبحانه وتعالى : { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 283 ، 284 ) .
    وبعد هذا يتبين أنه إذا وجد ثناء من بعض الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية أو الشاطبي أو غيرهما على تصوف – أي تعبد - بعض رموز التصوف كالجنيد والفضيل وغيرهما فإنه لا يقصد به التصوف الموجود الآن فصوفية اليوم صوفية ضلال وانحراف والعياذ بالله .
    والولاية الحقيقية هي التي جاءت في قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فمن اتقى وآمن واتقى فهو ولي من أولياء الله تعالى كما قال جل وعلا ، أما أصحاب الطرق الضالة البدعية فتكون الولاية للمجانين والمجذوبين والسحرة والمشعوذين بمجرد أن يظهر على أيديهم شيء فيما يبدو للناس أنه من خوارق العادات وإلا فهو شعوذة ودجل .
    (والمتقون : هم أولياء اللّه، ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان .
    وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء . فالرافضة تزعم أن الأثني عشر إماماً معصومون من الخطأ والذنب .
    ويرون هذا من أصول دينهم ، والغالية في المشائخ قد يقولون : إن الولي محفوظ والنبي معصوم . وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه ؛ فحاله حال من يرى أن الشيخ والولي لا يخطئ ولا يذنب ؛ وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه ، وإن زاد الأمر جعلوا له نوعًا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية . فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم اللّه عليه في القرآن؛ وجعل ذلك عبرة لنا؛ لئلا نسلك، سبيلهم، ولهذا قال سيد ولد آدم : (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ) رواه أحمد ، وأما ( الفقراء ) الذين ذكرهم اللّه في كتابه فهم صنفان : مستحقو الصدقات، ومستحقو الفيء . أما مستحقو الصدقات فقد ذكرهم اللّه في كتابه في قوله : " إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكم " وفي قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } ... وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم، لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها ، فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء ، وإن لم يكن من أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم، فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم . ومن هنا قال الفقراء : ( ذهب أهل الدثور بالأجور ) وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية، وامتازوا عنهم بالعبادات المالية : { ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فهذا هو الفقير في عرف الكتاب والسنة . وقد يكون الفقراء سابقين ، وقد يكونون مقتصدين ، وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء، وفي كلا الطائفتين : المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق .
    وأما المستأخرون فـ : "الفقير" في عرفهم عبارة عن السالك إلى اللّه تعالى ، كما هو الصوفي في عرفهم أيضًا ، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي على مسمى الفقير لأنه عنده الذي قام بالباطن والظاهر ومنهم من يرجح مسمي الفقير ؛ لأنه عنده الذي قطع العلائق ، ولم يشتغل في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات لفظية اصطلاحية . و التحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين ، داخل في مسمى الصديق ، والولي والصالح ، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة ، فمن حيث دخل في الأسماء النبوية ، يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة ، وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلًا وليس بفضل ، أو مما يوالي عليه صاحبه غيره ، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدين والدنيا ، فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات كالصناعات ، فهذا لا بأس به، بشرط ألا يعتقد أن تلك المباحات من الأمور المستحبات . وإما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين اللّه : من أنواع البدع والفجور . فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة) .اهـ مجموع الفتاوى (11/67-70)
    وفيما نقلت هنا رد على بعض ما ورد من كلام المصنف في فصل : التسليم للفقراء- أي الصوفية – ص147-148
    • الوقفة الثالثة : حكم التلفظ بالألفاظ التالية : أنا هو ، وهو أنا ، ياهو (في الاستغاثة بالله) ، شيء، وعين، وثابت، وحق، وذات (إطلاقها على الله) ، بخير من الله ، بشر من نفسي ، وهذا إشعار باعتقاد الفاعلية .
    1) حكم قول أنا هو وهو أنا : هذه كلمة كفرية ، قتل الحلاج بسببها .
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين ، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله : أنا الله ، وقوله : إله في السماء وإله في الأرض . وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا إله إلا الله ، وأن الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق و " إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا " ، وقال تعالى : "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ " الآيات، وقال تعالى : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ "فالنصارى الذين كفرهم الله ورسوله، واتفق المسلمون على كفرهم بالله ورسوله، كان من أعظم دعواهم الحلول والاتحاد بالمسيح ابن مريم ، فمن قال بالحلول والاتحاد في غير المسيح ـ كما تقوله الغالية في علي وكما تقوله الحلاجية في الحلاج ، والحاكمية في الحاكم ، وأمثال هؤلاء ـ فقولهم شر من قول النصارى؛ لأن المسيح ابن مريم أفضل من هؤلاء كلهم . وهؤلاء من جنس أتباع الدجال، الذي يدعى الإلهية ليتبع ، ... فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلها، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج . ومن قال : إن الله نطق على لسان الحلاج، وإن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسانه : أنا الله، فهو كافر باتفاق المسلمين، فإن الله لا يَحِل في البشر، ولا تكلم على لسان بشر) مجموع الفتاوى ( 2/480 )
    قارن بين هذا وبين يتأول لهم صريح مقالات الصوفية الكفرية عياذاً بالله .
    2) يا هو (في الاستغاثة بالله) :
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    وأما الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً : فليس بكلام تام ، ولا جملة مفيدة ، ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي ولم يذكر ذلك أحدٌ مِن سلف الأمة ، ولا شَرعَ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة ، ولا حالاً نافعاً ، وإنما يعطيه تصوراً مطلقاً لا يُحكم عليه بنفي ولا إثبات فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة ، والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره . وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنونٍ مِن الإلحاد ، وأنواع مِن الاتحاد كما قد بسط في غير هذا الموضع . (مجموع الفتاوى " (10 / 226 - 229)) .
    سئلت اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز : هل يجوز أن تدعو الله بـ (يا هو) يعني الله ضميرا مستترا تقديره : هو الله؟
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه . . وبعد :
    جـ : ضمائر المتكلم والخطاب والغيبة كناية عن المتكلم أو المخاطب أو الغائب مطلقا فليست أسماء لله لغة ولا شرعًا ؛ لأنه لم يسم بها نفسه ، فدعاؤه بها تسمية ونداء وذكر له بغير أسمائه فلا يجوز ولأنه إلحاد في أسمائه بتسميته بما لم يسم به نفسه ، ونداء له ودعاء بما لم يشرعه وقد نهى سبحانه عن ذلك فقال : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
    انظر بعد هذا إلى قول المصنف " زروق" - عفا الله عنه - حين قال : " كما أنه لا يجوز: ياهو، إلا إلى رجل استغرق في التعظيم ، حتى لم يبق من رسومه غير الإشارة ، ولم يجد حاله إلا في الإبهام ، وهذا محكوم عليه ، فيسلم له ، كما نص عليه أئمة هذا الشأن " والبدعة لا تجوز بحال ، فلماذا هنا تجوز عند زروق لأحوال الاستغراق في الذكر عند الصوفية ، وهل أتى بأثرة من كتاب أو سنة يستدل بها على ما أراده – سامحه الله ! وعفا عنه !
    3) حكم قول : شيء ، وعين ، وثابت ، وحق ، وذات (إطلاقها على الله) :
    أ) شيء : لفظ "الشيء" يطلق على الله عز وجل إخبارًا وهو بمعنى الموجود ، قال تعالى : : "قُل أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ويفرق بين دعائه والإخبار عنه ؛ فلا يدعى إلاَّ بالأسماء الحسنى ، وأما الإخبار عنه ؛ فلا يكون باسم سيء ، لكن قد يكون باسم حسن ، أو باسم ليس بسيء ، وإن لم يحكم بحسنه ؛ مثل اسم شيء ، وذات ، وموجود . (مجموع الفتاوى)(6/142)
    وقال ابن القيم ( ... ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي ، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيَّاً ؛ كالقديم ، والشيء ، والموجود ... )اهـ في (بدائع الفوائد)) (1/162)
    ب) عين : جاء في لسان العرب : "وعَيْنُ الشيء : نفسه وشخصه وأَصله والجمع أَعْيانٌ" ، ولذا تكون هذه الكلمة في إطلاقها على الله مثل : شيء وموجود ، وباب الأخبار أوسع من بـاب الأسماء .
    ج) ثابت : ثابت ليس من الأسماء الحسنى عند أكثر العلماء ، وقد ذكر الشيخ الشرباصي في موسوعة "له الأسماء الحسنى" اسم "المثَبِّت" وعده من الأسماء الحسنى ، واستدل على ذلك بقول الله تعالى : " يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ" ، والصواب أنه يجوز أن يطلق على الله من باب الإخبار لا الأسماء ، والله أعلم .
    د) حق : من أسمائه تعالى الحق ، قال تعالى : "فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" ، وقال : " ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ "والنبي صلى الله وسلم في استفتاحه صلاة الليل – كما في الصحيحين - يدعو بـ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقُّ وَقَوْلُكَ حَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ..)
    هـ) ذات : يصح أن نخبر عن الله بـ " الذات" لا على أنه اسماً له أو صفة ، ولكن من باب الأخبار وباب الأخبار أوسع من باب الأسماء كما تقدم نحو ذلك عن شيخ الإسلام .
    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " إنَّ إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات ، اثنتين في ذات الله" .
    و) قول : "بخير من الله ، بشر من نفسي " وهذا إشعار باعتقاد الفاعلية :
    هذه الكلمة :"بخير من الله ، بشر من نفسي " : فيما يظهر لي أنه لا عيب على قائلها ولا تثريب ، فقد قال الله تعالى : " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" وقال : "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ" ، جاء في تفسير الآية عند ابن كثير : (ثم قال تعالى -مخاطبًا -للرسول [صلى الله عليه وسلم] والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب: " مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ " أي: من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته " وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ " أي: فمن قبلك، ومن عملك أنت كما قال تعالى: " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ " قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جُريج ، وابن زيد: " فَمِنْ نَفْسِكَ " أي: بذنبك . وقال قتادة: " مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ " عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق، إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر" وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح: "والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه".
    •أما قول المصنف : " وهذا إشعار باعتقاد الفاعلية" : تقدم أن هذا ما يعتقده الجبرية الجهمية [ راجع الملاحظة الخامسة فقد علقت عليها بما يكفي إن شاء الله ] .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الرابعة عشرة :
    قال بعض العلماء رضي الله عنهم : يعتقد في أهل البيت أن الله تجاوز عن جميع سيئاتهم ، لا بعمل عملوه ولا بصالح قدموه ، بل بسابق عناية من الله ، فلا يحل لمسلم أن يشنأ ، ولا أن ينتقص عرض من شهد الله بتطهيره ، وذهاب الرجس عنه ، وما نزل بنا من قبلهم من الظلم ، والجور ، فننزله منزلة القضاء الوارد من الله تعالى ، كالغرق ، والحرق ، ونحو ذلك ، إذ لهم من الحرمة ما لسيدهم الذي نسبوا إليه ، وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذَينَ يُبايِعونَكَ إِنَّما يُبايِعونَ الله) وقال عز من قائل : (النَّبِيُّ أَولى بِالمُؤمِنينَ مِن أَنفُسِهِم) فأما قوله تعالى: (مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةِ) . فمقابله (وَمَن يَقنُت مِنكٌنَّ). نعم وهو تعليق حكم ، بفعل هن بريئات منه . نعم ولا يلوم من الوعيد المطلق نفوذه لا سيما في جان دليل فيه على خلاف ذلك . وما توجه عليهم من الحدود، والتعزيرات، فأيدينا فيه يد الله ، ونحن فيه معهم ، كالعبد مع ابن سيده . (زروق) ص125-126
    ( التعليق ) :
    وقول المصنف هنا فيما نقله عن ابن عربي - صاحب وحدة الوجود - معارض بما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) « يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لاَ أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِى عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِى بِمَا شِئْتِ لاَ أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا » ، وأهل البيت كغيرهم ، أين الدليل الصريح على أن الله (تجاوز عن جميع سيئاتهم ، لا بعمل عملوه ولا بصالح قدموه ...) وقد قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : "اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ " والتفاضل عند الله بالتقوى والعمل الصالح " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " ، يقول الشيخ عبد المحسن العباد – حفظه الله - : ( عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين الإفراطِ والتَّفريط، والغلُوِّ والجَفاء في جميعِ مسائل الاعتقاد، ومِن ذلك عقيدتهم في آل بيت الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم يَتوَلَّونَ كلَّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نَسْل عبدالمطلِّب، وكذلك زوجات النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جميعاً، فيُحبُّون الجميعَ، ويُثنون عليهم، ويُنْزلونَهم منازلَهم التي يَستحقُّونَها بالعدلِ والإنصافِ، لا بالهوى والتعسُّف، ويَعرِفون الفضلَ لِمَن جَمع اللهُ له بين شرِف الإيمانِ وشرَف النَّسَب ، فمَن كان من أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقواه، ولصُحبَتِه إيَّاه، ولقرابَتِه منه صلى الله عليه وسلم . ومَن لَم يكن منهم صحابيًّا، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقواه، ولقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَرَون أنَّ شرَفَ النَّسَب تابعٌ لشرَف الإيمان، ومَن جمع اللهُ له بينهما فقد جمع له بين الحُسْنَيَيْن، ومَن لَم يُوَفَّق للإيمان، فإنَّ شرَفَ النَّسَب لا يُفيدُه شيئاً، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر حديث طويلٍ رواه مسلم في صحيحه (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ومَن بطَّأ به عملُه لَم يُسرع به نسبُه" . وقد قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث في كتابه جامع العلوم والحكم (ص:308) : ((معناه أنَّ العملَ هو الذي يَبلُغُ بالعبدِ درجات الآخرة، كما قال تعالى: "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا"، فمَن أبطأ به عملُه أن يبلُغَ به المنازلَ العاليةَ عند الله تعالى لَم يُسرِع به نسبُه، فيبلغه تلك الدَّرجات؛ فإنَّ اللهَ رتَّب الجزاءَ على الأعمال لا على الأنساب، كما قال تعالى: "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ"، وقد أمر الله تعالى بالمسارعةِ إلى مغفرتِه ورحمتِه بالأعمال، كما قال: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ" الآيتين، وقال: "إِنَّ الَّذِينَ هُم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ")) ثمَّ ذَكَرَ نصوصاً في الحثِّ على الأعمالِ الصالِحَة ، وأنَّ ولايةَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم إنَّما تُنالُ بالتقوى والعمل الصَّالِح، ثمَّ ختَمها بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح البخاري (5990) وصحيح مسلم (215) ، فقال :
    ((ويشهد لهذا كلِّه ما في الصحيحين عن عمرو بن العاص أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنَّما وليِّيَ اللهُ وصالِحُ المؤمنين" يشير إلى أنَّ ولايتَه لا تُنال بالنَّسَب وإن قَرُب، وإنَّما تُنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكملَ إيماناً وعملاً فهو أعظم ولايةً له، سواء كان له منه نسبٌ قريبٌ أو لم يكن ، وفي هذا المعنى يقول بعضُهم :
    لعـمرُك مـا الإنـسانُ إلاَّ بدينه فلا تترك التقوى اتِّكالاً على النَّسب
    لقد رفع الإسلامُ سلــمانَ فارسٍ وقد وضع الشركُ النَّسِيــبَ أبا لهب).
    (كتاب مُجملُ عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في أهل البيت فصل من كتاب فضل آل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة للشيخ عبد المحسن العباد البدر)
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة الخامسة عشرة :
    وأما تدبر آيات الكتاب العزيز فله شروط ثلاثة : أحدها العلم بغريبه ، وما لا بد له من أحكامه ، من غير إفراط . وعدم التقيد بالمحفوظ من التفاسير ، بعد إثبات أحكامها . والنظر في كل مقام بحسبه ، فللقرآن ظاهر وهو للنحاة والقراء ، وباطن هو لأصحاب المعاني وحد وهو للفقهاء ، ومطلع (5) وهو للعلماء ، أهل الذوق والشهود. (زروق) ص131
    ح(5)ص131 ذكر الإمام الغزالي في الإحياء حديث : "إن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً" قال العراقي (1/99) : أخرجه ابن حبان في صحيحه اهـ ، وهذه العلوم لا تعارض بينها بل بينها تكامل ، ولذا قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء (1/100) : من قال : إن الحقيقة تخالف الشريعة ، أو الباطن يناقض الظاهر ، فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان اهـ (قيس)
    ( التعليق ) :
    الذي وجدته عند ابن حبان حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُنْزِلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ لكُلِّ حَرْفٍ منها ظَهْرٌ وبَطْنٌ ولكُلِّ حَرْفٍ حَد ولِكُلِّ حَدَ مُطَّلَعٌ " وهو حديث أخرجه ابن جرير ، وابن حبان ، والطبرانى وغيرهم ، واختلف في تصحيح هذا الحديث فصححه أناس وضعفه آخرون ، وعلى فرض صحته فليس معناه على ما يذهب إليه الصوفية والرافضة من أن للدين ظاهراً وباطناً ، فالظاهر -عندهم - هو الذي يفهمه العامة ، وأما الباطن فهو الحقيقة الباطنة ولا يفهمها إلا الأئمة والأولياء ... فعند الشيعة في قوله تعالى مثلاً : " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ " قالوا : البحران : هما علي وفاطمة و "يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ " هما : الحسن والحسين !!
    وعند الصوفية : - كما أورده ابن عربي في كتابه الفصوص – في قوله تعالى : " يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً " : قال هي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري ، " وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ " : أي بما يميل بكم إليه , فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه , فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف ، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف ؛ فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم . اهـ
    (ومن تحريفات بعض المتصوفة في كلام الله : قول بعضهم في قوله تعالى : "مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه" أن معناه "من ذل" أي من الذل ، "ذي" : إشارة إلى النفس ، "يشف" : من الشفا جواب من ، و"ع" أمر من الوعي . وقد سئل الإمام سراح الدين البلقيني : عمن قال هذه : فأفتى بأنه ملحد ، وقد قال الله تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا" ، قال ابن عباس : هو أن يوضع الكلام على غير موضعه ) اهـ (الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير / الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة رحمه الله)
    ومعنى حديث ابن مسعود – والله أعلم – هو : أن ظاهر القرآن هو تفسير القرآن بالمفهوم العربي الذي يفهمه القارئ للقرآن من ألفاظه وحروفه لأول وهلة ، وهو (واضح جلي) ، يكون غالباً باق على إطلاقه وعمومه ، وأما المعنى الباطن هو المعنى الذي يريده الله من كلامه ( وقد يكون ذا معنى خفي) وهذا يفهمه أولو العلم الذين رسخوا فيه وعلموا التأويل كابن عباس مثلاً .
    يقول الإمام الشاطبي في الموافقات :
    (وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه ، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر ; فصحيح ولا نزاع فيه ، وإن أرادوا غير ذلك ; فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلومًا عند الصحابة ومن بعدهم ; فلابد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب ، فلا يكون ظنيًا ، وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل ، وإذا تقرر هذا ; فلنرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله
    وله أمثلة تبين معناه بإطلاق : فعن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتدخله ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر : إنه من حيث تعلم فسألني عن هذه الآية : : "إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ" فقلت : إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه ، وقرأ السورة إلى آخرها فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم ، فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذا نصره الله وفتح عليه ، وباطنها أن الله نعى إليه نفسه . ولما نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً " فرح الصحابة وبكى عمر ، وقال : ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعرًا نعيه عليه الصلاة والسلام ، فما عاش بعدها إلا واحداً وثمانين يومًا ...)اهـ (الموافقات 4/210)
    يقول البغوي في تفسيره عندما أورد هذا الحديث تحت فصل : "وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم" : (واختلفوا في تأويله قيل الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله . وقيل الظهر ما حدث عن أقوام أنهم عصوا فعوقبوا فهو في الظاهر خبر وباطنه عظة وتحذير أن يفعل أحد مثل ما فعلوا فيحل به ما حل بهم وقيل معنى الظهر والبطن التلاوة والتفهم ، يقول لكل آية ظاهر وهو أن يقرأها كما أنزلت قال الله تعالى " وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً " وباطن وهو التدبر والتفكر قال الله تعالى " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ " ثم التلاوة تكون بالتعلم والحفظ بالدرس والتفهّم يكون بصدق النيّة وتعظيم الحرمة، وطيب الطعمة، وقوله: «لكل حرف حد» أراد به: له حد في التلاوة والتفسير لا يجاوز، ففي التلاوة لا يجاوز المصحف وفي التفسير لا يجاوز المسموع، وقوله : «لكل حد مطلع»، أي: مصعد يصعد إليه من معرفة علمه، ويقال: المطلع الفهم، وقد يفتح اللّه على المدبّر والمتفكر في التأويل والمعاني ما لا يفتحه على غيره ...) اهـ (تفسير البغوي 1/69)
    فإن كان المصنف يريد من كلامه :" فللقرآن ظاهر وهو للنحاة والقراء ، وباطن هو لأصحاب المعاني وحد وهو للفقهاء ، ومطلع وهو للعلماء ، أهل الذوق والشهود" إن كان يريد المعنى الصحيح للظاهر والباطن والحد والمطلع فحيهلا به ، وإن كان يريد ما أراد الصوفية – وهو منهم - من الظاهر والباطن فمردود على قائله والحق أحق أن يتبع ، وكان ينبغي الدكتور قيس أن يفصل في هذه المسألة المهمة ولا يجمل الأمر إجمالاً .
    .................................................. ........................................
    *الملاحظة السادسة عشرة :
    وما أحسن قول القائل مستغيثا بهم (3) :
    يا عِبادَ الإِلَهِ إِنَّ عَبيــداً .... لاذَ مِن أَجلِكُم بِرُكنٍ قَوي
    فاقبَلَوهُ بِفَضلِكُم وَارحَموهُ ... وَاشفَعوا فيهِ لِلإِلَهِ العَــلي (زروق) ض149
    ح(3)ض149 منع ابن تيمية رحمه الله نداء الميت وطلب شفاعته واعتبره من أفعال المشركين والنصارى وأنه لم يشرع لنا (قيس)
    ( التعليق ) :
    يحتمل القارئ من قولك يا دكتور قيس : " منع ابن تيمية رحمه الله نداء الميت وطلب شفاعته واعتبره من أفعال المشركين والنصارى وأنه لم يشرع لنا " أحد احتمالين لا ثالث لهما :
    • إما إنك لا تعرف مصادر التشريع التي عن طريقها تستنبط الأحكام .
    • أو إنك ترى أن المسألة اجتهادية يجري فيها الخلاف ، وأنه لم يحرم الاستغاثة بالأموات وطلب شفاعتهم من علماء الدنيا قاطبة إلا ابن تيمية .
    فـ:
    1) على فرض أنك – في الاحتمال الأول- لم تعرف مصادر التشريع التي عن طريقها تستنبط الأحكام فأريد أن أبين لك هنا مصادر التشريع إذا كنت قد جهلتها أو نسيتها .
    مصادر التشريع الإسلامي - يا دكتور قيس - الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ؛ إذ أن أي مسألة أو قضية يراد أن نبين الحكم فيها : لا نقول حرّم فلان وفلان أو أجاز فلان وفلان ، بل نقول : قال الله جل وعلا وقال رسوله صلى الله عليه وسلم .
    وبعد الكتاب والسنة يأتي المصدران التابعان لهما وهما : الإجماع والقياس .
    قال الإمام الشافعي رحمه الله : " وليس لأحد أبداً أن يقول في شيء : حَلَّ ولا حَرُم إلا من جهة العلم ، وجهة العلم : الخبر في الكتاب أو السنة ، أو الإجماع ، أو القياس " اهـ" كتاب الرسالة للشافعي "
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "إذا قلنا الكتاب والسنة والإجماع ، فمدلول الثلاثة واحد ، فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له ، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة ، فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب ، وكذلك كل ما سنَّه الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه ، والمؤمنون مجمعون على ذلك ، وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون ، فإنه لا يكون إلا حقا موافقا لما في الكتاب والسنة" مجموع الفتاوى (7/40)
    ففي مسألتنا هذه لنبين الحكم الشرعي من مصادره الأصيلة ، بعد التعريف بمعناه :
    الاستغاثة هي : طلب الغوث ، وهو إزالة الشدة ، كالاستنصار طلب النصر ، والاستعانة طلب العون
    والاستغاثة بغير الله نوعان :
    - إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله – كطلب الشفاعة والمغفرة والرحمة والرزق والولد - فهي شرك أكـبر .
    - وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق فهي جائزة ، كما حصل من صاحب موسى إذِ استغاث بموسى عليه السلام .
    والاستغاثة بغير الله – فيما لا يقدر عليه إلا الله - كفر مخرج من الملة ، قال تعالى : " وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" وقال تعالى واصفاً حال المشركين : "فإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ" وقد حكى عنهم قولهم : " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى" ، وقولهم : "هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ " فرد الله عليهم بقوله سبحانه : "قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" ،
    قال الشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد": (فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى وصام) أ.هـ (تيسير العزيز الحميد 154-155)
    2) وعلى فرض الاحتمال الثاني ، فلنبين – هنا - أنه ليس ابن تيمية رحمه الله وحده الذي منع الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فكل عالم استنار بأنوار الشريعة قولاً وعملاً واعتقاداً يقول بهذا القول ، بل قد أجمع علماء المذاهب الأربعة وغيرهم – من علماء السنة والحديث- على أن دعاء غير الله شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام :
    فمن أقوال الحنفية :
    1) قال الشيخ محمد عابد السندي الحنفي في كتابه « طوالع الأنوار شرح تـنوير الأبصار مع الدر المختار » ما نصه : "ولا يقول : "يا صاحب القبر ، يا فلان ؛ اقض حاجتي ، أو سلها من الله ، أو كن لي شفيعاً عند الله ، بل يقول : يا من لا يشرك في حكمه أحداً اقض لي حاجتي هذه وحيداً كما خلقتني".
    2) وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألّفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفًا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة : (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعاتٌ يَدَّعُونَ أن للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد الممات، ويُستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا منهم أبدالٌ ونقباء وأوتادٌ ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو: الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس . وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور، قال: وهذا الكلام فيه تفريطٌ وإفراطٌ، بل فيه الهلاك الأَبَدِيُّ والعذاب السرمديُّ؛ لما فيه من روائحِ الشركِ المحقَّق ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة وفي التنزيل :"وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)
    ومن أقوال المالكية :
    وفي ‏"‏الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين النووية‏"‏، قال العلامة إبراهيم بن مرعي المالكي ‏:‏
    ‏("‏وإذا استعنت" : أي‏ :‏ طلبت الإعانة على أمر من أمور الدنيا والدين ، ولذا حذف المعمول المؤذن بالعموم ‏"‏فاستعن بالله‏"‏؛ لأنه القادر على كل شيء، وغيره عاجز عن كل شيء، والاستعانة إنما تكون بقادر على الإعانة ، وأما من هو كلٌّ على مولاه لا يقدر على إنفاذ ما يهواه لنفسه فضلًا عن غيره، فكيف يؤهل للاستعانة أو التمسك بسببه ‏؟‏‏!‏ ومن كان عاجزًا عن النفع والدفع عن نفسه، فهو عن غيره أو أعجز، ليت الفحل يهضم نفسه‏ .‏ فاستغاثة مخلوق بمخلوق كاستعانة مسجون بمسجون ، فلا تستعن إلا بمولاك فهو دليلك في أخراك وأولاك ، كيف تستعين بعبد مع علمك بعجزه ‏؟‏‏!‏ فمن لا يستطيع دفع نازلة عن نفسه كيف يدفعها عن غيره ، من أبناء جنسه‏ ؟‏‏!‏ فلا تنتصر إلا به فهو الولي الناصر ، ولا تعتصم إلا بحبله فإنه العزيز القادر‏)‏ اهـ‏
    ومن أقوال الشافعية :
    وقال العلامة تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في كتابه تجريد التوحيد المفيد :
    (... الشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك ، وهو شرك عباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعباد المشايخ وعباد الصالحين الأحياء منهم والأموات . الذين قالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ويشفعوا لنا عنده وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته ، والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله وتنص على أنهم أعداء الله، وجميع الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم ، وما أهلك الله تعالى أمة من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله) .اهـ
    ومن أقوال الحنابلة :
    قال العلامة منصور البهوتي في كشاف القناع في باب حكم المرتد :
    ( "فمن أشرك بالله ... أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعًا ") أي كفر لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين : " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " .
    قال الشيـخ تقي الدين رحمه الله :
    ( فكل من غلا في نبي أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلـهية ، مثل أن يدعوه من دون الله ، بأن يـقول : "يا سيدي فلان أغثني ، أو أجرني ، أو أنت حسبي ، أو أنا في حسبك" ؛ فكل هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا قتل ، فإن الله أرسل الرسل ليُـعبد وحده ، لا يُـجعل معه إلـه آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، مثل الملائكة أو المسيح أو العزير أو الصـالحين أو غيرهم ؛ لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق ، وإنما كانوا يدعونهم ، يقولون " هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ " فبعث الله الرسل تنهى أن يُدعى أحد من دون الله ، لا دعاء عبادة ، ولا دعاء استغاثة . اهـ (مجموع الفتاوى 3/363-430) باختصار
    وسئلت اللجنة الدائمة :
    هل الاستغاثة بالغائب أو بالميت كفر أكبر‏ ؟‏
    نعم‏ ,‏ الاستغاثة بالأموات أو الغائبين شرك أكبر يخرج من فعل ذلك من ملة الإسلام‏ ;‏ لقوله سبحانه ‏:‏ ‏"‏ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيـرٍ ‏"‏ . وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد‏ ,‏ وآله وصحبه وسلم ‏.‏ (فتاوى اللجنة 1/57)
    .................................................. ........................................
    تم بحمد الله وتوفيقه ما أردته من الرد على كتاب "النصيحة الكافية" في أصله لـ :" زرُّوق" ، وحاشيته للدكتور قيس المبارك .
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
    الصور المرفقة الصور المرفقة

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    الدولة
    الاحساء
    المشاركات
    3
    أرجوا من المشرفين نقله الى العام

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •