بسم الله الرحمن الرحيم
قصة الخضر مع موسى ومحلها في أثناء قصص موسى

وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم في بني إسرائيل مقاما عظيما ، علَّمهم فيه علوما جَمَّة ، وأعجب الناس بكمال علمه ، فقال له قائل : يا نبي الله ، هل يوجد ، أو هل تعلم في الأرض أحدا أعلم منك ؟ فقال : لا ، بناء على ما يعرفه ، وترغيبا لهم في الأخذ عنه ، فأخبره الله أن له عبدا في مجمع البحرين عنده علوم ليست عند موسى ، وإلهامات خارجة عن الطور المعهود ، فاشتاق موسى إلى لقياه رغبة في الازدياد من العلم ، فطلب من الله أن يأذن له في ذلك ، وأخبره بموضعه وتزودا حوتا وقيل له : إذا فقدت الحوت فهو في ذلك المكان ، فذهب فوجده ، وكان ما قص الله من نبأهما في الكهف :
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [إلى قوله] : ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف : 60 - 82] .
وفي هذه القصة من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير ننبه على بعضه بعون الله ، ونذكر المهمّ منه .
فمنها : ما اشتملت عليه القصة من فضيلة العلم وشرفه ، ومشروعية الرحلة في طلبه ، وأنه أهم الأمور ؛ فإن موسى رحل في طلبه مسافة طويلة ، ولقي في ذلك النصب ، وترك الإقامة عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم ، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك .
ومنها : البداءة في العلم بالأهم فالأهم ، فإن زيادة علم الإنسان بنفسه أهم من ترك ذلك اشتغالا بالتعليم فقط ، بل يتعلم ليعلم .
ومنها : جواز أخذ الخادم في السفر والحضر لكفاية المؤن وطلب الراحة ، كما فعل موسى صلى الله عليه وسلم .
ومنها : أن المسافر بطلب العلم أو الجهاد أو غيرهما من أسفار الطاعة ، بل وكذلك غيرهما إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه وأين مراده ، فإنه أكمل من كتمه ، فإن في إظهاره من فوائد الاستعداد له عدته ، وإتيان الأمر على بصيرة ، والإعلان بالترغيب لهذه العبادة الفاضلة لقول موسى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ولما غزا صلى الله عليه وسلم تبوك أخبر الناس بمقصده ، مع أنه كان في الغالب إذا أراد غزوة ورى بغيرها تبعا للمصلحة في الحالتين .
ومنها : إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، وكذلك النقص ، لقول فتى موسى : وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ .
ومنها : جواز إخبار الإنسان عما يجده مما هو مقتضى الطبيعة البشرية ، من نصب أو جوع أو عطش ، إذا لم يكن على وجه التسخط ، وكان صدقا لقوله : لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا .
ومنها : أنه ينبغي أن يتخذ الإنسان خادما ذكيا فطنا كيِّسا ليتم له أمره الذي يريد .
ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله ، وأكلهما جميعا ؛ لأن ظاهر قوله : آتِنَا غَدَاءَنَا أنه للجميع ، ومنها : أن المعونة تنزل على العبد بحسب قيامه بالأمر الشرعي ، وأن ما وافق رضا الله يعان عليه ما لا يعان على غيره لقوله : لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا والإشارة إلى السفر المجاوز لمجمع البحرين ، وأما الأول فلم يشتك منه مع طوله .
ومنها : أن ذلك العبد الذي لقياه ليس نبيا ، بل هو عبد صالح عالم ملْهَم ؛ لأن الله ذكره بالعلم والعبودية الخاصة والأوصاف الجميلة ، ولم يذكر معها أنه نبي أو رسول ، وأما قوله في آخر القصة : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي فإنه لا يدل على أنه نبي ، وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، وذلك يكون لغير الأنبياء ، قال تعالى :
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل : 68] .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [القصص : 7] .
ومنها : أن العلم الذي يعلمه الله للعبد نوعان : علم مكتسب ، يدركه العبد بطلبه وجدّه ، وعلم إلهي لدنِّي ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده ، لقوله : وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف : 65] .
فالخضر أعطي من هذا النوع الحظ الأوفر ، ومنها التأدب مع المعلم والتلطف في خطابه لقول موسى :
هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف : 66] .
فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي أم لا ؟ وإظهار حاجته إلى المعلم ، وأنه يتعلم منه ومشتاق إلى ما عنده ، بخلاف حال أهل الكبر والجفاء الذين لا يظهرون حاجتهم إلى علم المعلم ، فلا أنفع للمتعلم من إظهار الحاجة إلى علم المعلم وشكره على تعليمه .
ومنها : تواضع الفاضل للتعلم ممن هو دونه ، فإن موسى بلا ريب أفضل من الخضر .
ومنها : تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم درجات ; فإن موسى من أكابر أولي العزم من الرسل ، الذين منحهم الله ، وأعطاهم من العلوم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده ، فلهذا اشتد حرصه على التعلم منه .
ومنها : أنه يتعين إضافة العلم وغيره من الفضائل إلى فضل الله ورحمته ، والاعتراف بذلك ، وشكر الله عليه لقوله : تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا .
ومنها : أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ، وكل علم فيه رشد وهداية لطريق الخير ، وتحذير عن طريق الشر ، أو وسيلة إلى ذلك ، فإنه من العلم النافع ، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارا ، أو ليس فيه فائدة لقوله : أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا .
ومنها : أن من ليس له صبر على صحبة العَالم ، ولا قوة على الثبات على طريقة التعلم ، فإنه قاصر ليس بأهل لتلقي العلم ; فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى إليه ، فإن الخضر اعتذر عن موسى أنه لا يصبر على علمه الخاص .
ومنها : أن مما يعين على الصبر على الأشياء إحاطة العبد بها علما ، وبمنافعها وثمراتها ونتائجها ، فمن لا يدري هذه الأمور يصعب عليه الصبر لقوله : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا .
ومنها : الأمر بالتأنِّي والتثبت وعدم المبادرة على الحكم على الأشياء حتى يعرف ما يراد منه ، وما هو المقصود .
ومنها : مشروعية تعليق إيجاد الأمور المستقبلة على مشيئة الله لقوله : سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ، وإن العزم على الشيء ليس بمنزلة فعله ، فموسى عزم على الصبر ، ولكن لم يفعل .
ومنها : أن المعلم إذا رأى من المصلحة أن يخبر المتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ، فإن المصلحة تتبع ، كما إذا كان فهمه قاصرا ، أو نهاه عن التدقيق الشديد أو الأسئلة التي لا تتعلق بالموضوع ، ومنها : جواز ركوب البحر إذا لم يكن في ذلك خطر .
ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ ، لا في حق الله ولا في حق العباد ، إلا إن ترتب على ذلك إتلاف مال ، ففيه الضمان حتى على الناسي لقوله : لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ .
ومنها : أنه ينبغي للعبد أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون ، أو يشق عليهم أو يرهقهم ، فإن هذا داع إلى النفور ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر .
ومنها : أن الأمور تجري على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في كل شيء ، فإن موسى عليه السلام أنكر على الخضر خرق السفينة ، وقتل الغلام بحسب أحكامها العامة ، ولم يلتفت إلى الأصل الذي أصَّلاه ، هو والخضر ، أنه لا يسأله ولا يعترض عليه حتى يكون الخضر هو المبتدئ .
ومنها : فيه تنبيه على القاعدة المشهورة الكبيرة ، وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الخفيف ، ويراعى أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما ; فإن قتل الغلام الصغير شر ، ولكن بقاءه حتى يبلغ ويفتن أبويه عن دينهما أعظم شرا ، وبقاء الغلام من دون قتل وإن كان في ظاهر الحال أنه خير ، فالخير ببقاء أبويه على دينهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر بعدما ألهمه الله الحقيقة ، فكان إلهامه الباطني بمنزلة البينات الظاهرة في حق غيره .
ومنها : القاعدة الكبيرة الأخرى ، وهي : أن عمل الإنسان في مال غيره - إذا كان على وجه المصلحة ودفع المضرة - يجوز بلا إذن ، حتى ولو ترتب عليه إتلاف بعض المال ، كما خرق الخضر السفينة لتعيب ، فتسلم من غصب الملك الظالم ، وتحت هاتين القاعدتين من الفوائد ما لا حصر له .
ومنها : أن العمل يجوز في البحر كما يجوز في البر ، لقوله : يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ .
ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب .
ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه ، وفي ذريته ، وما يتعلق به ، لقوله : وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا وأن خدمة الصالحين وعمل مصالحهم أفضل من غيرهم ؛ لأنه علَّل أفعاله بالجدار بقوله : وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا .
ومنها : استعمال الأدب مع الله حتى في الألفاظ ؛ فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله : فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وأما الخير فأضافه إلى الله لقوله : فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ .
وقال إبراهيم : وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء : 80] .
وقالت الجن : وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن : 10] ، مع أن الكل بقضاء الله وقدره .
ومنها : أنه ينبغي للعبد أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ويترك صحبته ، بل يفي له بذلك حتى لا يجد للصبر محلا ، وأن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكُّدها ، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة .
{{كتاب تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام للعلامة الإمام عبدالرحمن السعدي رحمه الله