جواز صيام يوم السبت مقترناً عند السلف رحمة الله عليهم
حكم صيام يوم السبت :
ذهب العلماء أنه يكره إفراد السبت للنهي عن ذلك . وإن كان الحديث فيه مقال. ومن العلماء من رأى أنه لا يكره صيام يوم السبت نظرا لضعف الحديث الوارد في النهي عنه ولورود صومه في أحاديث أخرى . وقالوا الصحيح أنه لا يكره صوم يوم السبت مفردا . أما إذا صيم مع غيره فهذا لا خلاف في أنه لا بأس به . إنما الكلام والخلاف في إفراده ، والتحريم لا يحرم وإنما الخلاف في هل يكره أو لا يكره
قال شيخ الإسلام رحمه الله الصراط :
قد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه :
قال أبوبكر الأثرم : وسمعت ابا عبدالله يُسأل عن صيام يوم السبت يفترد به ؟ فقال : أمّا صيام يوم السبت يُفترد به فقد جاء
للعلماء فيه قولين وهما :أ- يُكره صيام يوم السبت إلا الذي قُرن بيوم قبله أو بيوم بعده أو وافق عادة إنسان ما فيجوز له ذلك .
وهذا وقول الجمهور والأحناف والشافعية والنووي ومذهب الإمام أحمد.
ب- يجوز صيام يوم السبت مطلقاً . وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله [ فيض القدير للمناوي ] .
ونذكر الأن أدلة الفريقين :
أدلة الفريق الأول :
استدلوا بحديث الصمّاء بنت بُسر رضي الله عنها أنّ رسول صلى الله عليه وسلم قال : لا تصوم يوم السبت ,إلا فيما افترض عليكم ، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب , أو عود شجرة فليمضغها ) رواه الخمسة , ورجاله ثقات إلا أنّه مضطرب , وقد أنكره مالك وقال أبو داود : هو منسوخ .
ودليل الفريق الثاني :
حديث أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يصوم أحدكم يوم الجمعة , إلا يوماً قبله أو يماً بعده ) متفق عليه.
وما رواه البخاري من حديث أمّ المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها : أصمت أمس ؟ قال : لا ! قال : أتصومين غداً ؟ قالت : لا ! قال : فأفطري .
وعن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر مايصوم من الأيّام يوم السبت , ويوم الأحد , وكان يقولُ :
(( أنهما يوما عيد للمشركين , وانا أُريد أن أخالفهم )). أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وهذا لفظه .
وقد حسّنه الألباني على تعليقه برقم 2167على ابن خزيمة وضعفه في الضعيفة 1099.
فصل
فأما صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم كصوم يوم النيروز والمهرجان وهما يومان يعظمهما الفرس فقد اختلف فيهما لأجل أن المخالفة تحصل بالصوم أو بترك تخصيصه بعمل أصلا
فنذكر صوم يوم السبت أولا : وذلك أنه روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة )) ، وفي لفظ : (( إلا عود عنب أو لحاء شجرة فليمضغه)) .
رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي هذا حديث حسن وقد رواه النسائي من وجوه أخر عن خالد عن عبد الله بن بسر ورواه أيضا عن الصماء عن عائشة .
وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه :
قال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يتفرد به فقال : (( أما صيام يوم السبت ينفرد به فقد جاء في ذلك الحديث حديث الصماء يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم . قال أبو عبد الله : (( فكان يحيى بن سعيد ينفيه وأبى أن يحدثني به وقد كان سمعه من ثور قال فسمعته من أبي عاصم.
قال الأثرم : وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر ، ومنها حديث أم سلمة حين سئلت أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها فقالت : (( يوم السبت والأحد )) ، منها حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا فالغد هو يوم السبت ، وحديث أبي هريرة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة إلا بيوم قبله أو بيوم بعده فاليوم الذي بعده هو يوم السبت ، ومنها أنه كان يصوم شعبان كله وفيه يوم السبت ، ومنها أنه أمر بصوم المحرم وفيه يوم السبت وقال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر وقد يكون السبت فيها وأمر بصيام أيام البيض وقد يكون فيها السبت ومثل هذا كثير .
فهذا الأثرم فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث وأنه رخص في صومه حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة وذكر أن الإمام في علل حديث يحيى بن سعيد كان يتقيه ويأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث .
واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت ، ولا يقال يحمل النهي على إفراده لأن لفظه لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم والاستثناء دليل التناول وهذا يقتضي أن الحديث يعم صومه على كل وجه وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه فاستثناؤه دليل على دخول غيره بخلاف يوم الجمعة فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده .
وعلى هذا فيكون الحديث إما شاذا غير محفوظ وإما منسوخا وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم وأبي داود .
وقال أبو داود حديث منسوخ وذكر أبو داود بإسناده عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام السبت يقول ابن شهاب هذا حديث حمصي وعن الأوزاعي قال ما زلت له كاتما حتى رأيته انتشر بعد يعني حديث ابن بسر في صوم يوم السبت .
قال أبو داود قال مالك هذا كذب وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة .
وأما أكثر أصحابنا ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الافراد فإنه سئل عن عين الحكم فأجاب بالحديث وجوابه بالحديث يقتضي اتباعه وما ذكر عن يحيى إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم عملا بهذا الحديث بجودة إسناده وذلك موجب للعمل به وحملوه على الافراد كصوم يوم الجمعة وشهر رجب .
وقد روى أحمد في المسند من حديث ابن لهيعة حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني الصماء أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت هو يتغذى فقال تعالي تغذي فقالت إني صائمة فقال لها أصمت أمس قالت لا قال كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك ، وهذا وإن كان إسناده ضعيفا لكن تدل عليه سائر الأحاديث
وعلى هذا فيكون قوله لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صيامه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده .
وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا للمقارنة بينه وبين غيره وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك قد يقال الاستثناء أخرج بعض صور الرخصة وأخرج الباقي بالدليل ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة فعللها ابن عقيل بأنه يوم تمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك وهو ترك العمل فيه والصائم في مظنة ترك العمل فيصير صومه تشبها بهم وهذه العلة منتفية في الأحد
وعلله طائفة من الأصحاب بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له فكره ذلك كما كره إفراد عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون وهذا التعليل قد يعارض بيوم الأحد فإنه يوم عيد النصارى فإنه صلى الله عليه وسلم قال اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى وقد يقال إذا كان يوم عيد فمخالفتهم فيه بالصوم لا بالفطر ويدل على ذلك ما رواه كريب مولى ابن عباس قال أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها قالت كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم رواه أحمد وابن أبي عاصم والنسائي وصححه بعض الحفاظ وهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل قصد مخالفتهم وقد روى عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس رواه الترمذي وقال حديث حسن قال وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه .
وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره صوم يوم السبت وحده وعلل ذلك بأنهم يتركون فيه العمل والصوم مظنة ذلك فإنه إذا صام السبت والأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم
فصل
وأما النيروز والمهرجان ونحوهم من أعياد المشركين فمن لم يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم قد لا يكره صوم ذلك اليوم بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم وكرهها أكثر الأصحاب
وقد قال أحمد في رواية عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان قال أبي هو ابان بن عياش يعني الرجل وقد اختلف الأصحاب هل يدل مثل ذلك على مذهبه على وجهين ، وعللوا ذلك بأنهما يوما تعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصوم دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت ، قال الإمام أبو محمد المقدسي وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم ، وقد يقال يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام العجمية التي لا تعرف بحساب العرب بخلاف ما جاء في الحديثين من يوم السبت والأحد لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية كانت ذريعة إلى إقامة شعار هذه الايام وأحياء أمرها وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد فإنهما من حساب المسلمين فليس في صومهما مفسدة فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي توفيقا بين الآثار والله أعلم.
تعليقات الحافظ ابن قيم الجوزية
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله :
حديث عبد الله بن بسر - هذا - رواه جماعة عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء ورواه النسائي عن عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أيضا عن الصماء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة أوجه .
وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديما وحديثا . فقال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به ؟ فقال أما صيام يوم السبت يفرد به : فقد جاء فيه ذلك الحديث , حديث الصماء , يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " قال أبو عبد الله : يحيى بن سعيد ينفيه . أبي أن يحدثني به . وقد كان سمعه من ثور . قال : فسمعته من أبي عاصم . قال الأثرم : حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت : أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر . منها : حديث أم سلمة , حين سئلت : " أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها ؟ فقالت : السبت والأحد " ومنها حديث جويرية : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة : أصمت أمس ؟ قالت : لا . قال : أتريدين أن تصومي غدا ؟ " فالغد : هو يوم السبت . وحديث أبي هريرة " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة , إلا مقرونا بيوم قبله أو يوم بعده " فاليوم الذي بعده : هو يوم السبت . وقال : " من صام رمضان وأتبعه بست من شوال " وقد يكون فيها السبت . وأمر بصيام الأيام البيض , وقد يكون فيها السبت , ومثل هذا كثير فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث , وأنه رخص في صومه , حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة . وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد , وكان ينفيه , وأبى أن يحدث به , فهذا تضعيف للحديث .
واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت , يعني أن يقال : يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره . وحديث النهي على صومه وحده وعلى هذا تتفق النصوص .
وهذه طريقة جيدة , لو لا أن قوله في الحديث " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " دليل على المنع من صومه في غير الفرد مفردا أو مضافا , لأن الاستثناء دليل التناول , وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه , إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد , لقال : لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده , كما قال في الجمعة . فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها . وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها كقوله في يوم الجمعة " إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده " فدل على أن الحديث غير محفوظ وأنه شاذ . وقد قال أبو داود قال مالك : هذا كذب . وذكر بإسناده عن الزهري : أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت , يقول : هذا حديث حمصي . وعن الأوزاعي قال : ما زلت كاتما له حتى رأيته انتشر , يعني حديث ابن بسر هذا .
وقالت طائفة , منهم أبو داود : هذا حديث منسوخ .
وقالت طائفة , وهم أكثر أصحاب أحمد : محكم , وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم , وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه .
قالوا : وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل , فإنه سئل في رواية الأثرم عنه : فأجاب بالحديث . وقاعدة مذهبه : أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به , لأنه ذكره في معرض الجواب , فهو متضمن للجواب والاستدلال معا .
قالوا : وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد . فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث .
قالوا : وإسناده صحيح . ورواته غير مجروحين ولا متهمين , وذلك يوجب العمل به , وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه , لأنها تدل على صومه مضافا , فيحمل النهي على صومه مفردا , كما ثبت في يوم الجمعة .
ونظير هذا الحكم أيضا . كراهية إفراد رجب بالصوم , وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده .
ونظيره أيضا : ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان : أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول , فلا يكره .
قالوا : وقد جاء هذا مصرحا به في صوم يوم السبت ففي مسند الإمام أحمد , من حديث ابن لهيعة : حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي , يعني الصماء " أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت , وهو يتغدى . فقال : تعالي تغدي . فقالت : إني صائمة . فقال لها : أصمت أمس ؟ قالت : لا . قال كلي , فإن صيام يوم السبت لا لك , ولا عليك " وهذا - وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد , - لكن يدل عليه ما تقدم من الأحاديث . وعلى هذا : فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم " لا تصوموا يوم السبت " أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض , فإن الرجل يقصد صومه بعينه , بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت , فإنه يصومه وحده .
وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره , بخلاف قصده بعينه في النفل , فإنه يكره . ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه , أو موافقته عادة . فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا , لا المقارنة بينه وبين غيره . وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه , أو موافقته عادة , ونحو ذلك .
قالوا : وأما قولكم : إن الاستثناء دليل التناول - إلى آخره - فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي . فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم , فكلا الصورتين مخرج . أما الفرض : فبالمخرج المتصل . وأما صومه مضافا : فبالمخرج المنفصل , فبقيت صورة الإفراد , واللفظ متناول لها , ولا مخرج لها من عمومه , فيتعين حمله عليها .
قيل : قد كرهه كثير من العلماء , وأكثر أصحاب أحمد على الكراهة . قال أحمد , في رواية ابنه عبد الله : حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن : أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان , قال عبد الله قال أبي : الرجل : أبان بن أبي عياش .
فلما أجاب أحمد بهذا الجواب لمن سأله عن صيام هذين اليومين , دل ذلك على أنه اختاره . وهذه إحدى الطريقتين لأصحابه في مثل ذلك .
وقيل : لا يكون هذا اختيارا له , ولا ينسب إليه القول الذي حكاه , وأكثر الأصحاب على الكراهة , وعللوا ذلك بأنهما يومان يعظمهما الكفار , فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما , فكره كيوم السبت . قال صاحب المغني : وعلى قياس هذا : كل عيد للكفار , أو يوم يفردونه بالتعظيم .
قال شيخنا أبو العباس بن تيمية , قدس الله روحه : وقد يقال : يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب , بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد , لأنه إذا قصد صوم مثل هذا الأيام العجمية أو الجاهلية , كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها , وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد , فإنهما من حساب المسلمين , فليس في صومهما مفسدة فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي , مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي , توفيقا بين الآثار والله أعلم .
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله :
قال عبد الحق : ولعل مالكا إنما جعله كذبا من أجل رواية ثور بن يزيد الكلاعي , فإنه كان يرمى بالقدر , ولكنه كان ثقة فيما يروي . قاله يحيى وغيره . وروى عنه الجلة , مثل يحيى بن سعيد القطان وابن المبارك والثوري وغيرهم وقيل في هذا الحديث : عن عبد الله بن بسر عن عمته الصماء , وهو أصح , واسمها بهية , وقيل : بهيمة آخر كلامه .
وفي عون المعبود شرح سنن أبي داودأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصوموا يوم السبت إلا في ما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه ..
( لا تصوموا يوم السبت )
: أي وحده
( إلا فيما افترض )
: بصيغة المجهول
( عليكم )
: أي ولو بالنذر .
قال الطيبي : قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة , والمقصود مخالفة اليهود فيهما , والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور . وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة , وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء أو وافق وردا . وزاد ابن الملك : وعشر ذي الحجة أو في خير الصيام صيام داود فإن المنهي عنه شدة الاهتمام والعناية به حتى كأنه يراه واجبا كما تفعله اليهود .
قلت : فعلى هذا يكون النهي للتحريم , وأما على غير هذا الوجه فهو للتنزيه بمجرد المشابهة : قال الطيبي : واتفق الجمهور على أن هذا النهي والنهي عن إفراد الجمعة نهي تنزيه لا تحريم
( فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب )
: هكذا في بعض النسخ وفي بعضها عنبة قال في القاموس : العنب معلوم واحدته عنبة انتهى واللحاء بكسر اللام قال التوربشتي : اللحاء ممدود وهو قشر الشجر , والعنبة هي الحبة من العنب . وفي المرقاة : قشر حبة واحدة من العنب استعارة من قشر العود
( أو عود شجرة)
: عطفا على اللحاء
( فليمضغه )
: بفتح الضاد ويضم في القاموس : مضغه كمنعه ونصره لاكه بأسنانه , وهذا تأكيد بالإفطار لنفي الصوم , قاله علي القاري .
قال المنذري : قال أبو داود : هذا الحديث منسوخ , وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن هذا آخر كلامه وقيل إن الصماء أخت بسر . وروي هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حديث أبيه بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الصماء عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال النسائي : هذه أحاديث مضطربة انتهى كلام المنذري . والحديث أخرجه أحمد والدارمي وصححه الحاكم على شرط البخاري وقال النووي : صححه الأئمة.
وعلّق على قول أبو داود في نسخ الحديث فقال :
( قال أبو داود : هذا الحديث منسوخ ) : ذهب إلى نسخه المؤلف . وقد طعن في هذا الحديث جماعة من الأئمة مالك بن أنس وابن شهاب الزهري والأوزاعي والنسائي , فلا تغتر بتحسين الترمذي وتصحيح الحاكم , وإن ثبت تحسينه فلا يعارض حديث جويرية بنت الحارث الذي اتفق عليه الشيخان .
ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة , فعللها ابن عقيل : بأنه يوم يمسك فيه اليهود , ويخصونه بالإمساك , وهو ترك العمل فيه , والصائم في مظنة ترك العمل , فيصير صومه تشبها بهم , وهذه العلة منتفية في الأحد .
ولا يقال : فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره , ومع هذا فإنه لا يكره , لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصدا تخصيصه المقتضي للتشبه , وشاهده : استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده إليه , لتنتفي صورة الموافقة .
وعلله طائفة أخرى : بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه , فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له , فكره ذلك , كما كره إفراد يوم عاشوراء بالتعظيم , لما عظمه أهل الكتاب , وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون . وهذا التعليل قد يعارض بيوم الأحد , فإنه يوم عيد للنصارى , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اليوم لنا , وغدا لليهود , وبعد للنصارى " ومع ذلك فلا يكره صومه .
وأيضا فإذا كان يوم عيد , فقد يقال : مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر , فالصوم فيه تحقيق للمخالفة , ويدل على ذلك : ما رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال " أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها : أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما ؟ فقالت : كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول : إنهما يوما عيد للمشركين , فأنا أحب أن أخالفهم " وصححه بعض الحفاظ .
فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم , فكيف نعلل كراهة صومه بكونه عيدا لهم ! وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت , والأحد والاثنين . ومن الشهر الآخر الثلاثاء , والأربعاء , والخميس " قال الترمذي : حديث حسن . وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان , ولم يرفعه .
وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم .
وعلله طائفة : بأنهم يتركون العمل فيه , والصوم مظنة ذلك , فإنه إذا ضم إليه الأحد زال الإفراد المكروه , وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم , وزال عنها صورة التعظيم المكروه بعدم التخصيص المؤذن بالتعظيم , فاتفقت بحمد الله الأحاديث وزال عنها الاضطراب والاختلاف , وتبين تصديق بعضها بعضا .
فإن قيل : فما تقولون في صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين ؟
وقال أيضاً في تعليقه على الحديث في عون المعبود:
حدثنا عبد الملك بن شعيب حدثنا ابن وهب قال سمعت الليث يحدث عن ابن شهاب :
أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام يوم السبت يقول ابن شهاب هذا حديث حمصي !
حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان حدثنا الوليد عن الأوزاعي قال ما زلت له كاتما حتى رأيته انتشر يعني حديث عبد الله بن بسر هذا في صوم يوم السبت قال أبو داود قال مالك هذا كذب ..
قوله ( هذا حديث حمصي ):
يريد تضعيفه لأن في حديث عبد الله بن بسر راويان حمصيان أحدهما ثور بن يزيد وثانيهما خالد بن معدان تكلم فيهما بعض ووثقهما بعض . وقال السندي في فتح الودود : كأنه يريد تضعيفه وقول مالك هذا كذب أصرح في ذلك وأبلغ لكن قال الترمذي : حديث حسن , والظاهر أن سبب ما ذكروا عدم ظهور المعنى حتى قال بعضهم منسوخ وبعضهم ضعيف والله أعلم.
قال النووي رحمه الله في المجموع :يُكره افراد صيام يوم السبت .
وقال ابن القيم في تهذيب السنن :أي لا تقصده بالصيام بعينه إلا في الفرض ..
قال الأمير الصنعاني رحمه اله في سبل السلام على تعليقه لحديث أم سلمة :فالنهي عن صومه كان أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب ثم كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم مخالفتهم كما صرح به الحديث نفسه ، وأخرج الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهر السبت والأحد والإثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس )) وحديث الكتاب دال على استحباب صوم يوم السبت والأحد مخالفة لأهل الكتاب وظاهره صوم كل الإنفراد والإجتماع. ا.هـ
قال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود , عن عبدالله بن بسر السلمي ، عن أخته الصماء ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تصوموا يوم السبت إلا في ما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه ))
فاختلف الناس في هذين الحديثين . فقال مالك رحمه الله : هذا كذب , يريد حديث عبدالله بن بسر ,ذكره عنه ابو داود , قال الترمذي , : هو حديث حسن , وقال أبو داود : هذا الحديث منسوخ , وقال النسائي : هو حديث مضطرب , وقال جماعة من أهل العلم :
لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة , فإن النهي عن صومه إنما هو إفراده , وعلى ذلك ترجم أبو داود , فقال : باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم , وحديث صيامه ، إنما هو مع يوم الأحد . قالوا:
الترجيح والمقابلة والجمع بين الأقوال والروايات عند ابن القيم الجوزية في زاد المعاد
ونظير هذا أنه نهى عن إفراده يوم الجمعة بالصوم , إلا أن يصوم يوماً قبله أو يماً بعده , وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال :
إن صومه نوعُ تعظيم له , فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه ، وإن تضمن مخالفتهم في صومه ، فإن التعظيم إنما يكون إذا اُفردَ بالصوم , ولا ريب أن الحديث يجيء بإفراده , وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم . والله أعلم .
يُصا م عاشوراء ولو كان يو م سبت أو جمعة
ورد النهي عن إفراد الجمعة بالصوم، والنهي عن صوم يوم السبت إلا في فريضة ولكن تزول الكراهة إذا صامهما بضم يوم إلى كل منهما أو إذا وافق عادة مشروعة كصوم يوم وإفطار يوم أو نذراً أو قضاءً أو صوماً طلبه الشارع كعرفة وعاشوراء .. ( تحفة المحتاج ج3 باب صوم التطوع – مشكل الآثار ج2 باب صوم يوم السبت ).
وقال البهوتي رحمه الله : ويكره تعمد إفراد يوم السبت بصوم لحديث عبد الله بن بسر عن أخته : " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " [ رواه أحمد بإسناد جيد والحاكم وقال : على شرط البخاري ] ولأنه يوم تعظمه اليهود ففي إفراده تشبه بهم .. ( إلا أن يوافق ) يوم الجمعة أو السبت (عادة ) كأن وافق يوم عرفة أو يوم عاشوراء وكان عادته صومهما فلا كراهة؛ لأن العادة لها تأثير في ذلك ( كشاف القناع ج2 باب صوم التطوع ) .
جمعه / أبو مالك العدني