(1) الإسناد
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد :
المطلب الأول :-
تعريفه :
<‏<قال البدر ابن جماعة والطيبي : هو الإخبار عن طريق المتن ، وقال ابن جماعة : وأخذه إما من السند وهو ما ارتفع وعلا من سفح الجبل لأن المسند يرفعه إلي قائله ؛ أو من قولهم فلان سند أي معتمد فسمي الإخبار عن طريق المتن سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه . وأما الإسناد فهو رفع الحديث إلي قائله . قال الطيبي : وهما متقاربان في معني إعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليهما . وقال ابن جماعة : المحدثون يستعملون السند والإسناد لشئ واحد>> التدريب ص (14-15)

المطلب الثاني :-
بداية الإعتناء به :
كانت السنة والأحاديث تدور بين يدي الصحابة يأخذها بعضهم من بعض ويرويها بعضهم لبعضهم في ثقة كاملة وأمانة تامة لا يخافون من كذب كاذب أو تمويه مموه أوزيادة واهم أو تدليس مدلس فكلهم عدول ثقات أمناء ، فلما ذر قرن الفتن وازدادت المحن وظهر الكذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبدأ يتسرب إلي السنة ما ليس منها ويلج فيها ما هو غريب عنها ؛ فاحتاج السلف والمحدثون إلي كشف هذه الطفيليات وتبرئة السنة منها وقد علموا أن أصل ذلك في الناقل كما قيل قديما : <آفة الأخبار رواتها> ويدل لما ذكرناه ما ثبت عن محمد ابن سيرين -رحمه الله- أنه قال : <لم يكونوا يسئلون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم ....> (مقدمة صحيح مسلم ج1 ص 84 ) فمن هنا بدأت العناية بالإسناد .

المطلب الثالث :-
أهميته :
قال العلامة الشيخ احمد شاكر -رحمه الله- : <خصت الأمة الإسلامية بالإسانيد والمحافظة عليها حفظا للوارد من دينها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وليست هذه الميزة عند أحد من الأمم السابقة> (الباعث ص 45)
فالإسناد سد منيع من طوفان الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة فلولاه لتهدم الدين وضاعت معالمه كما قال الإمام الجليل عبد الله ابن المبارك -رحمه الله- : <الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء> (مقدمة صحيح مسلم ج1 ص87) وقال أيضا : <بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد> (مقدمة صحيح مسلم ج1 ص88) ويفسر مقالة ابن المبارك هذه قول ابن سيرين <إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم> (مقدمة صحيح مسلم ج1 ص 84) فإنه لما كان الإسناد وسيلة لحفظ الدين صار دينا بهذا الإعتبار فإن الوسائل لها أحكام المقاصد . ويزيد الأمر وضوحا ما قاله الإمام الحاكم -رحمه الله- في كتابه علوم الحديث (ص6) معلقا علي أثر عبد الله ابن المبارك <الإسناد من الدين> حيث قال : <فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم علي حفظه لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والبدع منه بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد فإن الإخبار إذا تعرت عن وجود الإسناد فيها كانت بترا>
وقال صديق حسن خان -رحمه الله- في كتابه الحطة : <لولاه لقال من شاء ما شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء> (قواعد التحديث للقاسمي (ص46))
بل جعله بعضهم بمثابة آلة الحرب فهذا سفيان الثوري -رحمه الله- يقول : <الإسناد سلاح المؤمن فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيئ يقاتل> (المجروحين لابن حبان ج1 ص27) فالسلاح يحمي صاحبه من صولة العدو وهجومه وكذلك السند حامي سنة المصطفي صلي الله عليه وسلم من كل شائبة أو غائلة وساترها من كل نائبة أو نائلة . ولهذا كان السلف والمحدثون -رحمهم الله- يشددون النكير علي من لم يعتن بالإسناد فهذا الزهري -رحمه الله- يحدث سفيان ابن عيينة يوما بحديث فقال سفيان للزهري : <هاته بلا إسناد> فقال الزهري : <أترقي السطح بلا سلم> (لم أعثر علي مصدره سمعته في درس) .
ولما كان الإسناد بهذه المثابة والمنزلة نجد أن المحدثين <التزموا وألزموا من بعدهم سوق تلك الأخبار بالأسانيد> (المعلمي اليماني في مقدمته علي الجرح والتعديل ج1 ص أ) وذلك لأن <إنعدام السند يجعل ذلك النص المنقول غير ذي قيمة في نسبة القول إلي قائله ، وهذا لدي المحدثين أمر متفق عليه بل هو من المسلمات عندهم ، فالقول المنسوب إلي الرسول صلي الله عليه وسلم إذا لم يكن له إسناد فلا قيمة له البتة ولو كانت له أدني قيمة لكان بإمكان كل امرء كذاب أن ينسب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ما لا يعرف ولاجترأ الوضاعون علي الكذب عليه صلي الله وعليه وسلم لذلك كان الإسناد من الضروريات وإذا كان السند ضروريا للحكم علي كل حديث أو قول منسوب إلي صاحبه فلا غرابة حينئذ أن يكون اهتمام المحدثين به في المقام الأول لأن الحكم علي الحديث لا يكون إلا بعد النظر في إسناده> (مقاييس نقد متون السنة ص50) .
وعلاوة علي ذلك فقد أولي المحدثون -رحمه الله- علو الإسناد أهمية خاصة ، قال العلامة ابن كثير -رحمه الله- <<ولما كان الإسناد من خصائص هذه الأمة وذلك أنه ليس أمة من الأمم يمكنها أن تسند عن نبيها إسنادا متصلا غير هذ الأمة فلهذا كان طلب الإسناد العالي مرغبا فيه كما قال الإمام أحمد -رحمه الله- <الإسناد العالي سنة عمن سلف> وقيل ليحي ابن معين في مرض موته ما تشتهي قال : <بيت خالي وإسناد عالي> ولهذا تداعت رغبات كثير من الأئمة والنقاد والجهابذة الحفاظ إلي الرحلة إلي أقطار البلاد طلبا لعلو الإسناد>> إلي أن قال -رحمه الله- <<ثم إن علو الإسناد أبعد من الخطأ والعلة من نزوله>> (الباعث ص 152-153)
قال ابن الصلاح <والعلو يبعد الإسناد من الخلل لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ففي قلتهم قلة جهات الخلل وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل وهذا جلي واضح> (مقدمة ابن الصلاح ص 316)
ولما كان السند هو سلسلة رجال الحديث الحديث لذا كان <من المهم معرفة طبقات الرواة ومواليدهم ووفياتهم وبلدانهم وأحوالهم> (النزهة ص 68-69) ومن أجل هذا قامت كتب التراجم والرجال وظهر علم الجرح والتعديل وهم موضوع حلقتنا القادمة إن شاء الله .