بسم الله الرحمن الرحيم

مسائل في السلام للعلامة الفقيه ابن عثيمين رحمه الله

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه يسرنا في هذه الليلة ليلة الأحد السابع عشر من شهر ربيع الثاني، أربعة عشر وأربعمائة وألف أن نلتقي بكم لقاء هذا الشهر، ونعتذر عن فوات اللقاء في الشهر السابق؛ لأنه لم يتيسر فقد كنا مسافرين. في هذه الليلة كنت أريد أن أستمر في تفسير سورة: (ق) ولكن رأيت أن يكون موضوع اللقاء هو: السلام وآدابه، والمصافحة، وتقبيل الرأس أو الجبهة أو ما أشبه ذلك؛ لأن ذلك من الأمور المهمة. فنقول: السلام: اسم من أسماء الله، كما قال الله تعالى في آخر سورة الحشر، وكما سمعتموها في قراءة صلاة العشاء الليلة: الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23] ومعنى السلام الذي هو اسم من أسماء الله معناه، السالم من كل نقص وعيب، فهو حي لا يموت وهو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو عالم بما مضى وما يستقبل: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52] وهو قوي عزيز قادر: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [فاطر:44].. وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38].. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:33] والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، أن الله منزه عن كل عيب، ومن العيب أن يكون مماثلاً للمخلوق؛ لأن المخلوق ناقص فلو جعلنا الله مثل المخلوق لكان ذلك نقصاً وعيباً، قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وقال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] وقال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] معنى سمياً: أي نظيراً ومشابهاً. إذاً : السلام من أسماء الله ومعناه: السالم من كل عيب ونقص. ......



معنى قول المسلم: (السلام عليك)



هل معنى قول المُسلِّم: السلام عليك، الله عليك؟ أو معناه: رحمة السلام عليك؟ لا. معنى قول المسلِّم: السلام عليكم، معناه: الدعاء بالسلامة أن يسلمك الله من السوء في دينك ودنياك، في نفسك وأهلك، في بيتك ومالك، سلامة في كل شيء، هذا هو المعنى الذي يبدأ به الإنسان أخاه عند ملاقاته، السلام عليك، أي: أنك تدعو الله أن يسلمه من كل آفة وبلاء، ومن كل سوء ومكروه، وهذا هو معنى السلام مع ما يتضمنه من التحية والترحيب والانبساط إلى الشخص، ولهذا إذا لاقاك إنسان ولم يسلم عليك صار في نفسك عليه شيء، لكن إذا سلم زال ما في نفسك وعرفت أنه أخوك، وأنه يحبك وعلى هذا فمعنى السلام عليك، أي: أسأل الله لك السلامة، من كل آفة في دينك ودنياك وفي أهلك ومالك، ومجتمعك، وفي كل شيء.


لفظ السلام المختار



ثم إن اللفظ المختار، أن يقول الإنسان: السلام عليك، وهو أفضل من أن تقول: سلام عليك؛ وذلك لأنه معرف (محلى بأل) وسلام نكرة والمعرَّف أكمل من النكرة، ولهذا قال العلماء: تعريف السلام أفضل من تنكيره. ثم هل تقول: عليك أو عليكم؟ تقول: عليك بالإفراد إن كنت تسلم على واحد، وإن كنت تسلم على جماعة فقل: عليكم، على أن بعض أهل العلم يقول، تقول السلام عليكم ولو كان واحداً؛ لأنه ما من إنسان إلا ومعه ملكان عن اليمين وعن الشمال، فإذا قلت: السلام عليكم؛ فأنت تريد بهذا الجمع المسلم عليه من البشر ومن معه من الملائكة، عن اليمين وعن الشمال قعيد، لكن الإفراد هو الذي جاءت به السنة، السلام عليك إذا كان واحداً، وإذا كانوا جماعة: السلام عليكم.


حكم السلام



فحكمه سنة مؤكدة، ما لم يكن تركه هجراً، فإن كان تركه هجراً كان واجباً. ومتى يكون تركه هجراً؟ الجواب: يكون تركه هجراً إذا زاد على ثلاثة أيام، تلاقي أخاك ولا تسلم عليه، فإن هذا حرام: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) هكذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


أجر السلام وفوائده



أما أجر السلام فقد بينه الرسول عليه الصلاة والسلام أن في قول القائل السلام عليك، عشر حسنات، حسنات تجدها أحوج ما تكون إليها في يوم القيامة، ثم هذه الحسنات تكسب القلب زيادة في الإيمان؛ فكل حسنة يفعلها الإنسان مخلصاً لله فيها متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن إيمانه يزداد بها: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]. ثم في السلام -أيضاً- سبب لدخول الجنة التي يريد كل إنسان الوصول إليها، ودليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) أي: أظهروا السلام بينكم، فإفشاء السلام من أسباب المودة، والمودة من كمال الإيمان، والإيمان يدخل الجنة. إذاً: ففائدته عظيمة، مع الحسنات العشر ومع التآلف بين الناس والمحبة، أنه سبب لدخول الجنة.

جواب السلام



الصيغة المشروعة هي كما قلت: السلام عليك. وأما الجواب: فإذا سلمت على شخص فلا بد في الجواب أن يكون مثل الابتداء، لقول الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] حيوا بأحسن منها: هذا الأكمل، أو ردوها: هذا الواجب، فإذا قلت: السلام عليك، يعني: أنك تدعو لصاحبك بالسلامة، فهل يكفي في الرد أن يقول: أهلاً ومرحباً، ننظر هل إذا قال: أهلاً ومرحباً، هل هو دعا لك بالسلامة؟ لا. وإنما هو ترحيب فقط، فلو قال ألف مرة: أهلاً ومرحباً، فإنه لا يجزئ عن الواجب، ويكون الراد الذي يقتصر على قوله: أهلاً ومرحباً آثماً، إذا كان يعلم أن هذا الرد لا يكفي، قل: عليك السلام ثم رحب بما شئت، ولهذا جاء في الحديث الصحيح، حين عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات كلما سلم على واحد في السماء رد عليه السلام، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح؛ إلا آدم وإبراهيم فإنهما قالا: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، وعلى كل حال الحديث فيه: (فرد السلام وقال: مرحباً). فدل ذلك على أن قول الإنسان في الجواب: مرحباً، أو أهلاً، أو حياك الله، أو ما أشبه ذلك ليس برد، وأن الإنسان لم تبرأ ذمته، لابد أن يقول: عليك السلام، ثم يهل ويرحب بما شاء. ومن العجب أن هذه الصيغة المحمدية النبوية (السلام عليك، عليك السلام) تكاد تفقد في مكالمات الهاتف، فإنك إذا اتصلت بصاحبك ورفع السماعة، ماذا تقول؟ تقول: هالو، هالو، ومعناها: مرحباً أو أهلاً أو ما أشبه ذلك، قل: السلام عليك، ليرد عليك فيقول: عليك السلام، وإذا قلت هذا نلت عشر حسنات، وهو إذا رد ينال أيضاً عشر حسنات، أرأيت لو أن بعض الناس قيل له، كلما قلت: السلام عليك نعطيك ريالاً واحداً، فإنه يسلم على كل أحد يلقاه، الصغير والكبير، وربما يتوهم العمود إنساناً فيسلم عليه؛ لأنه يريد أن يأخذ ريالاً، لكن هذه عشر حسنات مدخرة في يوم تكون أنت أحوج ما تكون إليها.


من الذي يبدأ بالسلام



ثم إن السلام يكون على الترتيب التالي: من الصغير على الكبير، ومن الراكب على الماشي، ومن الماشي على القاعد -هكذا جاء في الحديث- ويكون من القليل على الكثير، فإذا تلاقى اثنان مع ثلاثة فالاثنان هما المطالبان بالسلام أولاً. وإذا تلاقى رجل له ثلاثون سنة وآخر له أربعون سنة فالمطالب بالسلام من له ثلاثون سنة. وإذا تلاقى راكب وماش فالمطالب بالسلام الراكب. ولكن إذا لم يقم المطالب بما يطلب منه من السلام، فهل الآخر يترك السلام؟ لا. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام ولو كان أصغر منه، فلا تقل: هو الذي عليه السلام فأنا لا أسلم، فإذا كان هو لا يعلم السنة، أو متهاوناً بها أو متهاوناً بك فابدأه أنت بالسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيرهما الذي يبدأ بالسلام) ولا تحقرن من المعروف شيئاً.

المصافحة بعد السلام



ثم إن المشروع في السلام عند الملاقاة: المصافحة، وقد جاء في الحديث: (أن الرجلين إذا التقيا فتصافحا؛ فإن ذنوبهما تحاث كما تحات ورقة الشجر منها) لأن المصافحة تجلب المودة، فمن السنة عند الملاقاة المصافحة، ولكن ليس من السنة ما صار بعض الناس اليوم يفعله، إذا قابلته أخذ برأسك ولم يصافحك، هذا لا شك أنه خلاف السنة، ولم أعلم أحداً من أهل العلم قال: إنه يسن الأخذ بالرأس، وإنما قالوا: يصافح باليد، ثم إن كان الرجل أهلاً لأن يقبل رأسه أو جبهته كالأب والأخ الكبير وما أشبه ذلك فليقبل رأسه أو جبهته، أما أن يقبل رأسه حين يلقاه ولا يصافح، فهذا خلاف السنة، لكن نقول: صافح أولاً، ثم إذا كان الإنسان أهلاً أن يقبل رأسه أو جبهته فليقبل.


حكم السلام على المشغول



ثم إن السلام لا ينبغي أن يلقى إلى شخص متشاغل، بحيث يشوش عليه، فإذا رأينا أن شخصاً يقرأ القرآن يتحفظه، يتدبره ويغلب على الظن أو نجزم بأننا إذا سلمنا عليه شوشنا عليه، فالسنة ألا نسلم؛ لأن ذلك يشغله إلا إذا رأيناه متهيئاً ينظر إلينا يريد أن نسلم فحينئذ نسلم؛ لأن ترك السلام عليه حينئذ يحدث في قلبه شيئاً. وأما من يصلي فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، لكن لا ترد باللفظ، بل رد بالإشارة، أي: ارفع يدك هكذا، حتى يتبين له أنك رددت عليه، ثم إن بقي حتى تسلم من الصلاة فرد عليه باللفظ وإن انصرف كفت الإشارة؛ لأن الإنسان المصلي ممنوع من كلام الآدميين، والممنوع شرعاً كالمحروم حساً، ولهذا يكون رد الأخرس بالإشارة؛ لأنه محروم من الكلام لا يستطيعه، فالمصلي أيضاً ممنوع من الكلام لا يجوز له أن يرد السلام لأنه من كلام الآدميين وكلام الآدميين في الصلاة محرم، ولكن ما تقولون: لو أن رجلاً سلمنا عليه وهو يصلي فسها ورد السلام، قال: عليك السلام، أتبطل صلاته؟ الجواب: لا. لا تبطل صلاته؛ لقول الله تبارك وتعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] وهذا عام وهذه الآية خذوها قاعدة من الله عز وجل: كل عمل محرم فعلته خطأً أو نسياناً، فإنه معفو عنه، لا تؤاخذ به ولا يبطل العبادة، ولا يترتب عليه كفارة؛ لأن الإنسان معذور، بل قد ورد العذر بالجهل في الكلام، والجهل أخو النسيان، فقد ورد العذر بالجهل في الكلام في قصة معاوية بن الحكم رضي الله عنه، عندما دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فعطس رجل من القوم، فقال الحمد لله، فقال معاوية بن الحكم: يرحمك الله -فجملة يرحمك الله كلام آدمي تبطل الصلاة- فرماه الناس بأبصارهم -أي: جعلوا ينظرون إليه بأبصارهم منكرين عليه- فقال: واثكل أمياه -وهي كلمة يؤتى بها للتحسر- فجعلوا يضربون على أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما انصرف من صلاته دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، قال معاوية: فبأبي هو وأمي والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال، ولم يأمره بالإعادة، ولو كان الكلام في حال الجهل مبطلاً للصلاة لأمره بإعادة الصلاة، كما أمر الرجل الذي دخل وصلى وهو لا يطمئن في صلاته أمره أن يعيد الصلاة، فنقول: إذا سلمت على شخص وهو يصلي، وسها فرد عليك فصلاته صحيحة، ولا تبطل لأنه ساهٍ، وقد قال الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].


حكم السلام على المبتدع والكافر والفاسق



ومن مباحث السلام، هل نسلم على المبتدع؟ هل نسلم على الفاسق؟ هل نسلم على الكافر؟ الأول: هل نسلم على المبتدع؟ الجواب: في ذلك تفصيل: إن كانت البدعة مكفرة؛ فإنه لا يسلم عليه، لأن الكافر لا يجوز أن تسلم عليه، وإن كانت لا تبلغ الكفر، كما لو كان مبتدعاً في بعض الأذكار التي لا تخرج من الملة، وما أشبه ذلك، فإنه ينظر إن كان في ترك السلام عليه مصلحة وجب أن نترك السلام عليه. كيف تكون مصلحة في ترك السلام؟ نعم. ليعرف أنه إنما هجر لأنه مبتدع؛ فيرتدع عن بدعته ويتوب، فهنا يجب أن نهجره لحصول توبته، وإن كان لا يزداد بالهجر إلا مفسدة وإقداماً على البدعة، ودعوة إليها فإننا لا نهجره؛ لأنه مسلم ولا يجوز هجر المسلم لغير مصلحة شرعية. الثاني: الفاسق: كأن يكون هذا الرجل معروفاً بأكل الربا، أو يكون هذا الرجل معروفاً بعقوق الوالدين، أو معروفاً بالتساهل في الصلاة لكنه يصلي فهذا فاسق، هل نسلم عليه أم لا؟ نقول فيه ما قلنا في صاحب البدعة غير المكفرة، وهو إنه إذا كان هجرنا إياه يؤدي إلى صلاح حاله هجرناه، وإن كان لا يؤدي إلى صلاح حاله لم نهجره؛ لأنه مؤمن، لكنه مؤمن ناقص الإيمان، فإذا رأينا هذا الرجل، الذي نعرف أنه منهمك في أكل الربا، فإن كان بهجرنا إياه يرتدع عن أكل الربا، هجرناه فلا نسلم عليه، ولا نجيب دعوته إذا دعانا ولا ندعوه نحن إلى وليمة، لأننا إذا فعلنا به ذلك ارتدع، وهل لهذا أصل (أعني هجر العاصي)؟ الجواب: نعم. له أصل، وأصله أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة، في فصل الصيف حين طابت الثمار، أي: أنه في أشد ما يكون من الحر، ولهذا تخلف المنافقون عنه، وتخلف من الرجال المؤمنين حقاً ثلاثة وهم: كعب بن مالك ، والثاني: هلال بن أمية، والثالث: مرارة بن الربيع ، تخلفوا عن الغزوة مع أنهم قادرون، وليس لهم عذر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء المعذرون من الأعراب، وجاء المنافقون يحلفون بأنهم معذورون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله لهم ويكل سرائرهم إلى الله. أما كعب بن مالك ، فأخبر بالصدق وقال: إنه تخلف لغير عذر، وإنه في هذه الغزوة يملك بعيرين، ولكنه -رضي الله عنه- كان صريحاً، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب فسوف يقضي الله فيك ما شاء، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر هؤلاء الثلاثة، فهجرهم الناس، هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم، يقول كعب : كنت آتي فأسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا. مع أنه أحسن الناس خلقاً. فهذا أصل في هجر الفاسق، وهم لا شك أنهم تابوا فتاب الله عليهم، وأنزل فيهم آيات تتلى إلى يوم القيامة، يقرءها الناس في صلاتهم، وفي خلواتهم ولكننا نقول: هجر العاصي جائز، إذا كان في ذلك مصلحة بحيث يرتدع، أما إذا كان في ذلك مفسدة بحيث يزداد فسقه، ويقول: ما هؤلاء (المطاوعة) لا يسلمون علينا؟ فلا يهمنا أمرهم. وما أشبه ذلك من الكلام الذي يدل على أنه متمرد، فهنا لا نهجره، لأنه مؤمن، والأصل تحريم هجر المؤمن إلا لمصلحة. أما الكافر فهل نسلم على الكافر؟ لا. لا نسلم عليه أبداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) مع أن اليهود والنصارى هم خير الكفار، والكفار كلهم لا خير فيهم، لكن لهم أحكام خاصة بهم، ولهذا تحل نساؤهم وتحل ذبائحهم، ويُقرُّون على دينهم بالجزية، وغيرهم لا تحل نساؤهم، ولا تحل ذبائحهم، ولا يقرون على دينهم بالجزية عند أكثر أهل العلم. إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن نبدأ اليهود والنصارى بالسلام، فغيرهم من البوذيين والمجوس والوثنيين والشيوعيين من باب أولى، ولهذا لا يجوز أن تسلم على يهودي أو نصراني أو غيرهما من الكفار، حتى لو دخلت عليهم في مجالسهم لا نسلم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]. ولكن إذا سلموا هل أرد عليهم السلام؟ نقول: نعم ترد عليهم السلام؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان، وليس من العدل إذا سلم عليك أحد ألا ترد عليه، ولهذا كان من محاسن دين الإسلام أنهم -أي: الكفار- إذا سلموا علينا رددنا عليهم السلام، ولكن كيف نرد؟ نرد إذا صرحوا بالسلام علينا، وقالوا: السلام عليكم، قلنا: عليكم السلام، أما إذا كان غير صريح وغير واضح، فنقول: وعليكم، ولا نقول: السلام؛ لأن اليهود كانوا في المدينة مع الرسول عليه الصلاة والسلام فيمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك يا محمد! -ومعنى السام: الموت- فكانوا لا يوضحون توضيحاً كاملاً، فما يقولون: السام عليكم، يجعلونها بين اللام وبين عدمها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن اليهود إذا سلموا عليكم يقولون: السام عليكم؛ فقولوا: وعليكم). ومر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم المؤمنين عائشة فقال: السام عليك يا محمد فقالت عائشة : عليك السام واللعنة، يعني: عليك الموت وعليك أيضاً زيادة وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] فهذا حيا بتحية سيئة فحيي بأسوأ منها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم) إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم، فمن باب الفضل حيوا بأحسن منها، ولكن من باب العدل لا تحيوا بأسوأ منها، بل تقولوا: وعليكم، وبهذا يحصل الرد الواجب إن كانوا قد قالوا: السام عليكم فهو عليهم، وإن كانوا قد قالوا: السلام عليكم فهو لهم، فإذا صرحوا وقالوا: السلام عليكم كما يوجد الآن في كثير من الأعاجم، من الهنود وغيرهم يقول: السلام عليكم وهو كافر، فماذا تقول؟ لك أن تقول: عليك السلام؛ لأن الإسلام ميزان قسط وعدل، تقول: عليك السلام ولا حرج عليك في هذا.


رد السلام بالأمثل



ومن الأمور التي تجب ملاحظتها في السلام: أن ترد بالمثل كماً وكيفاً، أي: في الكمية وفي الكيفية، فإذا قال المسلِّم: السلام عليك ورحمة الله، فالجواب: عليك السلام ورحمة الله، إذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فالجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه وخيراته، اقتصرت على وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ لأن هذا ما جاءت به السنة، وهذا باعتبار الكمية، يعني: أعطه من الجمل مثل ما أعطاك. وأما باعتبار الكيفية فإنه يسلم بعض الناس بالكلام الواضح الصريح برفع صوته؛ فيجيء الراد يرد عليه بأنفه، أي: يتكلم بكلام ربما لا يسمع، فهل يجزئ هذا الرد أو لا يجزئ؟ هذا لا يجزئ؛ لأن هذا أنقص في الكيفية من السلام، والله يقول: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]. ولهذا تجد المسلم يكون في نفسه شيء من أخيه، ويعتب عليه، يقول له: لماذا أسلم عليك بلسان فصيح صريح وأنت تسلم علي بأدنى أنفك؟ فهذا أيضاً من المسائل التي يجب التنبه لها.


مسائل أخرى متعلقة بالسلام


إذا دخلت على جماعة وفيهم كفار ومسلمون فهل تسلم أم لا تسلم؟ نقول: سلم؛ لكن انوِ بالسلام المسلمين؛ لأن الكفار لا يجوز ابتداؤهم بالسلام. إذا دخلت مجلساً وفيهم رجل كبير لعلمه أو فضله أو ما أشبه ذلك، وسلمت وأنت تقصد هذا العالم ورد غيره، هل تبرأ ذمة هذا العالم الذي نعلم أن المسلِّم إنما قصده هو بالسلام؟ الجواب: لا. ولهذا إذا دخل الإنسان وسلم وأنا أعلم أنه إنما يريد العالم قلنا للعالم: لا بد أن ترد، إن رد غيرك فإنه لا يجزئ؛ لأننا نعلم أن مراد هذا الداخل بالسلام السلام على هذا العالم قبل كل شيء. فهذه جمل من المسائل في السلام، وفي النهاية أوصيكم أن تفشوا السلام بينكم. أفشوا السلام بينكم، لا يمر أحد بأحد إلا ويسلم عليه، لتزرعوا المودة بينكم ويزداد بذلك إيمانكم،ويكون هذا سبباً لدخولكم الجنة، وهو من مكارم الأخلاق ومن محاسن الأعمال، وفقنا الله وإياكم لذلك، وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإلى الأسئلة.


( اللقاء الشهري [13] )