بسم الله الرحمن الرحيم

توجيهات رمضانية للعلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله



الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو اللقاء الشهري الذي يتم في ليلة الأحد الثالث من كل شهر، وهذه الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر شعبان عام ثمانية عشر وثمانمائة وألف، وهي أطول ليلة في السنة، ولهذا بعد يومين سيكر النهار على الليل ويأخذ من الليل ما أخذه منه، وهذا دليل على حكمة الله تعالى وقدرته، فهذه الشمس التي يختلف بها الليل والنهار تارة تكون في أقصى الجنوب وتارة تكون في أقصى الشمال، والذي يسيرها ويدبرها ويجريها إلى أجل مسمى هو خالقها عز وجل، قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ [القصص:71] ما الجواب؟ لا أحد يأتينا بضياء إذا جعل الله الليل سرمداً إلى يوم القيامة قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [القصص:72]؟ الجواب: لا أحد أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص:72-73] أي: في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص:73] أي: في النهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:73] نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر نعمته وحسن عبادته. نحن الآن في استقبال شهر رمضان، نسأل الله تبارك وتعالى أن يفيض علينا وعليكم من بركاته، وأن يجعلنا وإياكم ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً، ولكن كيف نستقبل هذا الشهر المبارك؟ إنه شهر لا نظير له في شهور السنة، إنه شهر خصه الله بخصائص لا توجد في غيره من شهور السنة، فهو الشهر الذي فرض الله صيامه، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام، وهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وهو الشهر الذي فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهو الشهر الذي أعز الله فيه هذه الأمة في بدر حيث كانت الغلبة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وهو الشهر الذي فتحت به أم القرى وأنقذها الله تعالى من الشرك والمشركين، ففي هذا الشهر فضائل سابقة وفضائل لاحقة. ينبغي لنا أن نستقبل هذا الشهر بكل انشراح، وبكل سرور، وبكل عزم، وبكل نشاط على الأعمال الصالحة حتى نغتنم الفرصة، فكم من إنسان تمنى أن يدرك هذا الشهر ولم يدركه، وكم من إنسان أدرك هذا الشهر وفات عليه -خسره- ولم يعمل فيه شيئاً؛ لذلك أحث نفسي وإياكم على أن نستقبل هذا الشهر بالأعمال الصالحة المقربة إلى الله عز وجل، وأعظم ما فيه من الأعمال الصالحة الصيام؛ لأنه فرض، وركن من أركان الإسلام، ولكن هل الصيام أن نصوم عن الأكل والشرب والأهل؟ لا. هذا صيام ظاهري حسي، لكن الصيام المعنوي الحقيقي هو: أن يصوم الإنسان عما حرم الله، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] لم يقل: لعلكم تجوعون، لعلكم تعطشون، لعلكم تتشوقون للأهل، قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)إن الله تعالى لم يفرض علينا صيامه ليعذبنا به جوعاً وعطشاً وإمساكاً عن الأهل، إنما أراد منا أن ندع قول الزور والعمل به والجهل، فما قول الزور؟ قول الزور: كل قول محرم فهو قول زور، سواء شهادة زور، أو غيبة، أو نميمة، أو كذب، أو غير ذلك، كل قول محرم فهو قول زور؛ لأنه مأخوذ من الازورار وهو: الانحراف. والعمل به -أي بالزور- ويراد به كل عمل محرم، كالنظر في النساء، والنظر في الكتب البدعية، والنظر إلى الأفلام السيئة وغير ذلك. والجهل: العدوان على الناس، وليس ضد العلم؛ لأن الجهل هنا يراد به العدوان كما في قول الشاعر الجاهلي:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
معنى لا يجهلن أحد علينا أي: لا يعتد ويبغ علينا، فإن بغى علينا صرنا أشد منه. ولا شك أن مؤمناً يمر به شهر كامل يتأدب بآدابه؛ لا شك أنه سيتغير مسيره، سيرجع إلى الله بعد الهرب منه، وسيرجع إلى الطاعة بعد المعصية، وستتهذب أخلاقه؛ لأن شهراً كاملاً يعتكف فيه الإنسان على ما يرضي الله عز وجل لا بد أن يؤثر فيه مهما كان.......



رسالة إلى المدخنين



وإنني بهذه المناسبة أزجي رسالة إلى الذين ابتلاهم الله عز وجل بشرب الدخان: شرب الدخان حرام، وقد تبين للعلماء كثيراً الآن أنه حرام، وأن الشارب عاص لله ورسوله، وأنه إذا أصر على شربه انتقل من دائرة العدالة إلى دائرة الفسوق، فيكون فاسقاً، وشهر رمضان ميدان فسيح لمن أراد الله هدايته؛ فأمسك عن الدخان؛ لأنه سيمر به اليوم كاملاً وهو لا يدخن، فليتحمل وليصبر ليلته ثم يأتي اليوم الثاني، وبعد مضي أسبوع تتغير الأحوال، قد يكون في أول الأسبوع يشق عليه هذا كثيراً؛ لكن فيما تتبعنا وسبرنا وجدنا أن الأمور التي يريد الله أن تتغير تتغير في أسبوع، ولهذا كانت العقيقة -الذبيحة عن الولد- في اليوم السابع، يمر به الأسبوع، وهذا يطور الشيء، كثير من المرضى يحسون بالمرض ويصبرون عليه، وبعد أسبوع تتغير الحال إما إلى أسوء وإما إلى أصح. فأقول: إن هؤلاء الذين ابتلوا بشرب الدخان سيجدون في أول الأسبوع مشقةً عظيمة شديدة، لكن عليهم أن يتحملوا ويصبروا؛ لأنه وإن كان الثمن باهظاً فالسلعة غالية، الثمن باهظ سيتكلفون ويشق عليهم، لكن السلعة غالية، وهي أن يعصمهم الله من هذا الدخان الخبيث، وإذا مضى أسبوع تتغير الأحوال، والأسبوع الثاني تتطور إلى أحسن، وهلم جرا، فلا يخرج هذا الشهر المبارك إلا وقد عصم الله تعالى من شاء من عباده من شرب هذا الدخان الخبيث، لكن يبقى عليه أن يتعاهد هذه العصمة بحيث يبتعد عن الذين يشربونه حتى لا ينتكس بعد الاستقامة.

الحث على اغتنام شهر رمضان



إنني أحث نفسي وإياكم على اغتنام الفرصة في هذا الشهر المبارك، ولقد جرت العادة لكثير من الناس أن يسافروا إلى مكة لأداء العمرة وللمكث فيها ما شاء الله، ثم منهم من يرجع ومنهم من يكمل الشهر، ولا حرج في هذا، ولكن إذا كان الإنسان إذا ذهب إلى مكة يضيع الواجبات عليه فإنه يكون بذلك آثماً، لو فرضنا أنه ذهب إلى مكة وترك وظيفته، إن كان مؤذناً ترك الأذان، وإن كان إماماً ترك الإمامة، وربما ينيب عنه من لا يرضاه أهل المسجد، أو من لا ترضاه إدارة الأوقاف أو ما أشبه ذلك، يكون هذا الإنسان كالذي هدم مصراً وعمر قصراً، وبإمكانه إذا كان يحب أن يعتمر في رمضان أن يذهب في خلال ثلاثة أيام ويرجع، وإذا كان في الطائرة في خلال يوم واحد. كذلك -أيضاً- بعض الناس يذهب إلى مكة ويبقى كل الوقت هناك ويضيع أهله وأولاده، يسفهون ويتسكعون في الأسواق ليلاً ونهاراً، ويضيعون الواجب؛ لأن بعض الناس في رمضان يحيون الليل وينامون النهار، ويتركون الصلاة مع الجماعة؛ فيضيعهم وهو مسئول عنهم، فيكون هذا الرجل فعل مستحباً وترك واجباً، وكل إنسان عاقل لا يمكن أن يفضل المستحب على الواجب. وشر من ذلك من يذهب بعائلته إلى مكة ويدع العائلة الشباب والشابات يتسكعون في مكة، ويسفهون مع من يسفه ولا يبالي، تجده في المسجد الحرام يمكن في أول صف ويرى أنه حصل على أجر كثير وخير عميم، ولم يدر المسكين أنه بإضاعته أهله على إثم كبير؛ لذلك يجب علينا -يا إخواني- إذا أردنا عبادة أن نستشير أطباء العبادة، فمنهم أطباء العبادة؟ العلماء، فنستشير العلماء: هل هذا خير أو غير خير؟ هل هو شر أو خير؟ وأما أن يتعبد الإنسان لربه بعاطفته فهذا خطأ عظيم، قال الله عز وجل: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون:71] أي: بالقرآن الذي فيه تذكرهم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71].


( اللقاء الشهري [52] )