فصل
وأما قدر قيامه للقراءة فقال أبو برزة الأسلمي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المئة متفق على صحته.
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن السائب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع1.
وفي صحيح مسلم عن قطبة بن مالك: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}. وربما قال: "ق".
وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}2. وكانت صلاته بعد تخفيفا, فقوله: وكانت صلاته بعد تخفيفا أي بعد صلاة الصبح أخف من قراءتها, ولم يرد أنه كان بعد ذلك يخفف قراءة الفجر عن {ق}, يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}, وفي العصر بنحو ذلك, وفي الصبح أطول من ذلك.
وفي صحيح مسلم عن زهير عن سماك بن حرب قال: ِسألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء. قال: وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها فأخبر أن هذا كان تخفيفه, وهذا مما يبين أن قوله: وكانت صلاته بعد تخفيفا أي بعد الفجر, فإنه جمع بين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخفيف وبين قراءته فيها بـ "سورة ق" ونحوها.
وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بـ "سورة الطور" قريبأ من سورة "ق".
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} فقالت: يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة فإنها لآخر ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب1, فقد أخبرت أم الفضل أن ذلك آخر ما سمعته يقرأ بها في المغرب وأم الفضل لم تكن من المهاجرين بل هي من المستضعفين, كما قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين عذر الله. وفهذا السماع كان متأخرا بعد فتح مكة قطعا.
وفي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بطولي الطوليين, وسأل ابن مليكة أحد رواته ما طولي الطوليين فقال: من قبل نفسه المائدة والأعراف. ويدل على صحة تفسيره حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فرقها في الركعتين. رواه النسائي.
وروى النسائي أيضا من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ في المغرب بالدخان, وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بـ سورة "الطور" في المغرب. فأما العشاء فقال البراء بن عازب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه.متفق عليه. .
وفي الصحيحن أيضا عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فقلت له فقال سجدت بها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.
وفي المسند والترمذي من حديث بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الآخرة بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها من السور. قال الترمذي: حديث حسن. وقال لمعاذ في صلاة العشاء الآخرة: اقرأ بـ سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} و سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} متفق عليه.
وأما الظهر والعصر ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا, وكان يطول الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية, ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب. متفق عليه. ولفظه لمسلم.
وفي رواية البخاري: وكان يطلول الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية, وفي رواية لأبي داود قال: فظننا أنه يريد أن يدرك الناس الركعة الأولى.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم.
قال سعد ابن أبي وقاص لعمر أما أنا فأمد في الأوليين وأخفف في الأخريين وما آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له عمر: ذلك ظني بك. رواه البخاري ومسلم.
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر سورة "الم تنزيل السجدة" وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك, وحرزنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على النصف من ذلك.
وفي رواية بدل قومه تنزيل السجدة: قدر ثلاثين آية, وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية, وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة وفي الأخريين قدر نصف ذلك. هذه الالفاظ كلها في صحيح مسلم.
وقد احتج به من استحب قراءة السورة بعد الفاتحة في الأخريين وهو ظاهر الدلالة لو لم يجيء حديث أبي قتادة المتفق على صحته أنه كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين وفي الأخريين بفاتحة الكتاب فذكر السورتين في الركعتين الأوليين واقتصاره على الفاتحة في الأخريين يدل على اختصاص كل ركعتين بما ذكر من قراءتهما وحديث سعد يحتمل لما قال أبو قتادة ولما قال أبو سعيد, وحديث أبي سعيد ليس صريحا في قراءة السوره في الأخريين فإنما هو حزر وتخمين. وقال أبو جابر بن سمرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وفي العصر نحو ذلك, وفي الصبح أطول من ذلك رواه مسلم.
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الصبح بأطول من ذلك رواه مسلم أيضا.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}, {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوهما من السور. رواه أحمد و أهل السنن. وفي سنن النسائي عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.
وفي السنن من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع فرأينا أنه قرأ سورة تنزيل السجدة وفيه دليل على أنه لا يكره قراءة السجدة في صلاة السر وأن الإمام إذا قرأها سجد ولا يخير المأمومون بين اتباعه وتركه بل يجب عليهم متابعته.
وقال أنس: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. رواه النسائي, والصحابة رضي الله عنهم أنكروا على من كان يبالغ في تطويل القيام وعلى من كان يخفف الأركان ولا سيما ركني الاعتدال, وعلى من كان لا يتم التكبير وعلى من كان يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وعلى من كان يتخلف عن جماعتها.
وأخبروا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ما زال يصليها حتى مات, ولم يذكر أحد منهم أصلا أنه نقص من صلاته في آخر حياته صلى الله عليه وسلم, ولا أن تلك الصلاة التي كان يصليها منسوخة, بل استمر خلفاؤه الراشدون على منهاجه في الصلاة كما استمروا على منهاجه في غيرها، فصلى الصديق صلاة الصبح فقرأ فيها بالبقرة كلها فلما انصرف منها قالوا: يا خليفة رسول الله كادت الشمس تطلع, قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين, وكان عمر يصلي الصبح بالنحل ويونس وهود ويوسف ونحوها من السور.
قال المخففون: إنكم وإن تمسكتم بالسنة في التطويل فنحن أسعد بها منكم في الإيجاز والتخفيف لكثرة الأحاديث بذلك وصحتها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإيجاز والتخفيف وشدة غضبه على المطولين وموعظته لهم وتسميتهم منفرين فعن أبي مسعود أن رجلا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع أشد غضبا منه يومئذ, ثم قال: "أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية للبخاري: "فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة".
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أم أحدكم فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض, وإذا صلى وحده فليصل كيف شاء". راواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: له "أم قومكم". قال: قلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئا, قال: "ادنه" فأجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال تحول فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال: "أم قومك فمن أم قوما فليخفف فإن فيهم الكبير وإن فيهم المريض وإن فيهم الضعيف وإن فيهم ذا الحاجة فإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء". رواه مسلم.
وفي رواية: "إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة", وقال أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكلمها, وفي لفظ: يوجز ويتم. متفق عليه.
وقال أنس أيضا: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه. متفق عليه. وسياقه البخاري.
وعن عثمان بن أبي العاص أنه قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال: "أنت إمامهم فاقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا". رواه الإمام أحمد. و أهل السنن، ورواه أبو داود في سننه من حديث الجريري عن السعدي عن أبيه أو عمه قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: سبحان الله وبحمده ثلاثا. ورواه أحمد أيضا في مسنده.
وروى أبو داود في سننه من حديث ابن وهب: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فتلك بقاياهم في الصوامع والدريات, {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}", هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود وفي رواية ابن داسة عنه أنه دخل وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمن عمر بن عبدالعزيز وهو أمير المدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها فلما سلم قال: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة هي المكتوبة أو شيء تنفلت بت. قال: إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار, {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}".
ثم غدا من الغد فقال: ألا تركب لننظر ونعتبر؟ قال: نعم, فركبوا جميعا فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها, قال: أتعرف هذه الديار؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها, هؤلاء أهل ديار أهلكم البغي والحسد, إن الحسد يطفيء نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني الكف القدم واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فأما سهل ابن أبي أمامة فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وروى له مسلم.
وأما ابن أبي العمياء من أهل بيت المقدس, وهو إن جهلت حاله فقد رواه أبو داود وسكت عنه, وهذا يدل على أنه حسن عنده. قالوا: وهذا يدل على أن الذي أنكره أنس من تغيير الصلاة هو شدة تطويل الأئمة لها, وإلا تناقضت أحاديث أنس, ولهذا جمع بين الإيجاز والإتمام.
وقوله: ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في إنكاره التطويل, وقد جاء هذا مفسرا عن أنس نفسه, فروى النسائي من حديث العطاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال: دخلنا على أنس بن مالك فقال: أصليتم؟ فقلنا: نعم. قال: يا جارية هلمي لي وضوءا ما صليت وراء إمام قط أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا.
قال زيد: وكان عمر بن عبدالعزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام.
وهو حديث صحيح, وقد صرح به عمران بن الحصين لما صلى خلف علي بالبصرة قال عمران لقد ذكرني هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة, كان يخفف القيام والقعود, ويطيل الركوع والسجود, وهو حديث صحيح.
وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لمعاذ لما طول بقومه في العشاء الآخرة: "أفتان أنت" أو قال: "أفاتن أنت"؟ ثلاث مرات, فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والصغير والضعيف وذو الحاجة". وعن معاذ بن عبدالله الجهني أن رجلا من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} في الركعتين كلتيهما, فلا أدري سها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا, رواه أبو داود.
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن حريث أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}, وعن عقبة بن عامر قال: كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته فقال لي: "ألا أعلمك سورتين لم يقرأ بمثلهما"؟ قلت: بلى, فلعمني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}. فلم يرني أعجب بهما. فلما نزل للصبح قرأ بهما ثم قال: "كيف رأيت يا عقبة"؟.
وفي رواية: "ألا أعلمك خير سورتين قرأنا"؟ قلت: بلى. قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}", فلما نزل صلى بهما الغداة قال كيف ترى يا عقبة؟ رواه أحمد وأبو داود.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها فأنكروا عليه فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال: أما إني دعوت فيها بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بت: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك, وأعوذ بك من ضراء مضرة ومن فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين".
قالوا: فأين هذه الأحاديث من أحاديث التطويل صحة وكثرة وصراحة. وحينئذ فيتعين حملها على أنها في أول الإسلام لما كان في المصلين قله, فلما كثروا واتسعت رقعة الإسلام شرع التخفيف وأمر به لأنه أدعى إلى القبول ومحبة العبادة فيدخل فيها برغبة ويخرج منها باشتياق ويندر بها الوسواس فإنها متى طالت استولى الوسواس فيها على المصلي فلا يفي ثواب إطالته بنقصان أجره.
قالوا: وكيف يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره من الائمة من محبة الصحابة له والقيام خلفه لسماع صوته بالقرآن غضا كما أنزل وشدة رغبة القوم في الدين وإقبال قلوبهم على الله وتفريغها له في العبادة ولهذا قال: "إن منكم منفرين", ولم يكونوا ينفرون من طول صلاته صلى الله عليه وسلم فالذي كان يحصل للصحابة خلفه في الصلاة كان يحملهم على أن يروا صلاته وإن طالت خفيفة على قلوبهم وأبدانهمم فإن الإمام محمل المأمومين بقلبه وخشوعه وصوته وحاله فإذا عرى من ذلك كله كان كلا على المأمومين وثقلا عليهم فليخفف من ثقله عليهم ما أمكنه لئلا يبغضهم الصلاة.
قالوا: وقد ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج لشدة تنطعهم في الدين وتشددهم في العبادة بقوله: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم". ومدح الرفق وأهله وأخبر عن محبة الله له وأنه يعطي عليه ما لا يعطي على العنف, وقال: "لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه". وقال: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق". فالدين كله في الاقتصاد في السبيل والسنة. والله تعالى يحب ما دوام عليه العبد من الأعمال, والصلاة القصد هي التي يمكن المداومة عليها دون المتجاوزة في الطول.
الصلاة وأحكام تاركها