بسم الله الرحمن الرحيم


خطبة الجمعة شهر الله المحرم لسماحة العلامة عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله

عباد الله، ... أو كنت مهملًا لأدائك وعملك إن كلا منا مطلوب منه أن يحاسب نفسه على أقواله وأعماله فلعل وقفة مع النفس تحاسب نفسك وإن كان مطلوب في كل الأحوال لكن عند قدوم الأعوام عند مضي عام وقدوم عام ويعلم الإنسان أن هذا العام قد مضى بما مضى فيه فليحاسب نفسه فإن الله يقبل توبة التائبين (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

أيها المسلمون، أيها التجار وأرباب البيعات حاسبوا أنفسكم هل كنتم صادقين بما بعتم من بضاعة هل أنتم بعيدون عن الغش والتدليس والخيانة أم كنتم متخلقين السيئ "فمن غشنا فليس منا"، بعض المصانع والشركات ليتقي الإنسان نفسه ولنحاسب أنفسنا على هذه الشركات والمصانع العظيمة أدت حق الواجب أم هي أساءت بالغش والخيانة والتلاعب بأموال الناس وإظهار مشاريع خيالية لا حقيقة لها واستعمال الأموال فيما حرم الله أيها المتاجر بالأسهم هل كانت تجارتك بالأسهم صادقة صالحة أم كانت تلاعبًا وخيانة واستدراج للناس وخديعة الناس حتى تبيعوا وقت وتشتروا وقتًا آخر والضحية الضعيف المسكين الذي لا يملك إلا القليل أكله أولئك الأقوياء بحيلهم الباطلة وتلاعبهم السيئ وخياناتهم وعدم عدلهم وإنصافهم الكل مطلوب منه أن يحاسب نفسه على أمور أحوالهم كلها فإن من حاسب نفسه في هذه الدنيا نجا يوم القيامة ومن أعطى نفسه مناها وتمادى في الباطل والضلال والغش والخيانة والخداع فإنه أن يفاجئه الأجل من حيث لا يعلم فيندم ولا ينفعه الندم.

أيها المسلمون، شهر الله المحرم، المحرم أحد أشهر الله المحرم شهر مبارك عظيم أحد الأشهر الحرم الذي قال الله فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، ويقول صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".

أيها المسلم، فضائل هذا الشهر أنه أحد الحرم وأنه ابتداء العام الهجري الذي رضيه المسلمون بأن يكون محرم أول العام الهجري في عهد عمر رضي الله عنه لما احتاجوا إلى التاريخ اتفقوا على أن محرم هو أول شهور العام وهذا الشهر المبارك العظيم صيامه من أفضل الصيام يقول صلى الله عليه وسلم لما سأل أي الصيام بعد رمضان أفضل قال: "شهر الله المحرم"، وأي الصلاة بعد الفريضة قال: "صلاة الليل".

أيها المسلمون، هذا الشهر المبارك يعرفه المسلمون بأن فيه يوم العاشر من هذا الشهر يسن لنا صيامه اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم فإن نبينا صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة وإذا اليهود يصومون يوم العاشر فسألهم عن سبب صيامهم فقالوا إنه يوم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه وقال: "أنا أولى بموسى منكم"، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه فلما فرض رمضان صار صيامه سنة من أحب أن يصومه فعل ومن لا يصومه فلا شيء عليه.

أيها المسلمون، ومحمد صلى الله عليه وسلم صام اليوم العاشر من محرم شكر لله على نجاة موسى وقومه وإغراق فرعون وقومه صامه صلى الله عليه وسلم وشرع لنا صيامه وجعل صيامه سنة مؤكدة وفي آخر حياته لما قيل له إنه يوم تعظمه اليهود قال: "إن عشت إلى قابل إن شاء الله لأصومن التاسع"، فتوفي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصوم اليوم التاسع وقال صلى الله عليه وسلم: "صوموا يومًأ قبله أو يومًا بعده خالفوا اليهود"، فالسنة لنا أن نصوم اليوم التاسع والعاشر بأن نصوم الأربعاء الموافق التاسع من شهر محرم ويوم الخميس الموافق للعاشر من محرم ومن شق عليه صيام يوم التاسع وصام يوم الخميس العاشر ويوم الجمعة الحادي عشر فقد أدى السنة وفضائل صوم هذا اليوم يقول أبو قتادة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية"، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام يومًا يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يعني يوم عاشوراء فصوموا رحمكم الله شكرًا لله على نعمته بانجاء موسى وإغراق فرعون اقتداء بنيكم صلى الله عليه وسلم الذي صام هذا اليوم وعظمه وصامه صلى الله عليه وسلم وأرشدنا إلى أن نسبقه بيوم أو نعقبه بيوم فإما أن نصوم التاسع أو العاشر وإما أن نصوم العاشر والحادي عشر ومن صام الأيام كلها فحسن فتلك سنة سنها محمد صلى الله عليه وسلم.

أيها المسلمون، إن محمد صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أولى بموسى منكم"، نعم إن محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أولى بأنبياء الله ورسله لأنهم آمنوا بجميع رسالات الأنبياء وصدقوا جميع الرسل هم أولى بأنبياء ممن انتسب إليهم وهم مخالف لما هم عليه منتسبون إليه وهم مخالفون لما عليه انتسب فيه موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام ولكنهم حرفوا دين الله وبدلوا شرع الله وسعوا في الأرض فساد وقتلوا الأنبياء ونشروا الظلم والعدوان في كل زمان ومكان فمحمد أولى بالأنبياء من أولئك المنتسبين إليهم وهم على خلاف ما كانوا عليه (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)، إن محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أولى الناس بأس بإتباع الأنبياء فمحمد امتداد للأنبياء والمرسلين وأمته كذلك فهم أولى الناس بالأنبياء ممن انتسب إليهم وهو مخالف لما هم عليه كافر بما هم عليهم إن أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)، فمحمد صلى الله عليه وسلم موصوف في كتب الله بشر به الأنبياء قبل أن الله أخذ الميثاق على كل الأنبياء من أدرك محمد آمن به ومن أخذ الميثاق على قومه من بعده من أدرك محمد آمن به فكل الأنبياء أخذوا بميثاق الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أدركه منهم آمن به ويأخذ الميثاق على قومه من أدرك محمد آمن به هؤلاء كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنكروا رسالته وخالفوا لما علموه من كتب الله السابقة الدالة عليه وسلم فحمد وأمته أولى بإتباع الأنبياء وأتباع الأنبياء ممن خالفهم وخالف ما هم عليه فصلوات الله وسلامه عليه أبد دائما إلى يوم الدين (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:

فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.

عباد الله، هذا العام هو الثاني والثلاثين بعد الأربعمائة وألف من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم فنحن نقول هذا اليوم الرابع من شهر الله المحرم لعام اثنين وثلاثين وأربعمائة وألف من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم تلك الهجرة التي يذكرها المسلم كل عام هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من خير بقاع الأرض من مكة شرفها الله هاجر منها بعدما أمضى في دعوته ما يزيد على سنة يدعوا إلى الله وإلى توحيده وإخلاص الدين له وعانى من قومه ما عانى وصبر على كل الأذى والله يأمر بالصبر والاحتساب والتحمل ويقص عليه أنباء الماضين (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)، (اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)، صبر صلى الله عليه وسلم في مكة وجاهد في الله حق الجهاد ببيانه ودعوته إلى الله وتوضيح منهجه الذي جاء لأجله وقومه يعادونه ويحاربونه ويحاربون أتباعه ويؤذونه واشتد الأذى عليهم حتى إذا بلغ أشده أذن الله له بالهجرة إلى المدينة فهاجر إلى طيبه بعدما فشى الإسلام بالأوس والخزرج فهاجر إليهم صلى الله عليه وسلم وأقام هناك دولة الإسلام الأولى في المدينة شرفها الله أقام بها دولة الإسلام الأولى إن هذا الحدث العظيم الهجرة يذكرنا نقطة تحول في هذه الأمة هجرة حققت الأمة الأمن بعد الخوف والقوة بعد الضعف والجهر بالدعوة ونشرها وإقامة دولة الإسلام في طمأنينة وأمن واستقرار وما زال صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنين يدعوا إلى الله والقرآن ينزل إليه في الأحكام والأوامر والنواهي حتى إذا أكمل الله به الدين وأتم به النعمة نقله إلى الرفيق الأعلى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)، إن هذه الهجرة تذكرنا كيف أثر الإيمان في قلوب أولئك تركوا الأموال والبلاد والأهل هجرة لله وطاعة لله يتقربون بها إلى الله (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)، صدقوا الله في إيمانهم صدقوا الله في هجرتهم هاجروا إلى الله ورسوله لا إلى دنيا ولا إلى تجارة وإنما هجرة إلى الله ورسوله هجرة ليأمنوا على دينهم وليظهروا إسلامهم حقا وليدعوا إلى الله وليبصروا عباد الله إنه حدث يمر بنا كل عام نقف معه قليل نتذكر ماضينا المجيد لا للصلاة عليه والاحتفال به ولكن لنحوله إلى أخلاق وسلوك وسيرة عطرة إلى أن نقتدي بهذا النبي الكريم إلى أن نعلم أن هذه الأمة إنما عزها وقوتها ومكانتها بتمسكها بدينها وثباتها على دين الله إن الإسلام حقا هو القادر لتأليف القلوب وجمع الكلمة يقول الله جل وعلا: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ويقول الله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)، فالحمدلله على نعمة الإسلام هذا الدين العظيم الذي إن تمسك به المسلمون له العزة والشرف في الدنيا والآخرة وإن تخلفوا عنه فإن الله جل وعلا يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، إن الأمة الإسلامية لو رجعت إلى تاريخها المجيد وأحوال سلفها الصالح لأزدادت خيرًا وعبرة وثباتًا على الحق واستقامة عليه إنها هجرة تذكر كيف أثر الإيمان في تلك النفوس فتركوا الأهل والبلد والمال كله لله وفي سبيل الله ورجاء لما عند الله من الثواب فعوضهم الله خير من ذلك في دار كرامته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر آخ النبي بين المهاجرين وبين الأنصار تلك الأخوة الصادقة الثابتة الدالة على قوة الإيمان والمحبة قال جل وعلا: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)، إنها هجرة فتحت للدين أبواب فسيحة تنشر دعوة الإسلام ودعا إلى الإسلام وجاهد في الله حق جهاده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب وبعد موت النبي خرجوا مجاهدين فاتحين مبصرين إلى أن نشروا دين الله على معظم أرجاء المعمورة تحقيقًا لقول الله (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، فالحمدلله على نعمة الإسلام ونسأل الله الثبات على الحق والاستقامة عليه وأن يجعل عامنا هذا عام خير وبركة يجمع فيها قلوبنا ويوحد فيها صفوفنا ويرشدنا لما فيه الخير والصلاح ويعيذنا جميعًا من مذلات الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه على كل شيء قدير.