وجدنا كذلك موضوع للدكتور مروان ، ومما جاء فيه :


مما شاع في المنتديات الأدبية ، هذه القصة الخرافية ، التي هي من قصص الوضاعين والكذابين ، وطالما ينال تاريخنا وعلماؤنا وعظماؤنا كثيرا من الأكاذيب والزيف والبهتان .
وأشير هنا إلى أن للقصّاص في الكذب والوضع والتشويه تاريخاً طويلاً ، جعل جماعة من الأئمة ينهون عن حضور مجالسهم ، وأُلّفت في التحذير منهم عدة مصنّفات
( راجع : تاريخ القصّاص ، للدكتور محمد لطفي الصباغ ) .
وهذه القصة واضح فيها الوضع والكذب :
أولا : الخليفة المنصور ، من ملوك الدنيا ، ومن زعماء المسلمين ، وإن رمي بالحرص ، فهو من الخوف على بيت مال المسلمين ، ومما جاء في ترجمته :
المَنْصُور العَبَّاسي (95 - 158هـ، 714 - 775م)
عبد الله بن محمد بن علي بن العباس ، أبو جعفر ، المنصور :
ثاني خلفاء بني العباس ، وأول من عني بالعلوم من ملوك العرب.
كان عارفاً بالفقه والأدب ، مقدماً في الفلسفة والفلك ، محباً للعلماء.
ولد في الحميمة من أرض الشراة (قرب معان) ، وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة 136هـ.
وهو باني (بغداد) أمر بتخطيطها سنة 145هـ ، وجعلها دار ملكه بدلاً من (الهاشمية) التي بناها السفاح .
ومن آثاره :
مدينة (المصيصة) و (الرافقة) بالرقة ، وزيادة في المسجد الحرام .
وفي أيامه شرع العرب يطلبون علوم اليونانيين والفرس ، وعمل أول إسطرلاب في الإسلام ، صنعه محمد بن إبراهيم الفزاري .
وكان بعيداً عن اللهو والعبث ، كثير الجد والتفكير ، وله تواقيع غاية في البلاغة.
وهو والد الخلفاء العباسيين جميعاً ، وكان أفحلهم شجاعة وحزماً ، إلا أنه قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه.
توفي ببئر ميمون (من أرض مكة) ، ومدة خلافته 22 عاماً.
يؤخد عليه قتله لأبي مسلم الخراساني (سنة 137هـ) ، ومعذرته أنه لما ولي الخلافة دعاه إليه ، فامتنع في خراسان ، فألح في طلبه ، فجاءه ، فخاف شره ، فقتله في المدائن .
وكان المنصور أسمر ، نحيفاً ، طويل القامة ، خفيف العارضين ، معرق الوجه ، رحب اللحية ، يخضب بالسواد ، عريض الجبهة (كأن عينيه لسانان ناطقان ، تخالطه أبهة الملوك بزي النساك) ، أمه بربرية تدعى سلامة ، وكان نقش خاتمه :
(الله ثقة عبد الله وبه يؤمن) .
ثانيا : أما الأصمعي ، فهو من رواة العرب الموسوعيين في الحفظ والرواية ، ومما جاء في ترجمته :
الأصْمَعي (122 - 216هـ، 740 - 831م) :
هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي ، أبو سعيد الأصمعي :
راوية العرب ، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان .
نسبته إلى جده أصمع ، ومولده ووفاته في البصرة.
كان كثير التطواف في البوادي ، يقتبس علومها ، ويتلقى أخبارها ، ويتحف بها الخلفاء ، فيكافأ عليها بالعطايا الوافرة ، أخباره كثيرة جداً.
وكان الرشيد يسميه (شيطان الشعر).
قال الأخفش : ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من الأصمعي .
وقال أبو الطيب اللغوي : كان أتقن القوم للغة ، وأعلمهم بالشعر ، وأحضرهم حفظاً. وكان الأصمعي يقول : أحفظ عشرة آلاف أرجوزة.
وتصانيفه كثيرة مشهورة متداولة .
ثالثا : إن القصة المذكورة ، لم ترد في مصدر موثوق ، من مصادرنا التراثية ، وقد بحثت عنها في المكتبة التراثية ، بحثا دقيقا مستقصيا ، وما تركت منها الشارد والوارد ، ولا الصغير ولا الكبير ، وبعد طول البحث والجهد لم أجدها إلا في كتاب واحد ، وهو :
إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس ، لمحمد دياب الإتليدي ( توفي بعد 1100هـ ) وهو رجل مجهول ، لم يزد من ترجموا له على ذكر وفاته ، وأنه من القصّاص ، وليس له سوى هذا الكتاب .
ثم تداولت الكتب الحديثة ، وخاصة النصرانية هذه القصة ، للتندر والطرائف ، وأخذتها المنتديات عنها أخذاً أعمى ، بلا تبصر ولا روية .
رابعا : وأما الإتليدي (؟ - بعد 1100 هـ، ؟- بعد 1689 م) :
فهو محمد دياب الإتليدي :
قصاص ، من إقليم منية الخصيب بمصر ، له كتاب :
(إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس).
ومثل هذا الكتاب مثل كتب جمع الطرف والأشياء الظريفة ، ولكنه كله كتابات ، ليس فيها من صحة التاريخ شيء ، سوى شيئا واحدا ، وهو أسماء الشخصيات التاريخية فحسب .
خامساً : إنّ هذه القصة السقيمة والنظم الركيك كذب في كذب ، وهي من صنيع قاصّ جاهل بالتاريخ والأدب ، كما تلاحظون في ترجمته ، لم يجد ما يملأ به فراغه سوى هذا الافتعال الواهن .
سادساً : انظروا إلى الوضع الواضح فيها :
(قال الراوي : وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه ، فعرف حيلة الخليفة ، فعمد إلى نظم أبيات صعبة ، ثم دخل على الخليفة وقد غيّر هيئته في صفة أعرابي غريب ملثّم لم يبِنْ منه سوى عينيه (!!) فأنشده ......) ، فكلها هذر سقيم ، وعبث تافه معنى ومبنى .
سابعا : ومن الثابت تاريخيا أن صلة الأصمعي كانت بهارون الرشيد لا بأبي جعفر المنصور ، الذي توفي قبل أن ينبغ الأصمعي ، ويُتّخذه نديماً وجليساً ، ثم إن المنصور كان يلقّب بالدوانيقي ، لشدة حرصه على أموال الدولة ، وهذا مخالف لما جاء في القصة ، ثم إن كان المنصور على هذا القدر العجيب من العبقريّة في الحفظ ، فكيف أهمل المؤرخون والمترجمون الإشارة إليها !!؟؟
أضف إلى ذلك أن هذا النظم الركيك أبعد ما يكون عن الأصمعي وجلالة قدره ، وقد نسب له شيء كثير ، لكثرة رواياته ، وقد يحتاج بعض ما نُسب إليه إلى تأنٍّ في الكشف والتمحيص قبل أن يُقضى بردّه ، غير أن هذه القصة بخاصة تحمل بنفسها تُهَم وضعها ، وكذلك النظم ، وليس هذا بخاف عن اللبيب ، بل عمّن يملك أدنى مقوّمات التفكير الحرّ .
وبعد : فإنه يصدق على هذه القصّة قول أستاذنا العلامة عمر فرّوخ - رحمه الله- :
إن مثل هذا الهذر السقيم لا يجوز أن يُروى ، ومن العقوق للأدب وللعلم وللفضيلة أن تؤلف الكتب لتذكر أمثال هذا النظم .
ثامنا : وكل مهتم بالشعر ، ودارس لأدق دقائقه ، فإنه يكتشف أن القصيدة هذه كتبها الكاتب الملفق بطريقة مختلقة جدا ، بيّن فيها الاختلاق والكذب عروضيا ، فهو طبعا ملفق ، ولكن ملفق يفهم طبيعة التاريخ ، وطبيعة الرجل الذي يريد أن يلفق له هذه التفاهات ، قام بكتابة ما كتبه على بحر شعري عربي قديم يسمى الرجز ، والمشهور عن الأصمعي - رحمه الله- أنه كان من المهتمين بجمع الأراجيز العربية القديمة ؛ لأنه كان لغويا عظيما ، والأراجيز التي كتبها العرب كانت هي مجمع اللغة ، ومستقى كل لغوي ، ولكنه كان جاهلا بهذا البحر ، وسقط في أشياء ، لا يقع فيها أبسط دارس لعلم العروض العربي ، أبيات لا يستقيم فيها الوزن العروضي ، وهي على الشكل التالي ، كنموذج للدرس العروضي ، وتبيين سقم الأبيات ، وسوء فهمها :
والبيت الأول في هذه الثلاثة لا يستقيم عروضيا ، ولا علاج له .
والاثنان الأخريان موزونان على مجزوء الكامل ، وهو بحر مقارب للرجز .
وعلى كل حال هذه الأبيات يبين من ركاكتها و لغتها العامية العصر الذي كتبت فيه .
تاسعا : القصيدة المذكورة هنا ركيكة جدا ، تدل لغتها على أنها كتبت في العصر العثماني ، وهو عصر الإتليدي ، الآنف الذكر ، وعصر تأليف كتب التجميع للنقول ، والمعتاد على قراءة كتب هذا العصر ، سيجد اللغة تكاد تكون واحدة .
عاشراً : ورود الكثير من الكلمات ، التي لا تكاد تمت إلى العربية بأي صلة ، و لو بحثتم في أي قاموس أو معجم ، جامع للغة العربية ، مثل :
لسان العرب لابن منظور الإفريقي ، أو الكتاب الموسوعي الجامع المانع تاج العروس ، للشيخ مرتضى الزبيدي ، لما وجدتم أثرا لمثل هذه الكلمات ، بالرغم من أن كلا الكتابين ، هما أجمع كتب اللغة ، ولا تكاد لفظة عربية لم ترد فيهما .