التحقيق السديد

في

الاجتهاد والاتباع والتقليد

(رد على ربيع المدخلي)



الجزء الأول



بسم الله الرحمن الرحيم


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71].


أما بعد:
فقد قال الله - تعالى -: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم).

قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (في تفسيره: 6/4) عند هذه الآية: "الصواب في تأويل ذلك: لا يحب الله أيها الناس أن يجهر أحدٌ لأحد بالسوء من القول ( إلا من ظلم)، بمعنى: إلا من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه، وإذا كان ذلك معناه: دخل فيه إخبار من لم يُقرَ أو أسيء قِراه، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عنوة من سائر الناس، وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم: أن ينصره الله عليه، لأن في دعائه عليه إعلامًا منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له".

وقال في تفسير قوله - تعالى - (25/37): (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).
"يقول تعالى ذكره: والذين إذا بغى عليهم باغ واعتدى عليهم هم ينتصرون".

وبعد أن ذكر خلافاً في المعني بالآية، وهل هي منسوخة قال: "وقال آخرون: بل هو كلّ باغ بغى فحمد المنتصر منه.
وهذا القول أولى في ذلك بالصواب، لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى، بل حمد كلّ منتصر بحقّ ممن بغى عليه.
فإن قال قائل: وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحقّ وعقوبته بما هو له أهل تقويماً له، وفي ذلك أعظم المدح.

وقوله:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، معناه: وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه، فهي وإن كانت عقوبة من الله أوجبها عليه، فهي مساءلة له. والسيئة: إنما هي الفعلة من السوء، وذلك نظير قول الله - عز وجل - (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا)".

وذكر قول من خالف هذا في توجيه الآية ثم رجح قائلاً: غير أن الصواب عندنا: أن تحمل الآية على الظاهر ما لم ينقله إلى الباطن ما يجب التسليم له، وأن لا يحكم لحكم في آية بالنسخ إلا بخبر يقطع العذر أو حجة يجب التسليم لها،ولم تثبت حجة في قوله:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) أنه مراد به المشركون دون المسلمين، ولا بأن هذه الآية منسوخة، فنسلم لها بأن ذلك كذلك".

وقال في تفسير قوله - تعالى - ( 25/39): (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، "يقول تعالى ذكره: ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه (فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) يقول: فأولئك المنتصرون منهم لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة ولا أذى، لأنهم انتصروا منهم بحقّ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه ولم يتعد لم يظلم فيكون عليه سبيل".

وبعد أن ذكر خلافاً في المعني بالآية، وهل هي منسوخة قال: "والصواب من القول أن يقال: إنه معنيّ به كل منتصر من ظالمه، وأن الآية محكمة غير منسوخة للعلة التي بينت في الآية قبلها....، وقوله:( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ) يقول - تبارك و تعالى -: إنما الطريق لكم أيها الناس على الذين يتعدّون على الناس ظلماً وعدواناً، بأن يعاقبوهم بظلمهم لا على من انتصر ممن ظلمه، فأخذ منه حقه.

وقوله:( وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) يقول: ويتجاوزون في أرض الله الحدّ الذي أباح لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه، فيفسدون فيها بغير الحق.(أولئك لهم عذاب أليم)، يقول: فهؤلاء الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، لهم عذاب من الله يوم القيامة في جهنم مؤلم موجع".

وقال في تفسير قوله تعالى (14/195): (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به):" يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة".

قلت: وهذا الذي قدمناه هو الحكمة والعدل الذي جاءت به هذه الشريعة الكاملة، أما العفو في محله فهو فضل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (كما في مختصر فتاوى ابن تيمية للبعلي ص314):"قال -تعالى-:(وإذا ما أصابهم البغي هم ينتصرون)، قال النخعي: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا.

قال الله - تعالى-:(هم ينتصرون): يمدحهم بأن فيهم همة الانتصار للحق والحمية، ليسوا بمنزلة الذين يعفون عجزاً وذلاً، بل هذا مما قد ذم به الرجل".

وقال شيخ الإسلام ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله -: " وقال شيخنا إن في الآية: ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)فائدة عظيمة، وهو أنه حمدهم أنهم ينتصرون عند البغي عليهم...".

قال الحافظ ابن رجب ( في جامع العلوم والحكم1/450): " وأما قوله: ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) فليس منافياً للعفو؛ فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام ثم يقع العفو بعد ذلك فيكون أتم وأكمل.

قال النخعي في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا.

وقال مجاهد: كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فيجترئ عليه الفساق.

فالمؤمن إذا بغي عليه يظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك، وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف، منهم قتادة وغيره".


وصدق وأحسن من قال:

من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ##### إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
***
وصدق وأحسن الآخر في قوله:
ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ##### ولا خير في حلم امرئ ذَلَّ جانِبُهْ

وأحسن وصدق الآخر - أيضاً - في قوله:
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع ##### وحلم الفتى في غير موضعه جهل

وأحسن من قال:
حلمت عن السفيه فزاد بغياً ##### وعاد فكفه سفهي عليه
وفعل الخير من شيمي ولكن ##### أتيت الشر مدفوعاً إليه

وما أحسن قول القائل:
إذا أنت جاريت السفيه كما جرى ##### فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
إذا أمن الجهال حلمك مرةً ##### فعرضك للجهال غنم من الغنم
فلا تعترض عرض السفيه وداره ##### بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم
فيرجوك تارات ويخشاك تارة ##### ويأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بداً من الجهل فاستعن ##### عليه بجهال فذاك من الحزم


والحامل على هذا الرد أمر لا يسوغ السكوت فيه بحال؛ لأنه في حقيقته ونتيجته هدم للدين في شخصي، فجميع ما افتراه المردود عليه موجه إلى الطعن في الديانة بحجة مزورة هي أنني وقعت في ضلالات ويقال عني:".. زنيتِ، سرقتِ"؛ فلو سكت ولم أرد هذا الباطل، وذلك الضلال والعدوان ببيان الحق الذي عليه اجماع أهل السنة والجماعة كنت خائناً لديني وأمتي، وجانياً على الإسلام وأهله، كاتماً للحق، مقراً الباطل، جالباً على نفسي الكفر والضلال في الدنيا والهلاك في الآخرة والله المستعان على ما يصفون.

ولما لم أبادر برد باطله استشرف الناس للفتنة، وانجفلوا وراءه، وكان إحجامي بعض الوقت عن الرد عليه كتابة انتظاراً لهدوء الثورة التي أحدثها، ولنظر العلماء والمشايخ وطلاب العلم في كلامه وردودهم عليه؛ لأن جهالاته وأباطيله وضلالاته لا تخفى على ذوي البصيرة؛ وذلك لكونها موجهة إلى الدين، بل إلى أصوله، وليس لمجرد شخصي، وأثناء المدة التي سبقت ردودي لم أسكت، بل إذا سئلت بينت ضلاله.

وقد كثرت الردود عليه من العلماء لما سئلوا ومن غيرهم.

فصل


وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما ##### كانت عليه مذاهب الأبرار
وأقول خير الناس بعد محمد ##### صديقه وأنيسه في الغار
ثم الثلاثة بعده خير الورى ##### أكرم بهم من سادة أطهار
هذا اعتقادي والذي أرجو به ##### فوزي وعتقي من عذاب النار

*****


من كان يرغب في النجاة فما له ##### غير اتباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ##### سبل الغواية والضلالة والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ##### صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
ودع السؤال بكم وكيف فإنه ##### باب يجر ذوي البصيرة للعمى
الدين ما قال النبي وصحبه ##### والتابعون ومن مناهجهم قفا

******


وإذا أتتك مقالة قد خالفت ##### نص الكتاب أو الحديث المسند
فاقف الكتاب ولا تمل عنه وقف ##### متأدباً مع كل حبر أوحد

******


ليس الطريق سوى طريق محمد ##### فهي الصراط المستقيم لمن سلك
من سار في طرقاته فقد اهتدى ##### سبل الرشاد ومن يزغ عنها هلك

*****


واقف النبي وأتباع النبي وكن ##### من هديهم أبداً تدنو إلى قبس
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر ##### تجلو بنور هداه كل ملتبس
نور لمقتبس خير لملتمس ##### حمى لمحترس نعمى لمبتئس
فاعكف ببابهما على طلابهما ##### تمح العمى بهما عن كل ملتمس
ورد بقلبك عذباً من حياضهما ##### تغسل بمائهما ما فيك من دنس

*****

مقالة ذي نصح وذات فوائد ##### إذا من ذوي الألباب كان استماعها
عليكـم بآثار النبي فإنــــها ##### من افضـل أعمال الرشــاد اتباعـها



فصل


قال الشيخ العلامة أبو بكر محمد بن عارف خوقير المكي في خاتمة كتابه: (ما لابد منه في أمور الدين): "... ملتمساً تأييد أهل الحق والحقائق لما فيه.. فقد قال بعضهم: ينبغي لكل مؤمن أن يصرح بعقيدته على رؤوس الأشهاد فإن كانت صحيحة شهدوا له بها عند الله - تعالى -، وإن كانت غير ذلك بينوا له فسادها ليتوب منها..

والحق برهان على نفسه لا يخفى على بصير، ولا يعدم له نصير، والإخلاص ينفذ القول إلى أعماق القلوب، ويمتلك الوجدان بقوة البرهان وحسن البيان، ويتردد صداه في أنحاء النفوس فيستحيل رجوعها عنه، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب( 1)، كما قيل: الرجوع عن الحق بعد العلم به محال".

فصل


ونحن وإن كنا نلتمس من علمائنا ما التمسه العلامة خوقير – رحمه الله - من التأييد على الحق - وقد فعلوا -، ونقول ببقية قوله، لا نشك - ولله الحمد والمنة - في سلامة وحقيقة وأحقية منهجنا وعقيدتنا، وقد شهد لنا بها أهل العلم والفضل - كما أشرنا -، وأنكروا على مخالفنا وباهتنا وردوا عليه.

ثم أقول في كتابي هذا بقول الإمام محمد بن علي الشوكاني (في مقدمته على السيل الجرار) : "وستقف يا طالب الحق بمعونة الله - سبحانه - في هذا المصنف على مباحث تشد إليها الرحال، وتحقيقات تنشرح لها صدور فحول الرجال، لما اشتمل عليه من إعطاء المسائل حقها من التحقيق ..." .

وما نكتبه نوافق فيه ما قاله الإمام العلامة ابن قتيبة في كتابه (الاختلاف في اللفظ .. ص20):"وسيوافق قولي هذا من الناس ثلاثة:

رجلاً منقاداً سمع قوماً يقولون فقال كما قالوا فهو لا يرعوي ولا يرجع؛ لأنه لم يعتقد الأمر بنظر فيرجع عنه بنظر.

ورجلاً تطمح به عزة الرئاسة، وطاعة الإخوان، وحب الشهرة، فليس يرد شهوته ولا يثني عنانه إلا الذي خلقه إن شاء؛ لأن في رجوعه إقراره بالغلط، واعترافه بالجهل، وتأبى عليه الأنفة(2 )، وفي ذلك – أيضاً - تشتت جماح وانقطاع نظام، واختلاف إخوان، عقدتهم له النحلة(3 ) والنفوس لا تطيب بذلك إلا من عصمه الله ونجاه.

ورجلاً مسترشداً يريد الله بعمله لا تأخذه فيه لومة لائم، ولا تدخله من مفارق وحشة، ولا تلفته عن الحق أنفة، فإلى هذا بالقول قصدنا وإياه أردنا".

قال أبو عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكي (كما في تاريخ دمشق لابن عساكر 71/224): "الناس ثلاث طبقات: فمطبوع غالب، هؤلاء أهل الإيمان والاتفاق فإذا غفلوا ذكروا فرجعوا من غير أن يذكروا، وذلك قوله تعالي: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، فهؤلاء الطبقة العليا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطبقة الثانية: مطبوع مغلوب، فإذا بصروا أبصروا فرجعوا بقوة الطباع إلى محجة العقلاء، والطبقة الثالثة: مطبوع مغلوب غير ذي طباع، ولا سبيل لك أن ترده بمواعظك وأدبك إلى محجة الفضلاء"(4 ).

فصل


قال شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد السلام - رحمه الله - (في إبطال وحدة الوجود ص118): " فلولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام ومشايخ الإسلام وأهل التوحيد والتحقيق...، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأنه إذا ضلت العقول لم يبق لضلالها حد معقول".

قال العلامة محمد بن عبد الهادي ( في الصارم المنكي .. ص15):" وهذا المعترض يعلم أن ما نقله هذا القاضي المشهور بما لا أحب حكايته عنه في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام كذب مفترى، لا يرتاب في ذلك، ولكنه يطفف ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه.

...فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على بعض ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهَم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل - ولله الحمد -، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخب والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس، لطال الخطاب ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم.

... هذا مع سرده كلام الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة..." إلى أن قال: " وزعمه أن الشيخ يخالفهم فيما قالوه، مع العلم بأنه موافق لهم فيما نقل عنهم لا مخالف لهم، وإنما مقصود هذا المعترض تكثير الكلام وجمع ما أمكن ليَعْظم حجم الكتاب" .

وقال الشاطبي – رحمه الله - ( في الاعتصام: 1/176)، في معرض حديثه عن أهل البدع: "... ذكرهم بما هم عليه، وإشاعة بدعتهم، كي يحذروا ولئلا يغتر بكلامهم، كما جاء عن كثير من السلف".

وقال الحافظ بن رجب – رحمه الله - (في الفرق بين النصيحة والتعيير ص36):"... فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبّه بالعلماء وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم...، ومن عرف منه أنه أراد برده على العلماء... التنقيص والذم وإظهار العيب فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظائره عن هذه الرذائل المحرمة".

قلت: وكتابة الردود من الواجبات؛ لأجل استبانة الحق وكشف الباطل، ولتستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، كما قال - تعالى - (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)، وإظهاراً للحق ونصرة للدين والقضاء على الفتن، وحتى لا يقع الناس في الشبه الضارة المهلكة في الدين، والتي قال فيها الأمام ابن القيم (في مفتاح دار السعادة 1/442)،وهو يشرح عبارة: ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة:" هذا لضعف علمه وقلة بصيرته، إذا وردت على قلبه أدنى شبهة قدحت فيه الشك والريب، بخلاف الراسخ في العلم، لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر، ما أزالت يقينه ولا قدحت فيه شكاً؛ لأنه قد رسخ في العلم، فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة ومغلوبة.

والشبهة: وارد يَرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له، فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه، بل يقوى علمه ويقينه بردها ومعرفة بطلانها، ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة، فإن تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها، حتى يصير شاكاً مرتاباً، والقلب يتوارده جيشان من الباطل: جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغى إليها وركن إليها تشربها وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه.
وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه، وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد: «لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات"، أو كما قال.

فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.

وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها؛ فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل، وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر، فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس، فيعتقد صحتها.

وأما صاحب العلم واليقين فانه لا يغتر بذلك، بل يجاوز نظره إلى باطنها وما تحت لباسها فينكشف له حقيقتها، ومثال هذا: الدرهم الزائف؛ فإنه يغتر به الجاهل بالنقد نظراً إلى ما عليه من لباس الفضة، والناقد البصير يجاوز نظره إلى ما وراء ذلك فيطلع على زيفه.

فاللفظ الحسن الفصيح: هو للشبهة بمنزلة اللباس من الفضة على الدرهم الزائف، والمعنى كالنحاس الذي تحته.
وكم قد قتل هذا الاغترار من خلق لا يحصيهم إلا الله!.

وإذا تأمل العاقل الفطن هذا القدر وتدبره رأى أكثر الناس يقبل المذهب والمقالة بلفظ، ويردها بعينها بلفظ آخر، وقد رأيت أنا من هذا في كتب الناس ما شاء الله!

وكم رد من الحق بتشنيعه بلباس من اللفظ قبيح!.
...، وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ.
ومن رزقه الله بصيرة، فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل، ولا يغتر بالل
فظ، كما قيل في هذا المعنى:

تقول هذا جني النحل تمدحه ##### وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما ##### والحق قد يعتريه سوء تعبير


فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى: هل هو حق أو باطل؟ فجرده من لباس العبارة، وجرد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعط النظر حقه ناظراً بعين الإنصاف، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه، ومن يحسن ظنه نظراً تاماً بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه، وممن يسيء ظنه به: كنظر الشزر والملاحظة، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة عكسه، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق وقد قيل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ##### كما أن عين السخط تبدي المساويا


وقال آخر:

نظروا بعين عداوة لو أنها ##### عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا


فإذا كان هذا في نظر العين الذي يدرك المحسوسات، ولا يتمكن من المكابرة فيها، فما الظن بنظر القلب الذي يدرك المعاني التي هي عرضة المكابرة؟!.

والله المستعان على معرفة الحق وقبوله، ورد الباطل وعدم الاغترار به"


وقال العلامة المفسر عبد الرحمن بن سعدي (في مجموع الفوائد واقتناص الأوابد ص229):"الشبه الباطلة والمقالات الفاسدة: تختلف نتائجها وثمراتها باختلاف الناس؛ فتحدث لأناس الجهل والضلال، ولأناس الشك والارتياب، ولأناس زيادة العلم واليقين:
فأما الذين تلتبس عليهم ويعتقدونها على عِلاتها، أو يقلدون فيها غيرهم من غير معرفة بها؛ بل يأخذونها مسلمة؛ فهؤلاء يضلون ويبقون في جهلهم يعمهون، وهم يظنون أنهم يعلمون ويتبعون الحق... وما أكثر هذا الصنف! فدهماء أهل الباطل كلهم من هذا الباب ضلال مقلدون.

وأما الذين تحدث لهم الشك فهم الحذاق، ممن عرف الشبه وميز ما هي عليه من التناقض والفساد، ولم يكن عنده من البصيرة في الحق ما يرجع إليه؛ فإنهم يبقون في شك واضطراب، يرون فسادها وتناقضها، ولا يدرون أين يوجهون؟!.

كتبه /فالح بن نافع الحربي

تابع الكتاب على هذا الرابط(الجزء الأول)

http://www.sh-faleh.com/books.php?book_id=17


_ _ _ _ _ _


1-يشير إلى قول هرقل الروم لأبي سفيان - قبل إسلامه، كما في صحيح البخاري -: «وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب ».

2-وهذا ممن قال فيهم محمد بن الحسين الآجري (في أخلاق العلماء 146) : "إن علم أنه قال قولا فتوبع عليه وصارت له به رتبة عند من جهله، ثم علم أنه أخطأ أنِفَ أن يرجع عن خطئه فثبت، ينصر الخطأ لئلا تسقط رتبته عند المخلوقين"
3-وهذا هو خصيمنا حسيبه الله.

4- وهذا هو صاحبنا - أيضاً - وقد اختبرناه من كل وجه وبطناً إلى ظهر فلم نجده إلا كذلك