بسم الله الرحمن الرحيم

الصيام بنية واحدة لجميع الشهر وأقوال السلف في ذلك


وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة‏,‏ والشافعي وابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهذا مذهب مالك‏,‏ وإسحاق لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته ولنا أنه صوم واجب‏,‏ فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها‏,‏ فأشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان ‏.‏

فصل‏:‏

ومعنى النية القصد‏,‏ وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه من غير تردد‏,‏ فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وأنه صائم فيه فقد نوى وإن شك في أنه من رمضان ولم يكن له أصل يبني عليه‏,‏ مثل أن يكون ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر فعزم أن يصوم غدا من رمضان‏,‏ لم تصح النية ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد تتبع العلم‏,‏ وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة ومالك‏,‏ وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر وقال الثوري‏,‏ والأوزاعي‏:‏ يصح إذا نواه من الليل لأنه نوى الصيام من الليل فصح كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يجزم النية بصومه من رمضان‏,‏ فلم يصح كما لو لم يعلم إلا بعد خروجه وكذلك لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب‏,‏ لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه‏,‏ ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته‏,‏ وأفطروا لرؤيته‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ فأما ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته‏,‏ وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصومه بقوله‏:‏ ‏(‏ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ لكن إن قال‏:‏ إن كان غدا من رمضان فأنا صائم‏,‏ وإن كان من شوال فأنا مفطر فقال ابن عقيل لا يصح صومه‏:‏ لأنه لم يجزم بنية الصيام والنية اعتقاد جازم ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان ‏.‏
فصل‏:‏

ويجب تعيين النية في كل صوم واجب‏,‏ وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارته‏,‏ أو نذره نص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ أسير صام في أرض الروم شهر رمضان‏,‏ ولا يعلم أنه رمضان ينوي التطوع‏؟‏ قال‏:‏ لا يجزئه إلا بعزيمة أنه من رمضان ولا يجزئه في يوم الشك إذا أصبح صائما وإن كان من رمضان إلا بعزيمة من الليل أنه من رمضان وبهذا قال مالك‏,‏ والشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يجب تعيين النية لرمضان فإن المروذي روى عن أحمد‏,‏ أنه قال‏:‏ يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على أننا نصبح صياما يجزئنا من رمضان وإن لم نعتقد أنه من رمضان‏؟‏ قال‏:‏ نعم قلت فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ أليس يريد أن ينوي أنه من رمضان‏؟‏ قال‏:‏ لا إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري‏,‏ عن بعض أصحابنا أنه قال‏:‏ ولو نوى نفلا وقع عنه رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة وقال بعض أصحابنا‏:‏ ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه قال القاضي‏:‏ وجدت هذا الكلام اختيارا لأبي القاسم‏,‏ ذكره في ‏"‏شرحه‏"‏ وقال أبو حفص‏:‏ لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم فعلى القول الثاني‏:‏ لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا‏,‏ وقع عن رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة إذا كان مقميا لأنه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له‏,‏ كطواف الزيارة ولنا أنه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء وطواف الزيارة‏,‏ كمسألتنا في افتقاره إلى التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أو طاف بنية الطواف مطلقا‏,‏ لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض ولو حج عن غيره‏,‏ ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الإحرام بمثل ما أحرم به فلان صح‏,‏ وينعقد فاسدا بخلاف الصوم‏.‏

فصل‏:‏

ولو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فأنا صائم‏,‏ فرضا وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية الأولى لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما‏,‏ ويجزئه على الأخرى لأنه قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد‏,‏ وكان الاثنين أو ظن أن غدا الأحد فنواه‏,‏ وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل وإنما أخطأ في الوقت‏.‏

فصل‏:‏

وإذا عين النية عن صوم رمضان‏,‏ أو قضائه أو كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا وقال ابن حامد‏:‏ يجب ذلك وقد مر بيان ذلك في الصلاة‏.‏

منقول من كتاب العظيم المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي