النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات/ إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

مشاهدة المواضيع

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2005
    الدولة
    بلاد الله
    المشاركات
    1,500

    نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات/ إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

    بسم الله الرحمن الرحيم

    نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات/ إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

    1 - التقدمة .

    2 - مهمة التشريع .

    3 - الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر .

    4 - بدء ظهور المخدرات وانتشارها .

    5 - جلب المصلحة ودفع المفسدة .

    6 - الأدلة الشرعية على تحريم المخدرات .

    7 - علاقات المخدرات بالخمر .

    8 - نصوص الكتب الفقهية في مختلف المذاهب .

    9 - فقه السنة .

    10 - الدراسات الحديثة المؤيدة .

    11 - الدخان .

    اللهم لك الحمد خلقت الإنسان وفضلته على غيره من الأكوان ، بما ركبت فيه من قوى أعلاها العقل ، وأغلاها الإدراك والفهم ، ولكن كثيرا من عبادك نسوا ذلك التفضيل ، فتورطوا فيما يسلبهم نعمتك كلا أو بعضا ، ولم يكن لهم عزم يؤثرون به تلك المنة ، اللهم إنهم مساكين فاهدهم من ضلالهم وبصرهم بأمرهم ، لقد شربوا الإثم ، وأكلوا من الطعام الخبيث المفسد للعقل ؛ ظنا منهم أن ذلك يضاعف متعهم ، فارتد عليهم ذلك بعكس ما يريدون وقضى عليهم ، إن من عاش منهم يشقون ويتخبطون ، ومن مات منهم فقد خسروا دينهم ودنياهم ، ولم يفارقوا الحياة إلا بعد أن حقت عليهم كلمة الشقوة إلا من تاب .

    هذا وإن تحريم الخبائث قد أصبح مما علم من الدين بالضرورة ، ولا سيما أم الخبائث " الخمر" على أن ما عداها من المخدرات لن يختلف عنها كثيرا في إقبال الناس عليه مع شدة ظهوره ، وقد يكون في بعض الطوائف والطبقات أكثر بحكم بيئاتهم ، وعلى مقتضى قدراتهم .

    ولما طلب منا أن نكتب في نظرة الشريعة الغراء إلى هذه المخدرات في بحث متكامل ، رأينا أن ندرس فيه عدة نواح من الشريعة تتصل بهذا الأمر ، وتنتهي إلى تعرف الحكم الشرعي من وجهة نظر الفقهاء مع تعرف وجهات التشريع الإسلامي ، وتوجيه ما يصلح العباد ، ويأخذ بحجزهم عن الفساد ، وما يعزز ذلك من بحوث المصلحين ودراسات الأطباء والنفسيين ؛ فإن الإسلام هداية تفسرها شواهد الوجود ، وتثبتها وقائع الحوادث وأحوال الخلائق ، فمن كان سعيدا في عيشته فلأنه عرف سبيل الإسلام ، وأخذ نفسه بالعمل به ، ومن كان شقيا في حياته فلأنه تنكب عن جادته ، وصدق الله إذ يقول : سورة الأنعام الآية 153 وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ويقول سبحانه فيما يصور

    الانحراف والمنحرفين : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

    وقد اقتضت وجهة النظر في تسلسل البحث أن يكون على الوجه الآتي .

    أولا : الفرق بين حقيقة كل من المسكر والمخدر والمفتر .

    ثانيا : بدء ظهور المخدرات وانتشارها بين المسلمين .

    ثالثا : مهمة التشريع الإسلامي في هذه الأمة في ناحيتين رئيسيتين هما : الرحمة بهم ، ورعاية مصالحهم حتى تطمئن النفوس إلى كل حكم من أحكام الشريعة ، وتفهم أنه لا بد أن يكون معقول المعنى ، وإن خفي أحيانا كما تتجه بالصبي وجهة الرفق به وإن لم يعلم ، واعتبار ما ينفعه وإن لم يفهم ؛ لضيق أفقه ونقص إدراكه سورة البقرة الآية 216 وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

    والقصد بجانب الرحمة معنى اليسر في التشريع سهولة ووضوحا في التعبير ، وتخفيفا في التكليف ، ورفع الإصر الذي كان في الأمم السابقة مع الترخيص إذا طرأ عذر على المكلف يقتضي التخفيف في التكليف كالمرض والسفر والشيخوخة والكبر ، وبذلك ونحوه يجد الإنسان حبا لدينه ويأنس بشرع الله وتوجيهه مع تأييد ذلك بأدلة من الكتاب والسنة ، وصور من أحكامهما في ذلك .

    والقصد بجانب المصلحة ما دل عليه الاستقراء من أن أحكام الله سبحانه موضوعة لمصالح العباد ، ولا بد من تحقيق الرحمة في هذا الجانب أيضا ولكن قد تختلف النواحي وضوحا وظهورا

    وإن تجاوبت في مؤداها ، فبين الناحيتين تلازم وكمال ارتباط . )

    رابعا : علاقة المصلحة الراجحة في التشريع الإسلامي بالتكاليف ، وكيف رجعت التكاليف إلى الأقسام الثلاثة ، الضروريات ، والحاجيات ، والتحسينيات ، وكيف كانت الأولى هي الأصل في الأحكام الشرعية ، وكانت الحاجيات والتحسينيات خادمة لها . ولعل في ذلك أيضا ما يزيد طمأنينة الإنسان إلى حكم ربه التكليفي ، كما يطمئن المؤمن بحكم إيمانه إلى حكم ربه الكوني وقضائه الحتمي الإلهي ، وفي هذا أيضا درس لمن يعرضون عن تشريع الله ، فينطلقون في شهواتهم حين يأخذ الشيطان بنواصيهم إلى حتوفهم ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ولا بد من بيان أن تحقيق المصالح التي قصد إليها التشريع من التكليف تتنافى مع تعاطي هذه المخدرات ، وإنها محاربة لله عز وجل في تشريعه ، وإيثار للفكر الجائر الخاطئ على تشريعه ، إذ كان المقصود هو نظرة التشريع الإسلامي إلى تلك الخبائث وحكمه فيها على مقتضى تلك المصالح .

    خامسا : أدلة تحريم كل ما يزيل العقل وعلى رأسه تلك الخمر التي سماها الله سبحانه رجسا من عمل الشيطان ؛ لأنها هي التي كانت تتعاطى والقرآن ينزل ، فدخل في حكمها كل ما هو مثلها في القضاء على العقل ، وفهم الأئمة ذلك فلم يترددوا في الحكم به ، كما سيتبين ذلك في موضعه .

    ويشمل هذا البحث أمرين ما يتعلق أولا بالخمر وحدها ، ونظرة الشارع في أمرها ، وما يتعلق بالمخدرات ثانيا ، ووجه الربط بين الأمرين ببيان ما بينهما من المعنى الذي لا فكاك منه ولا محيص عنه في نقل الحكم ، وللعلماء وجهات نظر في تحريم تلك

    المخدرات مع إجماعهم عليه ، كما سيتجلى لك في هذه الدراسة إن شاء الله .

    سادسا : نقول من كتب الفقه في المذاهب المختلفة ، والكتب الفقهية هي التي نقلت الفقه بالأمانة والدقة وتلقاها الناس بالقبول دون نكير ، ولعل في نقل تلك النقول ما يقطع الشغب ويقنع من لا يقنعه غير ذلك ، ولذلك كان لا بد من عرض عبارات تلك الكتب بأمانة ، ويكفي من ذلك ما يمكن أن يمثل المذهب الذي يبينه الكتاب دون استيعاب ، ويتصل بذلك عرض ما يتسنى عرضه من الفتاوى الحديثة المعاصرة التي هي صدى لذلك الماضي وأثر صالح له .

    سابعا : عرض نظرة العلم الحديث والثقافة المعاصرة في الطب البدني والنفسي والعقلي والاجتماعي ، ونظرة القانون وما إلى ذلك مما يؤيد وجهة نظر الإسلام إلى ذلك الداء المجحف المخيف ، ونسأل الله أن يتداركنا بلطفه في القضاء عليه ، وتوجيه النفوس إلى ما يبدل سيئاتنا حسنات ، وكان الله غفورا رحيما .

    ثامنا : خاتمة تجمع شتات الموضوع وتدعو إلى تضافر الجهود على تطهير المجتمع من كل رذيلة ، وخاصة هذا البلاء الذي إذا عرض لزم إن لم يرد الله خيرا بالناس فيردهم إلى الصراط المستقيم ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا ، وأنت تجعل الحزن إن شئت سهلا .
    والحمد لله رب العالمين .
    أولا : الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر

    لا يليق بمن يريد أن يبين الحكم الشرعي في تعاطي شيء من هذه الأنواع الثلاثة أن يتكلم في ذلك إلا بعد أن يعرف من خواصها وآثارها في متعاطيها وفي المجتمع ما يسهل له الرجوع بها إلى نصوص الشريعة عامها وخاصها ، وينير له الطريق في الحكم عليها ، وإلا كان كمن يقتحم لجة البحر ليسبح فيها وهو لا يحسن السباحة ، وكان جريئا على القول على الله بغير علم ، وقد نهى سبحانه عن ذلك في عموم قوله : سورة الإسراء الآية 36 وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا

    وفيما يلي بيان معانيها وخواصها : -

    أ- الخمر : تطلق الخمر على معنى الستر والتغطية ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : خمروا آنيتكم واذكروا اسم الله وقوله للصحابة فيمن وقصته ناقته فمات وهو محرم : لا تخمروا رأسه ، ولا تمسوه طيبا ؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ، ومنه تسمية ما تغطي به المرأة رأسها وتلقيه على نحرها وصدرها خمارا ؛ لستره ذلك ، قال الله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ومنه الكلمة السائدة : " خمري أم عامري " ولذا سمي ما يغيب العقل ويغطيه خمرا في اللغة ، مائعا كان أم جامدا ؛ لسترها إياه ، وحجبه عما كان يدركه من الأمور قبل تناول الخمر .

    ويطلق أيضا على النضج والإدراك ، ومنه خميرة العجين لما ترك منه حتى يتغير ، ومنه تخمرت الفكرة ، إذا تمادى الباحث عنها في بحثه حتى أدركها ومحصها وتمكنت من نفسه .

    وتطلق أيضا على معنى الخلط والاختلاط ، وهو تابع للمعنى الأول والثاني ، ومنه " الخمر ما خامر العقل" سميت بذلك لمخامرتها العقل .
    يقال منها : خمر الشراب يخمره ويخمره خمرا ، وخمره تخميرا إذا تركه حتى يصير خمرا ، وخمره الشراب يخمره وأخمره غيب عقله وستره .

    وتطلق في عرف الفقهاء على ما أسكر أي غيب العقل مع نشوة وطرب ، فمعناه في عرفهم أخص وأضيق دائرة منه في اللغة ، فكل ما يسمى خمرا عند الفقهاء يسمى خمرا في اللغة دون العكس .

    ب - المخدر : هو مأخوذ من الخدر ، وهو الضعف والكسل والفتور والاسترخاء ، يقال : خدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة ، وخدر الشارب كفرح خدرا إذا فتر وضعف ، ويطلق الخدر أيضا على ظلمة المكان وغموضه ، يقال : مكان أخدر وخدر ، إذا كان مظلما . ومنه قيل للظلمة الشديدة : خدرة ، وكل ما منعك بصرك عن شيء وحجبه عنه فقد أخدره . والخدر : كل ما واراك ، ومنه خدر الجارية وهو ما استترت فيه من البيت ، وخدر الأسد يخدر وأخدر لزم خدره وأقام به ، وخدره أكمته ، وأخدره عرينه واراه .

    ويطلق الخدر أيضا على البرودة - يقال : ليلة خدرة إذا كانت باردة ، ويوم خدر إذا كان باردا .

    ويطلق الخدور على التحير ، يقال : رجل خادر- إذا كان متحيرا .

    من هذا يتبين أن المادة تدور على معنى الضعف والكسل والفتور ، ومعنى الظلمة والسير والغموض وعلى معنى البرودة ، ومعنى لزوم الشيء والإقامة به ، ويتبع ذلك الجبن والتأخر ، والحيرة والتردد والتبلد وعدم الغيرة ، وكل هذه المعاني متحققة فيمن يتعاطى المخدرات مائعها وجامدها .

    ج- المفتر : هو مأخوذ من التفتير والإفتار وهو ما يورث ضعفا بعد قوة

    وسكونا بعد حدة وحركة واسترخاء بعد صلابة ، وقصورا بعد نشاط ، يقال : فتره الأفيون مثلا يفتره وأفتره يفتره إفتارا إذا أصابه بما ذكر من الضعف والقصور والاسترخاء ، ففتر يفتر ويفتر لان بعد شدة ، واسترخى بعد صلابة ، وضعف بعد قوة ، وكسل بعد نشاط ، وكل هذه الآفات متحققة فيمن يتعاطى المخدرات على اختلاف أنواعها مائعها وجامدها .

    ثانيا : بدء ظهور المخدرات وانتشارها بين المسلمين

    ذكر بعض العلماء أن أول ظهور الحشيشة بين المسلمين كان في أواخر القرن السادس الهجري أيام الحرب التي نشبت بين المسلمين والتتار ، والتي تسلط فيها الكفار على المسلمين ، وأعملوا فيهم سيوفهم بما ارتكبوا من الذنوب والآثام ، فهي من الآفات والأدواء الفتاكة التي تخلفها الحروب والعادات الخبيثة التي تسري إلى الدول المغلوبة على أمرها من الدولة الغالبة الجبارة ، هذا هو شأن الحروب الطاحنة في جميع العصور وشأن الدول المغلوبة التي تعتصم بدينها الحنيف ومبادئه السامية مع الدول العاتية الظالمة .

    قال ابن تيمية في بدء ظهور الحشيشة : ص 205 من جـ (34) من مجموع الفتاوى . فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة حين ظهرت دولة التتر ، وكان ظهورها مع ظهور سيف ( جنكيز خان ) ، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو . . اهـ المقصود من كلامه .
    ثالثا : مهمة التشريع الإسلامي في جانب الرحمة وفي جانب المصلحة

    هذا الدين رحمة للعباد . قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وواضح أن تلك الرحمة أول ما تتجلى

    فيما بعث الله سبحانه هذا النبي الكريم بهذا الكتاب المبين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وينقذهم مما تورطوا فيه من جهل وضلال ، حتى كانوا كما يقول سبحانه : وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وفي الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : إنما أنا رحمة مهداة وعنه -صلى الله عليه وسلم- قال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الدين الذي أخرج الله سبحانه به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، فإنما هو رحمة من الله سبحانه مصداقا لقوله جل شأنه : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ وبناء على ذلك فمن زاغ عن قصده أو زل عن منهجه فإنما يخرج نفسه من حظيرة الرحمة ، كما تورط في ذلك الحمقى والجاهلون من المغرورين والمتخبطين الذين آثروا غضب الله وسخطه ، ولم يكونوا من الذين كتب الله لهم رحمته وهم الذين وصفهم بقوله : فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

    فهو سبحانه كتب رحمته لأولئك الذين يتبعون نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- وكانت رحمة الله الأولى به -صلى الله عليه وسلم- أنه يأمر بالخير وينهى عن الشر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عن العباد الإصر والأغلال ، فليس في أحكامه

    أمر لا طاقة به للعباد ولا ما يعجزون عنه ، وصدق سبحانه وله المنة فيما يقول :وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ولقد كان من رحمته جل شأنه أنه تدرج في تشريع التحريم ، كما عرف من شأنه في تحريم الخمر ، فلم يبدأ بالتكليف في أمرها بل أجاب السائلين عنها أول ما شرع فقال : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا حتى انتهى التشريع إلى البت في أمرهما استجابة لطلب عمر وغيره إذ يقول : أفتنا في الخمر ؛ فإنها مفسدة للعقل مضيعة للمال ، فلما قال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله جل شأنه : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ دعي عمر بن الخطاب فتليت عليه ، فقال : انتهينا انتهينا يا رب . وكان من تمام الرحمة في ذلك أن حال الله سبحانه بينهم وبين مفاسدهم ؛ لأنها رجس من عمل الشيطان ، في شربها تحصيل غرضه وفي تركها فلاح للعباد ، فلماذا يهجر الناس هذا الكتاب ، ولماذا لا يتلقون تعاليمه بكل رضا واطمئنان ، فلا يقربوا شيئا مما حرم عليهم ، وهو أرحم الراحمين بهم .

    ومن تتبع وصايا القرآن العظيمة وأوامره الحكيمة في مثل الآيات التي في أواخر سورة الأنعام 151 - 155 والتي تنهى عن الشرك الذي هو فتك وكفر ، وتأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وتنهى عن قتل الأولاد بسبب الفقر وتؤمن على الرزق ، وتنهى عن الفواحش والقتل وقربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، وتأمر بإيفاء الكيل والميزان في حدود الطاقة لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
    ما أبرك وأرحمك ولكن الناس عن هذا منك غافلون فهم في طغيانهم يعمهون ، وفي مثل الآية :
    إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أليس ذلك ما يوقظ النفوس الراقدة ويرد القلوب الجامحة ؟

    وكذلك المحرمات وما يتصل بالتحريم من الترخيص برفع الإثم والحرج في مثل قوله جل شأنه : قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ألست ترى أن الآية الكريمة حصرت المحرم فيما كان أذى أو رجسا أو فسقا لا يتفق مع شكر المنعم ، وبينت أن من اضطر إلى شيء من ذلك فإن ربك غفور رحيم .

    ويذكر سبحانه نفسه الكريمة بوصف الربوبية ثم يصف نفسه بأنه غفور رحيم ، وفي هذا المجال يبيح الفقهاء الخمر ونحوهما بإباحة الله عند الاضطرار كإساغة اللقمة حين لا يجد غيرها ، ويصرح بعضهم بإباحة المخدر إذا كان في حد التداوي مع تعينه لذلك ، فالأصل فيه التحريم ؛ لما فيه من الفساد والله لا يحب الفساد ، أفلا يكون في هذا التشريع العظيم والذكر الحكيم ما يرد إلى نفوس المعرضين شيئا من الحياء الفطري فيرعووا عن الإصرار ويعودوا إلى حظيرة الأبرار ، اللهم أنت الموفق الرحيم .

    ما أكثر صور الرحمة ومظاهرها في تشريع الله سبحانه حتى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض ما يروى عنه : إنكم تتقحمون في النار وأنا آخذ بحجزكم . . .

    فهذا تصوير بالمحسوس يمثل حال الإنسان مع هداية الرحيم الرحمن ، إنه يرمي بنفسه في المهالك ولكن نبي الرحمة هو الذي وصفه الله سبحانه بقوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فكان من إحسان الله ورحمته أن بعث إلينا رسولا هذه صفته ، ونرجو أن نكون على نهجه في الرحمة ، ولعل من هذا أن نتطلف في دعوة الناس بالحسنى ؛ ليثوبوا إلى رشدهم وينقذوا نفوسهم من براثن هذه الخبائث . . وبالله التوفيق .

    وأما تشريع هذا الدين لما فيه مصالح العباد ، وما يدرأ عنه الشر والفساد فإنه يرتبط برحمة الله ، ولا ينفك عنها ، ولكن المجال يقتضي أن نتناوله من الزاوية التي طرقها علماء الأصول وأئمة الفقه حتى تتجلى علاقته بموضوع البحث ، وقد صرحوا بأن أحكام الله سبحانه موضوعة لمصالح العباد ، وكلما كانت المصلحة في أمر مفيد طلب الشارع لذلك الأمر بقدر ما فيه من مصلحة خالصة أو راجحة ، وكلما كان في الفعل مفسدة خالصة أو راجحة تقع على المكلف في بدنه أو عقله أو ماله أو المجتمع الذي يعيش فيه أو غيره ، فهذا الفعل محظور في الشرع بقدر ما فيه من مفسدة ، وإن لم يرد نص من الشارع يطلب الفعل أو يمنعه ، فأما ما فيه نص فما في النص من الأمر بالشيء أو النهي عنه ففيه كفاية ؛ لأن الله سبحانه أعلم بعباده وما هو خير لهم ، ويكون البحث مقصودا لتعرف حكمة الله بعد معرفة حكم الله حتى ينشط المكلف أو يزداد نشاطه لتنفيذ التكليف ، ولهذا بعث الرسل إليهم يدعونهم إلى ما فيه خيرهم ويحولون دون ما فيه شرهم .

    وأما ما لا نص فيه فهو محال اجتهاد المجتهد وهو مثوب بقدر اجتهاده ، ولو أخطأ في تعرف حكم الله مع شروط تقيده بالبحث وتلزمه ببذل الطاقة والجهد سورة البقرة الآية 286 لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وهذا مما يسير بالمكلف إلى الخير في الجملة ويذوده عن الشر ، كذلك مع ما تقتضيه طبيعة العقل إذا تجرد عن الهوى ولم يصرف عن الحق .

    ومن عبارات الأصوليين في هذا المقام ما جاء في كتاب الموافقات للشاطبي ، قال رحمه الله : الموافقات ج 3 ، 4 وهو كتاب حافل بأصول التشريع وأسراره ، وطريق الاستنباط من نصوصه وتوجيهاته . " والمعتمد أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه أحد ؛ فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل : سورة النساء الآية 165 رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
    وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وقال في أصل الخلقة : سورة هود الآية 7 وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا سورة الذاريات الآية 56 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الملك الآية 2 الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

    وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى ، كقوله بعد آية الوضوء : سورة المائدة الآية 6 مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ وقال في الصوم : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
    وفي الصلاة : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وفي القبلة : فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وفي الجهاد : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وفي القصاص : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ وفي التقرير على التوحيد : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ والمقصود التنبيه ، وإذا دل الاستقراء على هذا ، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة . اهـ .

    ولقد قدم لنا علماء الشريعة ما تدور التكاليف في فلكه وأوضح ذلك الإمام الشاطبي في موافقاته المسألة الأولى من النوع الأول في بيان قصد الشارع بالشريعة ج2 من الموافقات . قال رحمه الله : -

    " تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق ، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام ، أحدها أن تكون ضرورية ، والثاني أن تكون حاجية ، والثالث أن تكون تحسينية .

    فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ، والحفظ لها يكون بأمرين : أحدهما : ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود ، والثاني : ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم ، فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك ، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات ، وما أشبه ذلك ، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود ، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة العادات ، والجنايات - ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم ، والعبادات والعادات قد مثلت ، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض ، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع ، والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال ، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ، ويتلافى تلك المصالح كالقصاص والديات للنفس ، والحد للعقل وتضمين قيم الأموال للنسل ، والقطع ، والتضمين للمال وما أشبه ذلك .

    ومجموع الضرويات خمسة ، وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ، وقد قالوا : إنها مراعاة في كل ملة .

    وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق

    المؤدي في الغالب إلى الحرج ، والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ، ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى الحقوق المشقة بالمرض والسفر ، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا ، وملبسا ومسكنا ، ومركبا وما أشبه ذلك ، وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم ، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر ومال العبد ، وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة ، وضرب الدية على العاقلة ، وتضمين الصناع وما أشبه ذلك .

    وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان ففي العبادات كإزالة النجاسة ، وبالجملة الطهارات كلها ، وستر العورة ، وأخذ الزينة ، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك ، وفي العادات كآداب الأكل والشرب ، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات ، والإسراف والإقتار في المتناولات ، وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات ، وفضل الماء والكلأ ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة ، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها ، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما أشبهها ، وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد ، وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها ، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية ، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين" اهـ .

    وإذا كان كذلك : فما موضع تعاطي المخدرات من هذه الخمس

    الضرورية ، وهل يمكن المحافظة عليها مع الوقوع في شيء من هذه المخدرات ؟

    إنك إذا تتبعت هذه الخمس واحدة واحدة وجدت المخدرات مما يقوض أركانها ويزلزل بنيانها على شيء من التفاوت : -

    أ‌- وأقرب هذه الخمسة إلى التأثر بالمخدرات وأحقه بالمحافظة عليه في ظل هجران هذه الخبائث هو العقل ، والعقل هو تلك اللطيفة الربانية التي يبصر بها الإنسان وجوه الصواب وطرق الرشاد ويعبد بها ربه ، والتي ينوه الله سبحانه بها فيجعلها وقاية من الشرور وسلامة من العذاب يوم القيامة إذا سلمت من الهوى ، فيقول في الحديث عن بعض ما يصدر من أهل النار وهم في سعيرها : سورة الملك الآية 10 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ويقول سبحانه : سورة ق الآية 37 إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ

    إن هذا العقل الذي استحق به الإنسان أن يكون خليفة في الأرض ، وسخر الله له جميع الكون لعرضة للتضحية به في شربة كأس أو مضغة حشيش أو أفيون أو غيرها من الخبائث ، فويل لمن خسر عقله ضحية متعة موهومة أو نشوة منقضية مذمومة ؛ لأن ورءاها آفات تفسد الحياة ، وترد الإنسان من شر ما خلق الله .

    ألست ترى ذبول أبدانهم وصفرة ألوانهم ، وتعشيش الفقر في بيوتهم ولفظ المجتمع لهم ، وترحيب السجون بهم ، وهل سميت المخدرات إلا لأنها تغطي العقل ، والعقل إذا تغطى عبث الذئب بصاحبه ، وصار أطوع من الطفل لشيطانه ، فلم يستح من فعل يصدر منه ولم يفكر في كلمة تخرج من فمه ، والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ، أما قلب المتخدر فإنه في إجازة لا يدري متى يعود منها ، وأما لسانه فإنه ينطق بلا عقل يريه كيف ينطق ، ولهذا روي أن نصيبا الشاعر قال



    لبعض الخلفاء - وقد سأله : لم لا تشرب ؟ - فقال له : يا أمير المؤمنين ما رشحني لمجلسي هذا إلا عقلي ، فكيف أجالسك بدونه فأكون من الخاسرين .

    ولا فرق في إصابة العقل والجناية عليه بين المسكر والمخدر ، وما أكثر ضحايا المخدرات في مستشفيات الأمراض العقلية ، فإذا كان حفظ العقل من الضروريات الخمس التي تحرص عليها جميع الأديان السابقة ، فماذا عسى أن يكون حكم الإسلام ، وهو الدين الخاتم الذي وسع كل شيء بنصوصه خاصها وعامها ، هل يرضى للمنتسب إليه أن يكون مجنونا لا يفهم ، أو صائرا إلى الجنون ، حاشا لله وحاشا لدينه الذي رضيه للمسلمين ، وأكمله لهم فأتم نعمته عليهم أن يكون ذلك فيما يرضاه أو يحله لهم .

    ب‌- وكما أن المخدرات تذهب بعقل الإنسان وتخل توازنه ، فهي تفسد عليه دينه ، وهو الذي خلق الله الإنس والجن لأجله ؛ لقوله سبحانه :وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ولهذا جعل الله سبحانه الخمر رجسا من عمل الشيطان ، وبين أن الشيطان - تحقيقا لمهمته - يغري الناس بشرب الخمر ولعب الميسر وأشباههما ؛ ليوقع العداوة بين الإخوة ، ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ، وطبق الفقهاء ذلك على ما لم يكن موجودا وقت نزول الآية كالحشيش والأفيون ، وحكم المحققون منهم بكفر مستحلها كما هو الشأن في الخمر ؛ لأنها رجس تصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر ، وفيها كثير من صفاتها التي اقتضت تحريمها .

    وقد جعل الفقهاء من شرط صحة العمل العقل ، فلا يصح عمله إلا به ، فهو أساس الدين وهذه المخدرات مسلبة للدين ، وجناية عليه ، فهل ترى أن نظر الشريعة إليها نظرة تبيح شيئا منها للإنسان ،

    هيهات ، ولهذا جاء الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : . الخمر أم الخبائث .

    ومن طريف ما يقال أن امرأة عربية تناولت بعض الشراب في مناسبة غير سعيدة ، فلما لعبت برأسها قالت : أيشرب هذا نساؤكم ؟ قالوا : نعم . قالت : زنيت ورب الكعبة . ومعنى هذا أنها سترت بشربه عقلها ، فكشفت عن بزتها ، واسترخت لما يريد الشيطان منها .

    ج - ثم تجيء بعد ذلك المحافظة على المال الذي جعله الله سبحانه قياما للناس ، كما يقول جل شأنه في كتابه الكريم : سورة النساء الآية 5 وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ويمكن أن نشير في مناسبة الآية الكريمة إلى أن من يتعاطون المخدرات من أعرق الناس في السفه ؛ لأنهم ينفقون أموالهم فيما يضر عقولهم وأبدانهم ، ويسرفون في ذلك حتى ينتهي بهم تماديهم وإسرافهم إلى الفقر ، ويصبحون في أمس الحاجة إلى من ينفق عليهم ويتولى أمرهم ، وربما لا يجدون ذلك ، وصدق القائل :

    ديــــة العقــــل بــــدرة فلمـــاذا يا خسيسا قد بعثه بحشيشة

    فمن الآن فليشعر متعاطي هذه المخدرات أو من يفكر في صحبة متعاطيها أنها جناية على المال ، وتعريض به للضياع ؛ لأن قليلها يدعو إلى كثيرها والمضغة الواحدة منها طريق إلى التمادي فيها ، وإن فيها معصية لله سبحانه بإضاعة المال وحرمان مستحقه من الأهل والعيال ، وكيف ترضى شريعة الإسلام ذلك ، لا سيما أنها إضاعة تأخذ معها العقل وتسلب الدين .

    د- وأما حفظ النسب : فإن مرجعه إلى التوقي من الزنا وحفظ الفرج من غير الزوج الشرعي ، وكيف يكون التوقي لمن طار عقله وطاش لبه وضعف دينه وذهب حياؤه ؟ على أنه قد نص العلماء كابن تيمية

    وغيره أن متعاطي الحشيشة ديوث لا يغار على عرضه ولا يبالي أن يعتدي على حريمه وأهله لأنه فقد التقدير وخسر عقله وأعصابه .

    هـ - وأما حفظ النفس : فإن مرجعه إلى المحافظة على البدن من الأمراض والحيلولة بينه وبين التهلكة ، والمخدرات لا تعرف المحافظة على البدن ولا تلتقي معها ، ولهذا كثرت ضحاياها التي استفاض أمرها ، وغصت المستشفيات العقلية بأصحابها ، وما أكثر من يموت من مدمنيها بالسكتة القلبية ، فهو أحوج ما يكون إلى أن يرعى نفسه أو من حوله من آباء وأبناء .

    فهذه المخدرات محادة لله ولرسله ، وللأديان السماوية التي أمرت بحفظ الضروريات التي هي قوام الدين والدنيا ، فهل تجد مجالا في الإسلام لمن عرف السبيل إلى هذه السموم الفتاكة ؟ نسأل الله العافية والسلام .

    إن الأمر فوق أن يقول فيه الفقيه هذا حلال أو حرام ، وإنه لمصدر فظيع من مصادر الجرائم التي يحاربها الدين والقانون والمنطق ، وقد رأينا أن نختم هذه الدراسة الموجزة في رعاية التشريع لمصالح العباد بما ذكره الإمام الفقيه الأصولي عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المتوفى سنة ( 665 ) في كتاب ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) يتجه به إلى أن تشريع الأحكام إنما هو لمصالح البشر ، قال رحمه الله تعالى : -

    " ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد يخرج حكم منها عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته . إلى أن قال : وإنما يجلب سبحانه مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلا . اهـ . هذا هو منطق الفقهاء الذين حملوا أمانة تبليغ الأحكام ووجهوا أوجه الناس إليها ليقدروا

    علم الدين والأحكام قدره ، على أنه لا بد لنا في هذا المجال أن نذكر الأدلة الشرعية التي سماها الأصوليون أدلة الأحكام على تحريم هذه الأشياء بعد ما عرف من مسلك الإسلام العام في خطر هذه الجرائم ومنعها .

    والله ولي التوفيق .


    يتبع
    التعديل الأخير تم بواسطة هادي بن علي ; 07-21-2008 الساعة 09:51 PM
    قال الشيخ العلامة الإمام صالح الفوزان حفظه الله (( فلا يُقاوم البدع إلا العلم والعلماء ، فإذا فقد العلم والعلماء أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر وتنتشر ولأهلها ما يشاءون ))


ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •