رسالة في الدماء الطبيعية للنساء
الشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين - يرحمه الله






















مقدمة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً .
أما بعد فإن الدماء التي تصيب المرأة وهي الحيض والاستحاضة والنفاس من الأمور الهامة التي تدعو الحاجة إلى بيانها ومعرفة أحكامها وتمييز الخطأ من الصواب من أقوال أهل العلم فيها وأن يكون الاعتماد فيما يرجح من ذلك أو يضعف على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة
1. لأنهما المصدران الأساسيان اللذان تبنى عليهما أحكام الله تعالى التي تعبّدَ بها عباده وكلفهم بها.
2. ولأن في الاعتماد على الكتاب والسنة طمأنينة القلب وانشراح الصدر وطيب النفس وبراءة الذمة.
3. ولأن ما عداهما فإنما يحتج له ولا يحتج به.
إذ لا حجة إلا في كلام لله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك كلام أهل العلم من الصحابة على القول الراجح بشرط أن لا يكون في الكتاب والسنة ما يخالفه وأن لا يعارضه قول صحابي آخر فإن كان في الكتاب والسنة ما يخالفه وجب الأخذ بما في الكتاب والسنة وإن عارضه قول صحابي آخر طلب الترجيح بين القولين وأخذ بالراجح منها لقوله تعالى: (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)). النساء آية 95

وهذه رسالة موجزة فيما تدعو الحاجة إليه من بيان هذه الدماء وأحكامها وتشتمل على الفصول الآتية:-
الفصل الأول في معنى الحيض وحكمته.
الفصل الثاني في زمن الحيض ومدته.
الفصل الثالث قي الطوارئ على الحيض.
الفصل الخامس في الاستحاضة وأحكامها.
الفصل السادس في النفاس وأحكامه.
الفصل السابع في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه وما يمنع الحمل أو يسقطه.
الفصل الأول

في معنى الحيض وحكمته

الحيض لغة: سَيَلان الشيء وجريانه وفي الشرع: دم يحدث للأنثى بمقتضى الطبيعة بدون سبب في أوقات معلومة. فهو دم طبيعي ليس له من مرض أو جرح أو سقوط أو ولادة. وبما أنه دم طبيعي فإنه يختلف بحسب حال الأنثى وبيئتها وجوّها. ولذلك تختلف فيه النساء اختلافاً متبايناً ظاهراً .

والحكمة فيه أنه لما كان الجنين في بطن أمه لا يمكن أن يتغذى به من كان خارج البطن ولا يمكن لأرحم الخلق به أن يوصل إليه شيئاً من الغذاء حينئذ جعل الله تعالى في الأنثى افرزات دموية يتغذى بها الجنين في بطن أمه بدون الحاجة إلى أكل وهضم تنفذ إلى جسمه من طريق السرة حيث يتخلل الدم عروقه فيتغذى به فتبارك الله أحسن الخالقين. فهذه هي الحكمة في هذا الحيض ولذلك إذا حملت المرأة انقطع الحيض عنها فلا تحيض إلا نادراً. وكذلك المراضع يقل من تحيض منهن لا سيما في أول زمن الرضاع.













الفصل الثاني

في زمن الحيض ومدته

الكلام في هذا الفصل في مقامين:
المقام الأول في السن الذي يأتي فيه الحيض.
المقام الثاني في مدة الحيض.

1- فأما المقام الأول: فالسن الذي يغلب فيه الحيض هو ما بين اثني عشرة سنة إلى خمسين سنة وربما حاضت الأنثى قبل ذلك أو بعده بحسب حالها وبيئتها وجوها. وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل للسن الذي يتأتى فيه الحيض حد معين بحيث لا تحيض الأنثى لا قبله ولا بعده وأن ما يأتيها قبله أو بعده هو دم فساد لا حيض اختلف العلماء في ذلك. قال الدارمي بعد أن ذكر الاختلافات كل هذا عندي خطأ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود فأي قدر وجد في أي حال وسن وجب جعله حيضاً والله أعلم. وهذا الذي قاله الدارمي هو الصواب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فمتى رأت الأنثى الحيض في حائض وإن كانت دون تسع سنين أو فوق خمسين سنة وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله ورسوله على وجوده ولم يحدد الله ورسوله لذلك سنا معيناً فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علقت الأحكام عليه وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة ولا دليل في ذلك.

2- وأما المقام الثاني: وهو مدة الحيض أي مقدار زمنه فقد اختلف فيه العلماء اختلافاً كبيراً على نحو ستة أقوال أو سبعة. قال ابن المنذر وقال طائفة ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام قلت وهذا القول كقول الدارمي السابق وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصواب لأنه يدل عليه الكتاب والسنةوالاعتبار.

فالدليل الأول قوله تعالى ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة آية 222 فجعل الله غاية المنع هي الطهر ولم يجعل الغاية مضي يوم وليلة ولا ثلاثة أيام ولا خمسة عشر يوماً فدل هذا على أن علة الحكم هي الحيض وجوداً وعدماً فمتى وجد الحيض ثبت الحكم ومتى طهرت منه زالت أحكامه.

الدليل الثاني ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد حاضت وهي محرمة بالعمرة: ((افعلى ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري قالت: فلما كان يوم النحر طهرت)). (الحديث). وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها انتطري فإذا طهرتِ فاخرجي إلى التنعيم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية المنع الطهر ولم يجعل الغاية زمنا معيناً فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجوداً وعدماً.

الدليل الثالث أن هذه التقديرات والتفصيلات التي ذكرها من ذكرها من الفقهاء في هذه المسألة ليست موجودة في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الحاجة بل الضرورة داعية إلى بيانها فلو كانت مما يجب على العباد فهمه والتعبد لله به لبينهما الله ورسوله بياناً ظاهراً لكل أحد لأهمية الأحكام المترتبة على ذلك من الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والإرث وغيرها من الأحكام كما بين الله ورسوله عدد الصلوات وأوقاتها وركوعها وسجودها والزكاة أموالها وأنصباءها ومقدارها مصرفها والصيام مدته وزمنه والحج وما دون ذلك حتى آداب الأكل والشرب والنوم والجماع والجلوس ودخول البيت والخروج منه وآداب قضاء الحاجة حتى عدد مسحات الاستجمار إلى غير ذلك من دقيق الأمور وجليلها مما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين كما قال تعالى: (( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)). النحل آية 89 وقال تعالى: (( ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء)). يوسف أية 111.
فلما لم توجد هذه التقديرات والتفصيلات في كتاب الله و لا في سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم تبين أن لا تعويل عليها وإنما التعويل على مسمى الحيض الذي عُلّقت عليه الأحكام الشرعية وجوداً وعدماً وهذا الدليل أعني أن عدم ذكر الحكم في الكتاب والسنة دليل على عدم اعتباره ينفعك في هذه المسألة وغيرها من مسائل العلم لأن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل من الشرع من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع معلوم أو قياس صحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له: ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة ولم يقدر لا أقله ولا أكثره ولا الطّهر بين الحيضَتَين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه واللغة لا تفرق بين قدر وقدر في ذلك فمن قدر في ذلك فقد خالف الكتاب والسنة. انتهى كلامه

الدليل الرابع الاعتبار. أي القياس الصحيح المطرد وذلك أن الله تعالى علل الحيض بكونه أذى فمتى وجد الحيض فالأذى موجود لا فرق بين اليوم الثاني واليوم الأول ولا بين الرابع والثالث ولا فرق بين اليوم السادس عشر والخامس عشر و لابين الثامن عشر والسابع عشر فالحيض هو الحيض والأذى هو الأذى فالعلة موجودة في اليومين على حد سواء فكيف يصح التفريق في الحكم بين اليومين مع تساويهما في العلة؟ أليس هذا خلاف القياس الصحيح؟ أوليس القياس الصحيح تساوي اليومين في الحكم لتساويهما في العلة؟.

الدليل الخامس اختلاف أقوال المحددين واضطرابها فإن ذلك يدل على أنه ليس في المسألة دليل يجبُ المصير إليه وإنما هي أحكام اجتهادية معرضة للخطأ والصواب ليس أحدهما أولى بالاتباع من الآخر والمرجع قوة القول أنه لا حد لأقل الحيض ولا أكثره وأنه القول الراجح فاعلم أن كل ما رأته المرأة من دم طبيعي من غير تقدير بزمن أو سن إلا أن يكون مستمراً على المرأة لا ينقطع أبداً أو ينقطع مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر فيكون استحاضة وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الاستحاضة وأحكامها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض حتى يقوم دليل على أنه استحاضة. وقال أيضاً فما وقع من دم فهو حيض إذا لم يعلم أنه دم عرق أو جرح . اهـ
وهذا القول كما أنه هو الراجح من حيث الدليل فهو أيضاً أقرب فهما وإدراكاً وأيسر عملاً وتطبيقاً مما ذكره المحددون وما كان كذلك فهو أولى بالقبول لموافقته لروح الدين الإسلامي وقاعدته وهي اليسر والسهولة قال الله تعالى (( وما جعل عليكم في الدين من حرج )). وقال صلى الله عليه وسلم: (( إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا)). رواه البخاري. وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.

حيض الحامل
الغالب الكثير أن الأنثى إذا حملت انقطع الدم عنها قال الإمام أحمد رحمه الله إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم. فإذا رأت الحامل الدم فإن كان قبل الوضع بزمن يسير كاليومين أو الثلاثة ومعه طلق فهو نفاس وإن كان قبل الطلق بزمن كثير أو قبل الوضع بزمن يسير لكن ليس معه طلق فليس بنفاس لكن هل يكون حيضاً تثبت له أحكام الحيض أو يكون دم فساد لا يحكم له بأحكام الحيض؟
في هذا خلاف بين أهل العلم.
والصواب أنه حيض إذا كان على الوجه المعتاد في حيضتها لأن الأصل فيما يصيب المرأة من الدم أنه حيض إذا لم يكن له سبب يمنع من كونه حيضاً وليس في الكتاب والسنة ما يمنع حيض الحامل.

وهذا هو مذهب مالك والشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قال في "الاختيارات" ص 30 وحكاه البيهقي رواية عن أحمد بل حكى أنه رجع إليه اهـ. وعلى هذا فيثبت لحيض الحامل ما يثبت لحيض غير الحامل إلا في مسألتين:
الأولى : الطلاق فيحرم طلاق من تلزمهما عدمة حال الحيض في غير الحامل ولا يحرم في الحامل لأن الطلاق في الحيض في غير الحامل مخالف لقوله تعالى: (( فطلقوهن لعدتهن)) الطلاق آية 1 أما طلاق الحامل حال الحيض فلا يخالفه لأن من طلق الحامل فقد طلقها لعدتها سواء كانت حائضاً أم طاهراً لأن عدتها بالحمل ولذلك لا يحرم عليه طلاقها بعد الجماع بخلاف غيرها. المسألة الثانية: أن حيض الحامل لا تنقضي به عدة بخلاف حيض غيرها لأن عدة الحامل لا تنقضي إلا بوضع الحمل سواء كانت تحيض أم لا لقوله تعالى: (( وأولات الأحمال أجلهن حتى يضعن حملهن)). الطلاق آية 4














الفصل الثالث

في الطوارئ على الحيض

الطوارئ على الحيض أنواع:-
الأول: زيادة أو نقص مثل أن تكون عادة المرأة ستة أيام فيستمر بها الدم إلى سبعة أو تكون عادتها سبعة أيام فتطهر لستة.

الثاني: تقدم أو تأخر مثل أن تكون عادتها في آخر الشهر فترى الحيض في أوله أو تكون عادتها في أول الشهر فتراه في آخره. وقد اختلف أهل العلم في حكم هذين النوعين والصواب أنها متى رأت الدم في حائض ومتى طهرت منه فهي طاهر سواء زادت عن عادتها أم نقصت وسواء تقدمت أم تأخرت وسبق ذكر الدليل على ذلك في الفصل قبله حيث علق الشارع أحكام الحيض بوجوده. وهذا مذهب الشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقواه صاحب المغني فيه ونصره وقال "ولو كانت العادة معتبرة على الوجه المذكور في المذهب لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ولما وسعه تأخير بيانه إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقته وأزواجه وغيرهن من النساء يحتجن إلى بيان ذلك في كل وقت فلم يكن ليغفل بيانه وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ذكر العادة ولا بيانها إلا في حق المستحاضة لا غير. اهـ

النوع الثالث: صفرة أو كدرة بحيث ترى الدم أصفر كماء الجروح أو متكدراً بين الصفرة والسواد فهذا إن كان في أثناء الحيض أو متصلاً به قبل الطهر فهو حيض نثبت له أحكام الحيض ، وإن كان بعد الطهر فليس بحيض لقول أم عطية رضي الله عنها كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً. رواه أبو داود بسند صحيح ورواه أيضاً البخاري بدون الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض قال في شرحه فتح الباري يشير بذلك إلى الجمع بين حديث عائشة المتقدم في قولها "حتى ترين القصة البيضاء" وبين حديث أم عطية المذكور في الباب بأن ذلك أي حديث عائشة محمول على ما إذا رأت الصفرة والكدرة في أيام الحيض وأما في غيرها فعلى ما قالت أم عطية. اهـ. وحديث عائشة الذي أشار إليه هو ما علقه البخاري جازماً به قبل هذا الباب إن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة (شيء تحتشي به المرأة لتعرف هل بقي من أثر الحيض شيء) فيها الكرسف (القطن) فيه الصفرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء والقصة البيضاء ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض.

النوع الرابع: تقطع في الحيض بحيث ترى يوماً دماً ويوماً نقاء نحو ذلك فهذان حالان:-
الحال الأول: أن يكون هذا مع الأنثى دائماً كل وقتها فهذا دم استحاضة يثبت لمن تراه حكم المستحاضة.
الحال الثاني: أن لا يكون مستمراً مع الأنثى بل يأتيها بعض الوقت ويكون لها وقت طهر صحيح فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا النقاء هل يكون طهر أو ينسحب عليه أحكام الحيض؟ فمذهب الشافعي في أصح قوليه أنه ينسحب عليه أحكام الحيض فيكون حيضاً وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب الفائق ومذهب أبي حنيفة وذلك لأن القصة البيضاء لا ترى فيه ولأنه لو جعل طهراً لكان ما قبله حيضه وما بعده حيضه ولا قائل به وإلا لانقضت العدة بالقرء بخمسة أيام ولأنه لو جعل طهراً لحصل له حرج ومشقة بالاغتسال وغيره كل يومين والحرج منتف في هذه الشريعة ولله الحمد.
والمشهور من مذهب الحنابلة أن الدم حيض والنقاء طهر إلا أن يتجاوز مجموعهما أكثر الحيض فيكون الدم المتجاوز استحاضة وقال في المغني "يتوجه أن انقطاع الدم متى نقص عن اليوم فليس بطهر بناء على الرواية التي حكيناها في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم وهو الصحيح إن شاء الله لأ الدم يجري مرة وينقطع أخرى وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج ينتفي لقوله تعالى: (( وما جعل عليكم في الدين من حرج)) الحج آية 78 قال فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهراً إلا أن ترى ما يدل عليه مثل أن يكون انقطاعه في آخر عادتها أو ترى القصة البيضاء اهـ.
فيكون قول صاحب المغني هذا وسطاً بين القولين والله أعلم بالصواب.
النوع الخامس: جفاف في الدم بحيث ترى الأنثى مجرد رطوبة فهذا إن كان في أثناء الحيض أو متصلاً به قبل الطهر فهذا حيض، وإن كان بعد الطهر فليس بحيض لأن غاية حالة أن يلحق بالصفرة والكدرة وهذا حكمها.





الفصل الرابع

في أحكام الحيض

للحيض أحكام كثيرة تزيد عن العشرين نذكر منها ما نراه كثير الحاجة فمن ذلك:
الأول: الصلاة. فيحرم على الحائض الصلاة فرضها ونفلها ولا تصح منها وكذلك لا تجب عليها الصلاة إلا أن تدرك من وقتها مقدار ركعة كاملة فتجب عليها الصلاة حينئذ سواء أدركت ذلك من أوله: امرأة حاضت بعد غروب الشمس بمقدار ركعة فيجب عليها إذا طهرت قضاء صلاة المغرب لأنها أدركت من وقتها قدر ركعة قبل أن تحيض. ومثال ذلك من آخره: امرأة طهرت من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة فيجب عليها إذا تطهرت قضاء صلاة الفجر لأنها أدركت من وقتها جزءاً يتسع لركعة أم إذا أدركت الحائض من الوقت جزءاً لا يتسع لركعة كاملة مثل أن تحيض في المثال الأول بعد الغروب بلحظة أو تطهر في المثال الثاني قبل طلوع الشمس بلحظة فإن الصلاة لا تجب عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" متفق عليه. فإن مفهومه أن من أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركاً للصلاة.
وإذا أدركت ركعة من وقت صلاة العصر فهل تجب عليها صلاة الظهر مع العصر أو ركعة من وقت صلاة العشاء الآخرة فهل تجب عليها صلاة المغرب مع العشاء؟. في هذا خلاف بين العلماء والصواب أنها لا يجب عليها إلا ما أدركت وقته وهي العصر والعشاء الآخرة فقط لقوله صلى الله عليه وسلم "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" متفق عليه . لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم فقد أدرك الظهر والعصر ولم يذكر وجوب الظهر عليه والأصل براءة الذمة وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك حكاه عنهما في شرح المهذب.
وأما الذكر والتكبير والتسبيح والتحميد والتسمية على الأكل وغيره وقراءة الحديث والفقه والدعاء والتأمين عليه واستماع القرآن فلا يحرم عليها شيء من ذلك فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حجر عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض يعني إلى صلاة العيدين وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ويعتزل الحيَّض المصلّى)). فأما قراءة الحائض القرآن بنفسها فإن كان نظراً بالعين أو تأملاً بالقلب بدون نطق باللسان فلا بأس بذلك مثل أن يوضع المصحف أو اللوح فتنظر إلى الآيات وتقرأها بقلبها. قال النووي في شرح المهذب " جائز بلا خلاف". وأما إن كانت قراءتها نطقاً باللسان فجمهور العلماء على أنه ممنوع وغير جائز وقال البخاري وابن جرير الطبري وابن المنذر هو جائز وحكي عن مالك وعن الشافعي في القول القديم حكاه عنهما في فتح الباري. وذكر البخاري تعليقاً عن إبراهيم النخعي لا بأس أن تقرأ الآية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى مجموعة ابن قاسم " ليس في منعها من القرآن سنة أصلاً فإن قوله لا تقرأ الحائض و لا الجنب شيئاً من القرآن حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث وقد كان النساء يحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة لكان هذا مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وتعلمه أمهات المؤمنين وكان ذلك مما يقولونه في الناس فلما لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نهياً لم يجز أن تجعل حراماً مع العلم أنه لم ينه عن ذلك وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه علم أنه ليس بمحرم" اهـ.
والذي ينبغي بعد أن عرفنا نزاع أهل العلم أن يقال الأولى للحائض أن لا تقرأ القرآن نطقاً باللسان إلا عند الحاجة لذلك مثل أن تكون معلمة فتحتاج إلى تلقين المتعلمات أو في حال الاختبار فتحتاج المتعلمة إلى القراءة لاختبارها أو نحو ذلك.
الحكم الثاني: الصيام فيحرم على الحائض الصيام فرضه ونفله ولا يصح منها لكن يجب عليها قضاء الفرض منه لحديث عائشة رضي الله عنها "كان يصيبنا ذلك تعني الحيض فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" متفق عليه. وإذا حاضت وهي صائمة بطل صيامها ولو كان ذلك قبيل الغروب بلحظة ووجب عليها قضاء ذلك اليوم إن كان فرضاً أم إذا أحست بانتقال الحيض قبل الغروب لكن لم يخرج إلا بعد الغروب فإن صومها تام ولا يبطل على القول الصحيح لأن الدم في باطن الجوف لا حكم له ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل قال نعم إذا هي رأت الماء فعلق الحكم برؤية المن لا بانتقاله فكذلك الحيض لا تثبت أحكامه إلا برؤيته خارجاً لا بانتقاله.
وإذا طلع الفجر وهي حائض لم يصح منها صيام ذلك اليوم ولو طهرت بعد الفجر بلحظة.
وإذا طهرت قبيل الفجر فصامت صح صومها، وإن لم تغتسل إلا بعد الفجر، كالجنب إذا نوى الصيام وهو جنب ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فإن صومه صحيح ، لحديث عائشة رضي الله عنهاقالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان)) متفق عليه.



الثالث:الطواف بالبيت:
فيحرم عليها الطواف بالبيت ، فرضه ونفله، ولا يصح منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري))

وأما بقية الأفعال كالسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ومنى ، ورمي الجمار وغيرها من مناسك الحج والعمرة فليست حرام عليها، وعلى هذا فلو طافت الأنثى وهي طاهر ثم خرج الحيض بعد الطواف مباشرة، أو في أثناء السعي فلا حرج في ذلك.

الرابع: سقوط طواف الوداع منها:
فإذا أكملت الأنثى مناسك الحج والعمرة ثم حاضت قبل الخروج إلى بلدها واستمر بها الحيض إلى خروجها ، فإنها تخرج بلا وداع، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)).

ولا يستحب عند الوداع أن تأتي إلى باب المسجد الحرام وتدعو، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم والعبادات مبنية على الوارد بل الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتذي خلاف ذلك، ففي قصة صفية رضي الله عنها حين حاضت بعد طواف الإفاضة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (( فلتَنفُر إذن)). متفق عليه. ولم يأمر بالحضور إلى باب المسجد ولو كان ذلك مشروعاً لبيّنه.
وأم طواف الحج والعمرة فلا يسقط عنها بل تطوف إذا طهرت.

الخامس: المكث في المسجد:

فيحرم على الحائض أن تمكث في المسجد حتى مصلى العيد يحرم عليها أن تمكث فيه، لحديث أم عطية رضي الله عنها: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( يَخرجُ العواتقُ وذواتُ الخدورِ والحيّض)). وفيه ((يعتزل الحيض المصلى)). متفق عليه.


السادس:الجماع:
فيحرم على زوجها أن يجامعها ، ويحرم عليها تمكينه من ذلك.

لقوله تعالى: (( ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)). البقرة 222.
والمراد بالمحيض زمان الحيض ومكانه وهو الفرج. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( اصنعوا كل شيء إلا النكاح)). يعني الجماع. رواه مسلم؛ ولأن المسلمين أجمعوا على تحريم وطء الحائض في فرجها.

فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم على هذا الأمر المنكر الذي دل على المنع منه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فيكون ممن شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين، قال في المجموع شرح المذهب ص 374 ج2 قال الشافعي: (( من فعل ذلك فقد أتى كبيرة)). قال أصحابنا وغيرهم : (( من استحل وطأ الحائض حكم بكفره)). اهـ. كلام النووي.
وقد أبيح له ولله الحمد ما يكسر به شهوته دون الجماع ، كالتقبيل والضم والمباشرة فيما دون الفرج لكن الأولى ألا يباشر فيما بين السرة والركبة إلا من وراء حائل لقول عائشة رضي الله عنها : (( مان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتز فيباشرني وأن حائض)). متفق عليه.

السابع: الطلاق:
يحرم على الزوج طلاق الحائض حال حيضهالقوله تعالى: (( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فلطلقوهن لعتدهن)). الطلاق آية 1. أي في حال يستقبلن به عدة معلومة حين الطلاق ولا يكون ذلك إلا إذا طلقها حاملاً أو طاهراً من غير جماع لأنها إذا طلقت حال الحيض لم تستقبل العدة حيث إن الحيضة التي طلقت فيها لا تحتسب من العدة، وإذا طلقت طاهراً بعد الجماع لم تكن العدة التي تستقبلها معلومة حيث إنه لا يعلم هل حملت من هذا الجماع، فتعتد بالحمل، أو لم تحمل فتعتد بالحيض، فلما لم يحصل اليقين من نوع العدة حرّم عليه الطلاق حتى يتبين الأمر.
فطلاق الحائض حال حيضه حرام للآية السابقة ، ولما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أنه طلّق امرأته وهي حائض فأخبر عمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتغيّظ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (( مُرْهُ فليُراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ث تحيض، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)). فلو طلق الرجل امرأته وهي حائض فهو آثم وعليه أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يرد المراة إلى عصمته ليطلقها طلاقاً شرعياً موافقاً لأمر الله ورسوله ، فيتركها بعد ردها حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ، ثم تحيض مرة أخرى ، ثم إذا طهرت فإن شاء أبقاها وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها.

ويستثني من تحريم الطلاق في الحيض ثلاث مسائل:
الأولى: إذا كان الطلاق قبل أن يخلو بها ، أو يمسها فلا بأس أن يطلقها وهي حائض ، لأنه لا عدة عليها حينئذ، فلا يكون طلاقها مخالفاً لقوله تعالى: ((فطلَِقُوهن لعدتهن)).
الثانية: إذا كان الحيض في حال الحمل ، وسبق بيان سبب ذلك.
الثالثة : إذا كان الطلاق على عوض ، فإنه لا باس أن يطلقها وهي حائض.

مثال أن يكون بين الزوجين نزاع وسوء عشرة فيأخذ الزوج عوضاً ليطلقها، فيجوز ولو كانت حائضاً. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس بن شامس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أتردين عليه حديقته)). قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)). رواه البخاري. ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت حائضاً أو طاهراً ، ولأن هذا الطلاق افتداءئ من المرأة عن نفسها فجاز عند الحاجة إليه على أي حال كان.
قال في ((المغني)). معللاً جواز الخلع حال الحيض ص52 ج7ط م: (( لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بطول العدة ، والخلعَ لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقال مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة فجاز دفع أعلاهما بأدناهما ، ولذلك لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم المختلعة عن حالها)). ا. هـ. كلامه.
وأما عقد النكاح على المرأة وهي حائض فلا بأس به لأن الأصل الحل ، ولا دليل على المنع منه، لكن إدخال الزوج عليه وهي حائض ينظر فيه فإن كان ايؤمن من أن يطأها فلا بأس، وإلا فلا يدخل عليها حتى تطهر خوفاً من الوقوع في الممنوع.

الثامن: اعتبار عدة الطلاق به – أي الحيض.
فإذا طلق الرجل زوجته بعد أن مسها أو خلا بها وجب عليها أن تعتد بثلاث حيض كاملة ، إن كانت من ذوات الحيض ، ولم تكن حاملاً لقوله تعالى: (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)). البقرة آية 228 . أين ثلاث حيض. فإن كانت حاملاً فدتها إلى وضع الحمل كله، سواء طالت المدة أو قصرت لقوله تعالى: (( وأولاتُ الأحمال أجلهم أن يضعن حملهن)). الطلاق آية 4. وإن كانت من غير ذوات الحيض كالصغيرة التي لم يبدأ بها الحيض والآيسة من الحيض لكبر أو عملية استأصلت رحمها أو غير ذلك مما لا ترجو معه رجوع الحيض، فعتدها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: (( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن)) الطلاق آية 4. وإن كانت من ذوات الحيض لسبب معلوم كالمرض والرضاع فإنها تبقى في العدة وإن طالت المدة حتى يعود الحيض فتعتد به ، فإن زال السبب ولم يعد الحيض بأن برئت من المرض أو انتهت من الرضاع وبقي الحيض مترفعاً فإنها تعتد بسنة كاملة من زوال الحيض صارت كمن ارتفع حيضها لغير سبب معلوم، وإذا ارتفع حيضها لغير سبب معلوم ، فإنها تعتد بسنة كاملة تسعة أشهر للحمل احتياطاً لأنها غالب الحمل ، وثلاثة أشهر للعدة.
• أم إذا كان الطلاق بعد العقد وقبل المسيس والخلوة ، فليس فيه عدة إطلاقاً ، لا بحيض ولا غيره لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها)). الطلاق آية 4

التاسع: الحكم ببراءة الرحم
أي بخلوّه من الحمل ، وهذا يحتاج إليه كلما احتيج إلى الحكم ببراءة الرحم وله مسائل:
منها: إذا مات شخص عن امراة يرثه حملُها ، وهي ذات زوج لا يطؤها حتى تحيض ، أو تبين حملها ، فإن تبين حملها ، حكمنا بإرثه لحكمنا بوجوده حين موت موروثه ، وإن حاضت حكمنا بعدم إرثه لحكمن ببراءة الرحم بالحيض.

العاشر: وجوب الغسل
فيجب على الحائض إذا طهرت أن تغتسل بتطهير جميع البدن ، لقول النبي صلى الله عيه لفاطمة بنت أبي حبيش: (( فغذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)). رواه البخاري.
• وأقل واجب في الغسل أن تعم به جميع بدنها حتى ما تحت الشعر، والأفضل أن يكون على صفة ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث سألته أسماء بنت شكل عن غسل المحيض فقال صلى الله عليه وسلم : (( تأخذ إحداهن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً ، حتى تبلغ شؤون رأسها ، ثم تصب عليها المساء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة أي : قطعة قماش فيها مسك فتطهر بها)). فقال أسماء كيف تطهر بها؟ فقال : (( سبحان الله )) فقالت عائشة لها تتبعي أثر الدم. رواه مسلم. (1)
• ولا يجب نقض شعر الرأس ، إلا أن يكون مشدوداً بقوة بحيث يخشى أن لا يصل الماء إلى أصوله ، لما في ((صحيح مسلم))ز من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة وفي رواية للحيضة والجنابة ؟ فقال : (( لا إنما يكفيها أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهُرين)).

وإذا طهرت الحائض في أثناء وقت الصلاة وجب عليها أن تبادر بالاغتسال لتدرك أداء الصلاة في وقتها ، فإن كانت في سفر وليس عندها ماء ولكن تخاف الضرر باستعماله ، أو كانت مريضة يضرها الماء فإنها تتيمم بدلاً عن الاغتسال حتى يزول المانع ثم تغتسل.

وإن بعض النساء تطهر في أثناء وقت الصلاة وتؤخر الاغتسال إلى وقت آخرتقول: إنه لا يمكنها كمال التطهر في هذا الوقت ، ولكن هذا ليس بحجة ولا عذر ، لأنها يمكنها أن تقتصر على أقل الواجب في الغسل ن وتؤدي الصلاة في وقتها ، ثم إذا حصل لها وقت سعة تطهرت التطهر الكامل.



الفصل الخامس

في الاستحاضة وأحكامها

الاستحاضة : استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً أو ينقطع عنها مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر.

فدليل الحالة الأولى التي لا ينقطع الدم فيها أبداً ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضى الله عنها قالت: ((قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم يارسول الله إني لا أطْهُر. وفي رواية : ((أستحاض ولا أطهر)).

ودليل الحالة الثانية التي لا ينقطع الدم فيها إلا يسيراً حديث حمنة بنت جحش حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (( يا رسول الله إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة)). الحديث. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ونقل عن الإمام أحمد تصحيحه وعن البخاري تحسينه.

أحوال المستحاضة

للمستحاضة ثلاث حالات
الحالة الأولى: أن يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة فهذه ترجع إلى مدة حيضها المعلوم السابق فتجلس فيها ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة ، يثبت لها أحكام المستحاضة .

مثال ذلك امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة فصار الدم يأتيها باستمرار، فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر، وما عداها استحاضة لحديث عائشة رضى الله عنها : (( أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: (( يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: ((لا. إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي)). رواه البخاري ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة بنت جحش: ((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي)). فعلى هذا تجلس المستحاضة التي لها حيض معلوم قدر حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تبالي بالدم حينئذ.

الحالة الثانية: أن لا يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة مستمرة بها من أول ما رأت الدم من أول أمرها ، فهذه تعمل بالتمييز فيكون حيضها ما تميز بسواد أو غلظة أو رائحة يثبت له أحكام الحيض ، وما عداه استحاضة يثبت له أحكام الاستحاضة.

مثال ذلك امرأة رأت الدم في أول ما رأته ، واستمر عليها لكن تراه عشرة أيام أسود وباقي الشهر أحمر. أو تراه عشرة أيام غليظاً وباقي الشهر رقيقاً، أو تراه عشرة أيام له رائحة الحيض وباقي الشهر لا رائحة له فحيضها هو الأسود في المثال الأول والغليظ في المثال الثاني ، وذو رائحة في المثال الثالث ، وما عدا ذلك فهو استحاضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا كان دمُ الحيضةِ فإنه أسود يُعرَف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلى فإنما هو عرق)). رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم. وهذا الحديث وإن كان في سنده ومتنه نظر فقد عمل به أهل العلم رحمهم الله، وهو أولى من ردها إلى عادة غالب النساء.

الحالة الثالثة: ألا يكون لها حيض معلوم ولا تمييز صالح بأن تكون الاستحاضة مستمرة من أول ما رأت الدم ودمها على صفة واحدة أو على صفات مضطربة لا يمكن أن تكون حيضاً ، فهذه تعمل بعادة غالب النساء فيكون حيضها ستة أيام أو سبعة أيام من كل شهر يبتدئ من أول المدة التي رأت فيها الدم ، وما عداه استحاضة.
مثال ذلك أن ترى الدم أو ما تراه في الخامس من الشهر ويستمر عليها من غير أن يكون فيه تمييز صالح للحيض لا بلون ولا غيره فيكون حيضها من كل شهر. لحديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام، فقال: ((أنعت لك (أصف لك استعمال) الكرسف (وهو القطن) تضعينه على الفرج، فإنه يذهب الدم)). قالت: هو أكثر من ذلك. وفيه قال: (( إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضى ستة أيام أو سبعة في علم الله تعالى، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهُرتِ واستيقنت فصلي أربعاً وعشرين أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي)). الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ، ونقل عن أحمد أنه صححه ، وعن البخاري أنه حسنه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (( ستة أيام أو سبعة)) ليس للتخيير وإنما هو للاجتهاذ فتنظر فيما هو أقرب إلى حالها ممن يشابهها خلقة ويقاربها سنة ورُحماً وفيما هو أقرب إلى الحيض من دمها ، ونحو ذلك من الاعبارات فإن كان الأقرب أن يكون ستة جعلته ستة وإن كان الأقرب أن يكون سبعة جعلته سبعة.

حال من تشبه المستحاضة:
قد يحدث للمرأة سبب يوجب نزيف الدم من فرجها كعملية في الرحم أو فيما دونه وهذه على نوعين:
الأول: أن يعلم أنها لا يمكن أن تحيض بعد العملية مثل أن تكون العملية استئصال الرحم بالكلّية أو سدّه بحيث لا ينزل منه دم ، فهذه المرأة لا يثبت لها حكم الاستحاضة، وإنما حكمها من ترى صفرة أو كدرة أو رطوبة بعد الطهر فلا تترك الصلاة ولا الصيام ولا يمتنع جماعها ولا يجب غسل من هذا الدم، وأن تعصِّب على الفرج خرقة ، ونحوها ، لتمنع خروج الدم ، ثم تتوضأ للصلاة ولا تتوضأ لها إلا بعد دخول وقتها إن كان لها وقت كالصلوات الخمس، وإلا فعند إرادة الصلوات كالنوافل المطلقة.

الثاني: ألا يعلم امتناع حيضها بعد العملية بل يمكن أن تحيض، فهذه حكمها حكم المستحاضة. ويدل لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة)). فإنه قوله: ((فإذا أقبلت الحيضة)) يفيد أن حكم المستحاضة فيمن لها حيض ممكن ذو إقبال وإدبار، أما من ليس لها حيض ممكن فدمها دم عرق بكل حال.

أحكام الاستحاضة
عرفنا مما سبق متى يكون الدم حيضاً ومتى يكون استحاضة، فمتى كان حيضاً ثبتت له أحكام الحيض، ومتى كان استحاضة ثبتت له أحكام الاستحاضة. وقد سبق ذكر المهم من أحكام الحيض.

وأما أحكام الاستحاضة ، فكأحكام الطهر ، فلا فرق بين المستحاضة وبين الطاهرات إلا فيما يأتي:
الأول: وجوب الوضوء عليها لكل صلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: ((ثم توضئي لكل صلاة)). رواه البخاري في باب غسل الدم. معنى ذلك أنها لا تتوضأ للصلاة الموقتة إلا بعد دخول وقتها، أما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة فإنها تتوضأ لها عند إرادة فعلها.

الثاني: أنها إذا أرادت الوضوء فإنها تغسلُ أثر الدم، وتعصب على الفرج خرقة على قطن ليستمسك الدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنعت لك الكرسف فإنه يُذهبُ الدم))، قالت فإنه أثر من ذلك، قال: ((فاتخذي ثوباً)). قالت : هو أكثر من ذلك. قال : ((فتلجمي)). الحديث، ولا يضرها ما خرج بعد ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: ((اجتنبي الصلاة أيام تحيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي ، وإن قطر الدم على الحصير)). رواه أحمد وابن ماجه.

الثالث: الجماع، فقد احتلف العلماء بجوازه إذا لم يخف العنت بتركه، والصواب جوازه مطلقاً لأن نساءً كثيرات يبلغن العشر أو أكثر استحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنع الله ولا رسوله من جماعهن. بل في قوله تعالى: (( فاعتزلوا النساء في المحيض)). البقرة ، آية 222 دليل على أنه لا يجب اعتزالهن فيما سواه، ولأن الصلاة تجوز منها، فالجماع أهون. وقياس جماعها علىجماع الحائض غير صحيح، لأنهما لا يستويان حتى عند القائلين بالتحريم، والقياس لا يصح مع الفارق.





الفصل السادس:

في النفاس وحكمه

النفاس : دم يرخيه الرحم بسبب الولادة، إما معها أو بعدها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( ما تراه حين تشرع في الطلق فهو نفاس ولم يقيده بيومين أو ثلاثة ، ومراده طلق يعقبه ولادة وإلا فليس بنفاس)).
واختلف العلماء هل له حد في أقله وأكثره. قال الشيخ تقي الدين في رسالته في الأسماء التي علّق الشارع الأحكام بها ص37: (( والنفاس لا حد لأقلِّه ولا لأكثره فلو قدر أن امرأة رأت الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس لكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالحد أربعون فإنه منتهى الغالب جاءت به الآثار)). اهـ

قلت: وعلى هذا فإذا زاد دمُها على الاربعين، وكان لها عادة بانقطاعه بعد أوة طهرت فيه أمارات قُرب الانقطاع انتظرت حتى ينقطع، وإلا اغتسلت عند تمام الأربعين لأنه الغالب إلا أن يصادف زمن حيضهافتجلس حتى ينتهى زمن الحيض، فإذا انقطع بعد ذلك بعد فينبغي أن يكون كالعادة لها فتعمل بحسبه في المستقبل، وإن استمر فهي مستحاضة، ترجع إلى أحكام الاستحاضة السابقة، ولو طهرت بانقطاع الدم عنها فهي طاهر ولو قبل الأربعين ، فتغتسل وتصلي وتصوم ويجامعها زوجها، إلا أن يكون الانقطاع أقل من يوم فلا حكم له. فاله في ((المغني)).

ولا يثبت النفاس إلا إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان، فلو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان فليس دمها دم نفاس، بل هو دم عرق فيكون حكمها حكم المستحاضة، وأقل مدة تبين فيها خلقُ إنسان ثمانون يوماً من ابتداء الحمل وغالبها تسعون يوماً. قال المجد ابن تيمية : فمتى رأت دماً على طلق قبلها لم تلتفت إليه وبعدها تمسك عن الصلاة والصيام، ثم إن انكشف الأمر بعد الوضع على خلاف الظاهر رجعت فاستدركتْ، وإن لم ينكشف الأمر استمر حكم الظاهر فلا إعادة. نقله عنه في ((شرح الإقناع)).

أحكام النفاس
أحكام النفاس كأحكام الحيض سواء بسواء، إلا فيما يأتي :
الأول: العدة، فتعتبر بالطلاق دون النفاس؛ لأنه إن كان الطلاق قبل وضع الحمل انقضت العدة بوضعه لا بالنفاس، وإن كان الطلاق بعد الوضع انتظرت رجوع الحيض كما سبق.
الثاني:مدة الإيلاء، يحسب منها مدة الحيض ولا يحسب منها مدة النفاس.
والإيلاء: أن يحلف الرجل على ترك جماع امرأته أبداً مدة تزيد على أربعة أشهر، فإذا حلف وطالبته بالجماع جُعِِلَ له مدة أربعة أشهر من حلفه، فإذا تمت أُجْبِر على الجماع أو الفراق بطلب الزوجة، فهذه المدة إذا مرّ بالمرأة نفاس لم بحسب على الزوج، وزيد على الشهور الأربعة بقدر مدته، بخلاف الحيض فإن مدته تحسب على الزوج.
الثالث: البلوغ، يحصل بالحيض ولا يحصل بالنفاس، لأن المرأة لا أن تحمل حتى تنزل فيكون حصول البلوغ بالإنزال السابق للحمل.
الرابع: أن دم الحيض إذا انقطع ثم عاد في العادة فهو حيض يقيناً، مصل أن تكون عادتها ثمانية أيام ، فترى الحيض أربعة أيام ثم ينقطع يومين قم يعود في السابع والثامن، فهذا العائد حيض يقيناً يثبت له أحكام الحيض، وأما دم النفاس، إذا انقطع قبل الأربعين ثم عاد في الأربعين فهو مشكوك فيه يجب عليها أن تصلي وتصوم الفرض الموقت في وقته ويحرم عليها ما يحرم على الحائض غير الواجبات ، وتقضي بعد طهرها ما فعلته في هذا الدم. مما يجب على الحائض قضاؤه. هذا هو المشهور عند الفقهاء من الحنابلة. والصواب أن الدم إذا عادوها في زمن يمكن أن يكون نفاساً فهو نفاس، وإلا فهو حيض إلا أن يستمر عليها فيكون استحاضة، وهذا قريب منا نقله في ((المغني)) عن الإمام مالك حيث قال: وقال مالك: ((إن رأت الدم بعد يومين أ ثلاثة يعني من انقطاعه فهو نفاس وإلا فهو حيض)). ا.هـ
وهو مقتضى اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية . وليس في الدماء شيء مشكوك فيه بحسب الواقع، ولكن الشك أمر نسبي يختلف فيه الناس بحسب علومهم وأفهامهم. والكتاب والسنة فيهما تبيان كل شيء، ولم يوجب الله سبحانه على أحد أن يصوم مرتين، أو يطوف مرتين ، إلا أن يكون في الأول خلل لا يمكن تداركه إلا بالقضاء، أما حيث فعل العبد ما يقدر عليه من التكليف بحسب استطاعته فقد برئت ذمته، كما قال تعالى: ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)). (البقرة الآية 286) وقال : (( فاتقوا الله ما استطعتم)) (التغابن الآية 16).

الخامس: أنه في الحيض إذا طهرت قبل العادة جاز لزوجها جماعها بدون كراهة. وأما في النفاس إذا طهرت قبل الأربعين فيكره لزوجها جماعها على المشهور في المذهب، والصواب أنه لا يكره له جماعها. وهو قول جمهور العلماء ، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وليس في هذا المسأله سوى ما ذكره الإمام أحمد عن عثمان ابن العاص أنها أتته قبل الأربعين ، فقال لا تقربيني. وهذا لا يستلزم الكراهة لأنه قد يكون منه على سبيل الاحتياط خوفاً من أنها لم تتيقن الطهر، أو من أن يتحرك الدم بسبب الجماع، أو لغير ذلك من الأسباب والله أعلم.




الفصل السابع
في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه وما يمنع الحمل أو يسقطه

استعمل المرأة ما يمنع حيضها جائز بشرطين:
الأول: ألا يخشى الضرر عليها، فإن خشي الضرر عليها من ذلك فلا يجوز لقوله تعالى: (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)). (البقرة الآية195) (( ولا تقلتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً)) (النساء الآية 29)

الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنع الحيض لتطول المدة وتزداد عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع حينئذ إلا بإذنه، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنع الحمل فالأولى عدم استعماله، إلا لحاجة، لأن ترك الطبيعةعلى ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة والسلامة.

وأما استعمال ما يجلب الحيض فجائز بشرطين أيضاً:
الأول: ألا تتحيل به على إسقاط واجب، مثل أن تستعمله قرب رمضان، من أجل أن تفطر أو تسقط به الصلاة، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج، لأن حصول الحيض يمنعه من كمال الاستعمال، فلا يجوز استعمل ما يمنع حقه إلا برضاه، وإن كانت مطلقة،فإن فيه تعجيل إسقاط حق الزوج من الرجعة إن كان به رجعة.

وأما استعمال ما يمنع الحمل فعلى نوعين:
الأول: أن يمنعه منعاً مستمراً فهذا لا يجوز، لأنه يقطع الحمل قيقل النسل، وهو خلاف مقصود الشارع، من تكثير الأمة الإسلامية، ولأنه لا يؤمِّن أن يموت أولادها الموجودون فتبقى أرملة لا أولاد لها.
الثاني: أن يمنعه منعاً مؤقتاً، مثل أن تكون المرأة كثيرة الحمل، والحمل يرهقها، فتحب أن تنظم حملها كل سنتين مرة أو نحو ذلك فهذا جائز، بشرط أن يأذن به زوجها وألا يكون به ضرر عليها ، ودليله أن الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ألا تحمل نساؤهم ، فلم ينهوا عن ذلك. والعزل أن يجامع زوجته وينزع عن الإنزال فينزل خارج الفرج.

وأما استعمال ما يسقط الحمل فهو على نوعين:
الأول: أن يقصد من إسقاطه إتلافه، فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرام، بلا ريب ، لأنه قتل نفس محرمة بغير حق، وقتل النفس المحرمة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وإن كان قبل نف الروح فيه فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من قال يجوز ما لم يتبين فيه خلقُ إنسان.

والأحوط المنع من إسقاطه إلا لحاجة كأن تكونَ الأم مريضة لا تتحمل الحمل أو نحو ذلك، فيجوزُ حينئذ إلا ما مَضَى عليه زمن يمكن أن يتبين فيه خلق إنسان فيمنع. والله أعلم.

الثاني: ألا يقصد من إسقاطه إتلافه بأن تكون محاولة إسقاطه عند انتهاء مدة الحمل وقرب الوضع فهذا جائز، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، ولا على الولد. وألا يحتاج الأمر إلى عملية، فإن احتاج إلى عملية فله حالات أربع:

الأولى : أن تكون الأم حية والحمل حياً، فلا تجوز العملية إلا لضرورة، بأن تتعسر ولادتها فتحتاجُ إلى عملية، وذلك لأن الجسم أمانة عند العبد، فلا يتصرف فيه بما يخشى منه إلا لمصلحة :كبرى؛ ولأنه رما يظن ألا ضرر في العملية فيحصل الضرر.

الثانية: أن تكون الأم ميتة والحمل ميتاً، فلا يجوز إجراء العملية لإخراجه لعدم الفائدة.
الثالثة: أن تكون الأم حية والحمل ميتاً، فيجوز إجراء العملية لإخراجه، إلا أن يخشى الضرر على الأم لأن الظاهر – والله أعلم – أن الحمل إذا مات لا يكاد يخرج بدون العملية ، فاستمراره في بطنها يمنعها من الحمل المستقبل، ويشق عليها، وربما تبقى أيّماً إذا كانت معتدة من زوج سابق.
الرابعة: أن تكون الأم ميتة والحمل حياً، فإنا كان لا ترجى حياته لم يجز إجراء العملية.
وإن كان ترجى حياته، فإن كان قد خرج بعضه شق بطن الأم لإخراج باقيه، وإن لم يخرج منه شيء، فقد قال أصحابنا رحمهم الله لا يشق بطن الأم لإخراج الحمل، لأن ذلك مُثْلَة، والصواب أنه يشق البطن إن يكن إخراجه بدونه، وهذا اختيار ابن هبيرة قال في ((الإنصاف )): وهو أولى.

قلت: ولا سيما في عصرنا هذا فإن إجراء العملية ليس بمثلة، لأنه يشق البطن ثم يخاط، ولأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ولأن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب. والحمل إنسان معصوم فوجب إنقاذه. والله أعلم.

تنبيه: في الحالات التي يجوز فيها إسقاط الحمل فيما سبق لا بد من له الحمل في ذلك كالزوج.

وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا الموضوع المهم، وقد اقتصرنا فيه على أصول المسائل وضوابطها،وإلا ففروعها وجزئياتها وما يحدث للنساء من ذلك بحر لا ساحل له، ولكن البصير يستطيع أن يرد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها وضوابطها، ويقيس الأشياء بنظائرها.

وليعلم المفتي أنه واسطة بين الله وبين خلقِهِ في تبليغ ما جاءت به رسله، وبيانه للخلق، وأنه مسئول عما في الكتاب والسنة، فإنهما المصدران اللذان كلِّف العبد فهمها، والعمل بهما، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو خطأ، يجب رده على قائله، ولا يجوز العمل به، وإن كان قائله قد يكون معذوراً مجتهداً فيؤجر على اجتهاده، لكن غيرَه العالم بخطئه لا يجوز له قبوله.
ويجب على المفتي أن يخلص النية لله تعالى، ويستعين به في كل حادثة تقع به، ويسأله تعالى الثبات والتوفيق والصواب.
ويجب عليه أن يكون موضع اعتباره ما جاء في الكتاب والسنة ، فينظر ويبحث في ذلك أو فيما يستعان به من كلام أهل العلم على فهمها.

وإنه كثيراً ما تحدث مسألة من المسائل، فيبحث عنها الإنسان فيما يقدر عليه من كلام أهل العلم، ثم لا يجد ما يطمئن إليه في حكمها، وربما لا يجدُ لها ذكراً بالكلية، فإذا رجع إلى الكتاب والسنة، تبين له حكمهما قريباً ظاهراً وذلك بحسب الإخلاص والعلم والفهم.

ويجب على المفتي أن يتريث في الحكم عند الإشكال، وألا يتعجل، فكم من حكم تعجل فيه، ثم تبين له بعد النظر القريب، أنه مخطئ فيه، فيندم على ذلك، وربما لا يستطيع أن يستدرك ما أفتى به,
والمفتي إذا عرف الناس منه التأني والتثبت وثقوا بقوله واعتبروه، وإذا رأوه متسرعاً، والمتسرع كثير الخطأ، لم يكن عندهم ثقة فيما يفتي به فيكون بتسرعه وخطئه قدم حرم نفسه وحرم غيره ما عنده من علم وصواب.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم. وأن يتولانا بعنايته. ويحفظنا من الزلل برعايته، إنه جواد كريم؛ صلى الله وسلم ، على بينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم بقلم الفقير إلى الله: محمد الصالح العثيمين في ضحى يوم الجمعة الموافق 14 شعبان سنة 1392 هـ.