قوله: (قالت الحادية عشرة) وهي أم زرع بنت أكيمل بن ساعدة.

قوله: (زوجي أبو زرع) قوله: (أناس) أي حرك، قوله: (من حلي أذني) المراد أنه ملأ أذنيها بما جرت عادة النساء من التحلي به من قرط وشنف من ذهب ولؤلؤ ونحو ذلك.

قوله: (وملأ من شحم عضدي) قال أبو عبيد لم ترد العضد وحده وإنما أرادت الجسد كله؛ لأن العضد إذا سمنت سمن سائر الجسد، وخصت العضد لأنه أقرب ما يلي بصر الإنسان من جسده، قوله (وبجحنى فبجحت) وفي رواية لمسلم (فتبجَّحَتْ إلي) بالتشديد (نفسي) والمعنى: أنه فرحها ففرحت، وقال ابن الأنباري: المعنى عظمني فعظمت إلي نفسي.

قوله: (وجدني في أهل غُنَيْمَة بشَق) المراد شق جبل كانوا فيه لقلتهم ووسعهم، والمعنى بالشق إنهم كانوا في شظف من العيش.

قوله: (فجعلني في أهل صهيل) أي: خيل (وأطيط) أي: إبل، وأصل الأطيط صوت أعواد المحامل والرجال على الجمال، فأرادت إنهم أصحاب محامل تشير بذلك إلى رفاهيتهم.

قوله (ودائس) اسم فاعل من الدوس، والدائس الذي يدوس الطعام، فكأنها أرادت إنهم أصحاب زرع.

قوله: (ومنق)أي له أنعام ذات نقي أي سمان، والحاصل أنها ذكرت أنه نقلها من شظف عيش أهلها إلى الثروة الواسعة من الخيل والإبل والزرع وغير ذلك.

قوله: (فعنده أقول فلا أقبح) أي فلا يقال لي قبحك الله، أو لا يقبح قولي، ولا يرد علي، أي لكثرة إكرامه لها، وتدللها عليه، لا يرد لها قولاً ولا يقبح عليها ما تأتي به.

قوله: (وأرقد فأتصبح) أي: أنام الصبحة وهي نوم أول النهار فلا أوقظ، إشارة إلى أن لها من يكفيها مؤنة بيتها ومهنة أهلها.

قوله: (وأشرب فأتقنح) كذا وقع بالقاف والنون الثقيلة ثم المهملة قال عياض: لم يقع في الصحيحين إلا بالنون ورواه الأكثر في غيرهما بالميم، أتقمح: أي أروى حتى لا أحب الشرب، وأثبت بعضهم أن معنى أتقنح بمعنى اتقمح؛ لأن النون والميم يتعاقبان مثل امتقع لونه وانتقع، وقيل التقنح الشرب بعد الري.

قوله (أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح) والعكوم جمع عكم، وهي: الأعدال والأحمال التي تجمع فيها الأمتعة، ورداح أي: عظام كثيرة الحشو ملأى، وفساح أي: واسع يقال بيت فسيح وفساح، والمعنى أنها وصفت والدة زوجها بأنها كثيرة الآلات والأثاث والقماش، واسعة المال، كبيرة البيت؛ إما حقيقة فيدل ذلك على عظم الثروة، وإما كناية عن كثرة الخير، ورغد العيش والبر بمن ينزل بهم.

قوله: (ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة) أصل الشطبة ما شطب من الجريد وهو سعفه، فيشق منه قضبان رقاق تنسج منه الحصر، شبهته بسيف مسلول ذي شطب، وسيوف اليمن كلها ذات شطب، وقد شبهت العرب الرجال بالسيوف إما لخشونة الجانب، وشدة المهابة، وإما لجمال الرونق، وكمال اللألاء، وإما لكمال صورتها في اعتدالها واستوائها، وأما الجفرة فهي الأنثى من ولد المعز إذا كان بن أربعة أشهر وفصل عن أمة وأخذ في الرعي، وقال الخليل: الجفر من أولاد الشاة ما استجفر أي صار له بطن.

قوله: (بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟) في رواية مسلم (وما) بالواو بدل الفاء، قوله (طوع أبيها وطوع أمها) أي أنها بارة بهما.

قوله: (وملء كسائها) كناية عن كمال شخصها، ونعمة جسمها.

قوله: (وغيظ جارتها) في رواية سعيد بن سلمة عند مسلم (وعقر جارتها) بفتح المهملة وسكون القاف أي دهشها أو قتلها.

قوله: (جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثاً) بَثَّ الحديث، ونَثَّ الحديث: أظهره.

قوله: (ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً) أي: تسرع فيه بالخيانة، وأرادت المبالغة في براءتها من الخيانة، والميرة أصله ما يحصله البدوي من الحضر ويحمله إلى منزله لينتفع به أهله، والمعنى لا تخرج ما في منزل أهلها إلى غيرهم.

قوله: (ولا تملأ بيتنا تعشيشاً) أي: أنها مُصلحة للبيت، مهتمة بتنظيفه، وإلقاء كناسته وإبعادها منه، وأنها لا تكتفي بقم كناسته وتركها في جوانبه كأنها الأعشاش.

قوله: (قالت:خرج أبو زرع والأوطاب تمخض) الأوطاب جمع وطب وهو وعاء اللبن، أرادت أنه يبكر بخروجه من منزلها غدوة وقت قيام الخدم والعبيد لأشغالهم، وانطوى في خبرها كثرة خير داره، وغزر لبنه، وأن عندهم ما يكفيهم ويفضل حتى يمخضوه ويستخرجوا زبده.

قوله: (فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين) فائدة وصفها لهما؛ التنبيه على أسباب تزويج أبي زرع لها؛ لأنهم كانوا يرغبون في أن تكون أولادهم من النساء المنجبات، فلذلك حرص أبو زرع عليها لما رآها.

قوله: (يلعبان من تحت خصرها برمانتين) أي: أن ذلك مكان الولدين منها، وأنهما كانا في حضنيها أو جنبيها، وفي تشبيه النهدين بالرمانتين إشارة إلى صغر سنها، وإنها لم تترهل حتى تنكسر ثدياها وتتدلى.

قوله: (فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلاً سرياً) أي: من سراة الناس، وهم كبراؤهم في حسن الصورة والهيئة، والسري من كل شيء: خياره.

قوله: (ركب شرياً) تعني فرساً خياراً فائقاً، والشري الذي يستشري في سيره، أي يمضي فيه بلا فتور.

قوله: (وأخذ خطياً) نسبة إلى الخط وهو الرمح، والخط موضع بنواحي البحرين تجلب منه الرماح.

قوله: (أراح) من الرواح، ومعناه: أتى بها إلى المراح، وهو موضع مبيت الماشية.

قوله:(نعماً) هو الإبل خاصة، ويطلق على جميع المواشي إذا كان فيها إبل.

قوله: (ثرياً) أي كثيرة.

قوله: (وأعطاني من كل رائحة زوجاً) أعطاني من كل شيء يذبح زوجاً، والرائحة: الآتية وقت الرواح وهو آخر النهار.

قوله: (وقال كلي أم زرع وميرى أهلك) أي صليهم وأوسعي عليهم بالميرة وهي الطعام. قوله: (فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع) الحاصل أنها وصفته بالسؤدد في ذاته، والشجاعة والفضل والجود؛ بكونه أباح لها أن تأكل ما شاءت من ماله، وتهدي منه ما شاءت لأهلها، مبالغة في إكرامها، ومع ذلك فكانت أحواله عندها محتقرة بالنسبة لأبي زرع، وكان سبب ذلك أن أبا زرع كان أول أزواجها، فسكنت محبته في قلبها كما قيل ما الحب إلا للحبيب الأول.

قوله: (قالت عائشة: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية الترمذي: (فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

قوله: (كنت لكِ) يحتمل أن تكون كان هنا على بابها، والمراد بها الاتصال كما في قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} إذ المراد بيان زمان ماض في الجملة أي: كنت لك في سابق علم الله.

قوله: (كأبي زرع لأم زرع) زاد في رواية الهيثم بن عدي: (في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء)، وزاد الزبير في آخره: (إلا أنه طلقها وإني لا أطلقك) وزاد النسائي في رواية له والطبراني قالت عائشة: "يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع" وكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك تطييباً لها، وطمأنينة لقلبها، ودفعاً لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع؛ إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء سوى ذلك، وقد وقع الإفصاح بذلك وأجابت هي عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها([13]).

سادساً: فقه الحديث والفوائد المستفادة من الحديث]في هذا الحديث من الفوائد([14]):

1. حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس، والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع.

2. وفيه المزاح أحياناً، وبسط النفس به، ومداعبة الرجل أهله، وإعلامه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك، من تجنيها عليه وإعراضها عنه.

3. وفيه منع الفخر بالمال، وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين، وإخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم، وتذكيرهم بذلك لاسيما عند وجود ما طبعن عليه من كفر الإحسان.

4. وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها.

5. وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل، ومحله عند السلامة من الميل المفضي إلى الجور.

6. وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها.

7. وفيه الحديث عن الأمم الخالية، وضرب الأمثال بهم اعتباراً، وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار، ومستطابات النوادر تنشيطاً للنفوس.

8. وفيه حض النساء على الوفاء لبعولتهن، وقصر الطرف عليهم، والشكر لجميلهم، ووصف المرأة زوجها بما تعرفه من حسنٍ وسوءٍ، وجواز المبالغة في الأوصاف، ومحله إذا لم يصر ذلك ديدناً لأنه يفضي إلى خرم المروءة.

9. وفيه تفسير ما يجمله المخبر من الخبر؛ إما بالسؤال عنه، وإما ابتداء من تلقاء نفسه.

10. وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل ولا يكون ذلك غيبة، قال بعضهم: ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون، ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم، قال المازري: وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان من تحدث عنده بهذا الحديث سمع كلامهن في اغتياب أزواجهن، فأقرهن على ذلك، فأما والواقع خلاف ذلك؛ وهو أن عائشة حكت قصة عن نساء مجهولات غائبات فلا، ولو أن امرأة وصفت زوجها بما يكرهه لكان غيبة محرمة على من يقوله ويسمعه، إلا إن كانت في مقام الشكوى منه عند الحاكم، وهذا في حق المعين، فأما المجهول الذي لا يعرف فلا حرج في سماع الكلام فيه؛ لأنه لا يتأذى إلا إذا عرف أن من ذكر عنده يعرفه.

11. وفيه تقويةٌ لمن كره نكاح من كان لها زوج، لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر طاقته، ومع ذلك حقرته وصغرته بالنسبة إلى الزوج الأول.

12. وفيه أن الحب يستر الإساءة؛ لأن أبا زرع مع إساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الإفراط والغلو، وقد وقع في بعض طرقه إشارة إلى أن أبا زرع ندم على طلاقها وقال في ذلك شعراً.

13. وفيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل، لكن محله إذا كن مجهولات، والذي يمنع من ذلك وصف المرأة المعينة بحضرة الرجل، أو أن يذكر من وصفها ما لا يجوز للرجال تعمد النظر إليه.

14. وفيه أن التشبيه لا يستلزم مساواة المشبه بالمشبه به من كل جهة لقوله -صلى الله عليه وسلم -: (كنت لك كأبي زرع)، والمراد ما بينَّه بقوله: في رواية الهيثم في الألفة..إلى آخره، لا في جميع ما وصف به أبو زرع من الثروة الزائدة، والابن والخادم وغير ذلك، وما لم يذكر من أمور الدين كلها.

15. وفيه أن كناية الطلاق لا توقعه إلا مع مصاحبة النية فإنه - صلى الله عليه وسلم - تشبه بأبي زرع، وأبو زرع قد طلق، فلم يستلزم ذلك وقوع الطلاق لكونه لم يقصد إليه.

16. وفيه أن من شأن النساء إذا تحدثن أن لا يكون حديثهن غالباً إلا في الرجال، وهذا بخلاف الرجال فإن غالب حديثهم إنما هو فيما يتعلق المعاش.



والحمد لله رب العالمين.