مكانة عيسى - عليه السلام - في الإسلام



الحلقــة الأولــــى


بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------------------------------------------------------------




الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد : فإن المقرر عند جميع الأمم أن الله وحده هو خالق هذا الكون بسماواته وأرضه وما بينهما وما فيهما من ملائكة وجن وإنس .
وإنه هو المدبر لهذا الكون ومنظمه ، وكل شيء في هذا الكون خاضع لإرادته وقهره ، ومع ذلك يرعاه بلطفه ورحمته وحكمته .
وكلف العقلاء بعبادته وطاعة أمره ولأجل ذلك خلقهم ؛ كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا لعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } (حاشيه الذاريات : 57-58)
وزودهم بما يساعدهم على القيام بـهذا التكليف ( العبادة ) من الفطر السليمة والعقول المدركة الواعية ، وسخر لهم ما في السماوات والأرض .
وبعث إليهم الرسل الكرام كلما ما حرفهم الشيطان وأعوانه عن الغاية التي خلقوا لها إلى الشرك وعبادته والخروج عن صراط الله المستقيم .

وعلى رأس هؤلاء الرسل الكرام أولوا العزم من الرسل محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح - عليهم الصلاة وأكرم التسليم - .
قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } (1)
فالرسل جميعاً وعلى رأسهم من ذكر دينهم الإسلام وحده لا دين لهم سواه، قال تعالى :{ إن الدين عند الله الإسلام } (2)
وقال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (3)
وقال : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } (4)
وقال تعالى : { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } (5)
والمراد بالأمة هنا الملة والدين ، فدينهم واحد وهو الإسلام المتضمن إخلاص الدين لله الواحد الأحد المعبود وحده بحق .
والخلق جميعاً عباده ، ومنهم الرسل الكرام ، ومنهم أولوا العزم محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ، فهم عباده خلقهم لعبادته ودعوة الناس إلى ذلك ، وهو الرب الخالق المعبود لا يشركه أحد من جميع خلقه في ذرة من هذا الكون لا في الخلق ولا في الرزق ولا في الإحياء والإماتة ولا في شيء مما انفرد واختص به من صفات الربوبية والألوهية وصفات كماله ونعوت جلاله .
{ قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } .




والمقصود بعد هذه المقدمة بيان حال رسول الله الكريم عيسى بن مريم – عليه الصلاة والسلام – ومكانته في الإسلام .




إن هذا النبي الكريم له منـزلة عظيمة في الإسلام جهلها وتجاهلها اليهود والنصارى في واقعهم وعقائدهم وكتاباتـهم .
وقام بـها الإسلام وقررها أفضل تقرير وأكمله وأنصفه في كثير من آياته البينة الكريمة ، وذلك الذي قرره الإسلام لا يقبل العقل السليم الصريح سواه ، ويرفض ما عداه مما قررته اليهودية من قذف له ولأمه ، وما قررته النصرانية من غلو فيه وتأليه له تارة باعتباره ابن الله وتارة هو الله أو ثالث ثلاثة ، وتارة بتحقيره وتشويهه مما يدل على التيه والضلال في الدين والعقل .

لقد قص الله علينا أحسن القصص وأروعه عن عيسى وأمه من بداية أمرهما وتابع ذلك في مراحل حياتـهما في غاية البيان مع غاية الإكرام ، فآمن بذلك المؤمنون من اتباع محمد r ، وقدروا عيسى وأمه حق التقدير ، واحتفوا بـهما غاية الإحتفاء .
كما احتفوا بسائر الأنبياء والرسل وآمنوا بـهم ، بل قرر الإسلام الإيمان بـهم ركناً عظيماً من أركان الإيمان ، بل من انتقص أي أحد منهم أي انتقاص فقد كفر عندهم وخرج من ملة الإسلام ، فكيف بمن يكذبـهم أو أحداً منهم ، لقد أشاد الله بعيسى وأمه مريم الطهور في كثير من سور القرآن نذكر بعضها منها قال تعالى في سورة آل عمران :
{ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب أني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت: رب أني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربـها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال : يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لك من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء } (6)

فمهد لقصة مريم بـهذا الربط العظيم بمن اصطفاهم الله على العالمين ومنهم آل عمران آباء مريم ليبين بـهذا الربط أن مريم من أسرة كريمة ، وأنـها من ذرية الأنبياء المصطفين ، وأن أمها امرأة صالحة ومن صلاحها أنـها نذرت ما في بطنها محرراً لله ، وكانت تأمل أن يكون ذكراً فإذا بالمولود أنثى ، فأرجعت أمرها إلى الله معتذرة إليه معوذة بنتها وذريتها من الشيطان الرجيم ، فاستجاب دعاءها فتقبلها ربـها قبولاً حسناً وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها نبياً كريماً رحيماً هو زكريا – عليه السلام - ، فهذه رعاية عظيمة وذكر كريم لأم عيسى .
ويزيدها الله من فضله وإكرامه فيخبرنا بذلك بقوله جل وعلا :
{ وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } (7)

فما كان محمد النبي الأمي ولا قومه يعلمون مثل هذه الأخبار العظيمة الصادقة عن جميع الرسل ، ولا عن مريم وأمها وزكريا ومن خاصمه في كفالة مريم ، ولا بظفر زكريا بكفالتها بعد القرعة بالأقلام ، ولا بحفاوة زكريا بـها ، ولا بما كان يأتيها من رزق من عند الله تكريماً لها مما دفع زكريا على كبر سنه وعقم زوجته إلى طلب الذرية الطيبة من الله : ما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم هذا ولا قومه ، ولا يمكن أن تجد مثل هذا الكلام العالي في جلالته وبلاغته وحسن تركيبه وروعة عرضه في الأناجيل ولا في غيرها ، مما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه رسول الله حقاً ، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إليه من رب العالمين .
ثم تابع الله قصة مريم الطهور وابنها عيسى عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء وسلم تسليماً كثيراً ، فقال :
{ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد ومن الصالحين قالت : رب أنا يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، قال كذلك يخلق الله ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبؤكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } (8)

هذا حديث عن بدء أمر عيسى – عليه السلام – والطريقة التي خلقه الله بـها، وعن رسالته إلى بني إسرائيل ، وما أكرمه الله به من الآداب العظيمة الدالة على صدق رسالته ، وعلى براءته وبراءة أمه مما قذفها به اليهود ، فإذا كان من سنة الله الجارية في الخلق من البشر والدواب أن يتم الإنجاب والتوالد عن طريق أبوين ذكر وأنثى فإنه قد سبق ذلك أن خلق آدم أبا البشر من طين أي من غير أبوين ، وخلق أم البشر حواء من ذكر دون أنثى من ضلع آدم ، وكل ذلك من آيات الله العظيمة الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، كذلك في هذه الحقبة من الزمن من عمر البشرية أراد الله أن يري الناس آية جديدة من آياته الدالة على عظيم قدرته ألا وهي خلق عيسى – عليه السلام – من أنثى بدون ذكر ، ولقد استغربت مريم – عليها السلام – هذا الأمر العجيب والنبأ الغريب فقال لها الملك وهو جبريل : { كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } ، فكل المخلوقات كبيرها وصغيرها من العرش إلى الكرسي إلى السماوات والأرض والجبال والبحار بما فيها ، والأفلاك وما فيها من شمس وقمر وكواكب يحدث بإرادة الله ومشيئته وبقوله كن ، فسبحانه وتعالى من رب عظيم قادر قاهر لا يعجزه ولا يستعصى على قدرته شيء ولا نِدَّ عن أردته شيء فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
إن إكرام الله عيسى – عليه السلام – بالعلم والحكمة والرسالة والآيات العظيمة هو من باب إكرام الأنبياء والرسل جميعاً ، وكونه خلق بكلمة الله "كن" من أنثى فقط هو من باب آياته الدالة على قدرته قد أسبقها بما هو أعظم منها وهو خلق آدم – عليه السلام - من غير ذكر وأنثى ، وخلق حواء من ضلع آدم من دون أنثى ، كل ذلك يدل على عظمة الله وعظيم قدرته لدى المؤمنين العقلاء فيدفعهم إلى شكره وحبه وتعظيمه وتقديسه وإجلاله وإخلاص العبادة والدين له وحده .
وأعظم الناس إدراكاً لهذا وقياماً به ودعوة إليه هم الأنبياء الكرام وعلى رأسهم أولوا العزم ومنهم عيسى - عليهم جميعاً أفضل الصلوات وأتم التسلم - كما صرح بذلك القرآن وقبله الوحي المحفوظ قبل التبديل من نصوص الإنجيل ؛ فلقد صرح عيسى بأنه عبد الله مخلوق مربوب ، وأن الله ربه وسيده وخالقه ورب المخلوقين وسيدهم ومالكهم ، فأثبت هذا أولاً ثم دعاهم إلى عبادة هذا الرب العظيم السيد الخالق لكل شيء المالك لكل شيء فقال – عليه السلام - :
{ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } ، وقال قبل : { فاتقوا الله وأطيعون } ، فالله وحده هو الذي يخشى ويرهب ويتقى ، والأنبياء ومنهم عيسى يدعون إلى هذا ويمدهم الله بالآيات المعجزة الباهرة ، براهين على صدقهم فما على الناس بعد كل هذا إلا أن يستجيبوا لدعوة الرسل ويطيعوهم فيما بلغوهم به عن الله من الوحي المتضمن للأمر بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده .

والشاهد من هذه النصوص أنـها تضمنت أن لعيسى – عليه السلام – وغيره من الأنبياء منـزلة عظيمة في الإسلام ، وتضمنت خلقه وخلق أمه على غاية من الطهر ومن أرسخ الأسر في الإسلام والطهر ، وتضمنت ذكر رسالته وآياته ودعوته إلى الإيمان بربوبية الله وعبادته وخشيته واتقائه ، مثل حديثه عن آدم وعن سائر الرسل وسيرهم وأخلاقهم ودعواتـهم – عليهم السلام – أحاديث صدق ليس فيها خرافات ولا غلو ، وآمن بذلك محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وأحبوا الأنبياء من أعماق قلوبـهم وأجلوهم وأكرموهم ومنهم عيسى – عليه السلام – واعتبروا ذلك من أصول دينهم :
{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } (9)

وقال تعالى :
4- { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيا فاتخذت من دونـهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا قالت : أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً فحملته فانتبذت به مكاناً قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيَّا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحت سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترينَّ من البشر أحد فقولي : إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيًّا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيَّا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيًّا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم اسمع بـهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } (10)

وفي هذا القصص الحق بيان لحال مريم بعد أن أنبتها الله نباتاً حسناً في كفالة ذلكم النبي الكريم ، وبعد اشتهارها بالعبادة والطهر والشرف ، لقد حان الوقت الذي حدده الله لإنفاذ إرادته بخلق عيسى – عليه السلام – بالطريقة التي أخبرنا بـها
{ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا } وهو جبريل – عليه السلام – لقد انقطعت هذه الطاهرة لعبادة الله واتخذت لذلك حجاباً حفاظاً على شرفها وعفتها ولتقوم بعبادة الله ، وإذا بـها تفاجأ بـهذا البشر السوي بكماله وجماله فبرهنت في هذا الموقف على حصانتها وعفتها بقولها : { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } ، إن هذا لا يصدر إلا من قلب مؤمن استعاذة بالله ولجوء إليه في حال الكرب والشدة ، وتذكير وتخويف بتقوى الله لتدفع بكل ذلك ما تبدي لها من هذا الأمر المخوف الخطير .

فأخبرها هذا الرسول الكريم بما يبدد مخاوفها وليطمئن قلبها { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا } ، فأبدت استغرابـها { قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } هذه هي الطريقة المعهودة لإنجاب الولد ، فأخبرها الرسول : { كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس } الخ .

فخلْق الكون كله بما فيه عليه هين ؛ كما قال تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } (11) ، فنفخ فيها هذا الروح جبريل الذي أرسله الله لهذه المهمة العظيمة منفذاً أمر الله ، فحملته فانتبذت به مكان قصيًّا ، ثم وضعته وواجهت المشكلة التي تحس بـها مثلها من ذوات الشرف والعفاف فتمنت الموت ، وجاء ما يبدد مخاوفها وقلقها :
{ فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا } آيات ومعجزات تزيدها ثقة واطمئناناً وإيماناً بأن الله قد تولى الدفاع عنها وإظهار براءتـها وإظهار شرفها وكرامتها ؛ فليس عليها إلا أن تشير إلى هذا المولود الذي أرجف عليها به المرجفون { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا } ، وفاجأهم هذا الذي استبعدوا كلامه وهو في المهد بتلك المعجزة الباهرة فـ { قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيًّا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا }

إنه لآية عظيمة من آيات الله في طريق حمله وولادته وتبرءة ساحة أمه البتول، ثم بيان لمهمته ورسالته التي أرهصت لها هذه الآيات العظيمة ومن هذه الرسالة العظيمة بيان أنه عبد الله ، ومن العجب أن يكون ذلك أول نطقه ، ثم ثنى برسالته :
{ آتاني الكتاب وجعلني نبيا } ، ثم ثلث بآثار دعوته :
{ وجعلني مباركاً أينما كنت } ، ثم ربع ببيان شريعته وشريعة من قبله من الرسل : { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } ، ثم تحدث عن صفاته الجميلة من البر وتنـزيه الله إياه من صفات الجبارين الأشقياء : { وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا } ، ثم قال تعالى معقباً على كل ما يتعلق بعيسى وأمه مما سلف ذِكْرُهُ : { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } ،
إنه القول الحق الحاسم الذي قاله الرب خالق عيسى وغيره ، العليم الخبير بكل دقيقة وجليلة من أحوال هذا الكون وأحوال البشر ومنهم عيسى ، لقد قال الله فيه الحق الذي لايشوبه ذرة من شوائب الباطل الكبير الذي قاله فيه المبطلون من هؤلاء الممترين المختلفين ، قال فيه الحق الذي تقبله العقول السديدة الرشيدة والفطر السليمة ، ونطقت به الشرائع ، ودان به المؤمنون .

يتبع الحلقة الثانية إن شاء الله



كتبه : ربيع بن هادي المدخلي



--------------------------------------------------------------------------------
1) الشورى : 13 .
2) آل عمران : 19 .
3) آل عمران : 85 .
4) المؤمنون : 51 .
5) الأنبياء : 92 .
6) آل عمران : 33-38 .
7) آل عمران : 42-44 .
8) آل عمران : 45-51 .
9) البقرة : 285 .
10) مريم : 16-38 .
11) لقمان : 28 .