بسم الله الرحمن الرحيم

وقَال شَيخ الإسْلامِ أحْمَد بن تيمية – رحمه الله‏ - :‏
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومـن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً ‏.‏
فَصْـــل
فيما يُفطِّر الصَّائم ومَا لا يُفطِّرُه
وهذا نوعان ‏:‏
منه ما يفطر بالنص والإجماع ، وهو : الأكل ، والشرب ، والجماع ، قال تعالى‏ :‏‏" ‏فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ‏"‏ ‏[‏البقرة ‏:‏ 187‏]‏، فأذن في المباشرة ، فَعُقِلَ من ذلك أن المراد : ‏الصيام من المباشرة والأكل والشرب، ولمَّا قال أولاً ‏:‏ ‏" ‏كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ‏" ‏[‏البقرة‏ :‏ 183‏]‏، كان معقولاً عندهم ‏:‏ أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ، ولفظ ‏( ‏الصيام‏ )‏ كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه [ في هذا المعنى ] ، كما في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ‏:‏ أن يوم عاشوراء كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية ‏.‏
قال العلامة ابن العثيمين {الصيام لاشك أنه الإمساك عن المفطرات لكن لابد أن يضاف إلى هذا , التعبد لله بالإمساك عن المفطرات حتى يكون عبادة , لأن الإمساك عن المفطرات له أسباب متعددة فإذا كان الغرض من ذلك التعبد لله كان صياما شرعا , وكما قال الشيخ رحمه الله الأشياء المفطرة بالإجماع هي هذه الثلاثة الأكل والشرب الجماع , وما عدا ذلك فإما ثابت لأقيسة , وإما ثابت لنص مختلف في صحته أو في دلالته, لكن هذه الثلاثة مجمع عليها , والصيام كان معروفا في الجاهلية وفي الشرائع الأخرى كما قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ َ} وقالت عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا في الجاهلية يصومون يوم عاشوراء, فلم تأت الشريعة الإسلامية بجديد إلا في بيان الحكمة من الصوم , وهي أنه ليس الحكمة من الصوم أن يُمنع الإنسان من فضل الله عز وجل من طعام وشراب ونكاح , ولكن الحكمة شيء فوق ذلك وهو تقوى الله عز وجل كما قال تعالى { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}حين ذكر فرض الصيام , وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" فالحاجة بمعنى الإرادة , يعني أنه ليس لله إرادة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه بدون أن يدع قول الزور والعمل به والجهل , وإن قوما يمسكون عن ملاذهم ويتقون الله عز وجل شهرا كاملا و يكونون كذلك لابد أن تتغير مناهجهم , ولهذا كان شهر الصيام لمن وفق تربية عظيمة للنفس بالصبر والتحمل والتقوى وكثرة الطاعات نسأل الله أن يجعلنا و إياكم ممن اتعظ به وانتفع .
و في قوله عز وجل { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } الإشارة إلى معنى نفيس وهو أن لا يريد الإنسان بالجماع مجرد نيل الشهوة بل ابتغاء ماكتب الله لنا , يعني من الذرية ,وهو إذا نوى هذا حصل هذا وهذا , يعني لا يفوته إذا نوى ابتغاء ما كتب الله له أن لا يكون له ذرية بل يحصل على هذا وعلى هذا , ولهذا قال بعض المفسرين على قوله {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} أي بطلب الولد
.}
[ وقد ثبت عن غير واحد ] ‏:‏ أنه قبل أن يُفرض شهر رمضان أُمِرَ بصومِ يوم عاشوراء ، وأرسل منادياً ينادي بصومه ؛ فَعُلِمَ أن مسمى هذا الاسم كان معروفًا عندهم ‏.‏
وكذلك ثبت [ بالسنة ] واتفاق المسلمين‏ :‏ أن دم الحيض ينافي الصوم ، فلا تصوم الحائض ، لكن تقضي الصيام‏ .‏
وثبت [ بالسنة ] ـ أيضًا ـ من حديث لَقِيط بن صَبِرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له‏ :‏ " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً‏ " ‏، فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم ، وهو قول جماهير العلماء‏ .‏
قال العلامة ابن العثيمين {ومن هنا صار في المسألة خلاف , يعني إذا أكل الإنسان الشراب من غير الفم ففيه خلاف بين العلماء ,ولكن ما دل عليه الحديث يجب أن يكون معتبرا , وهو أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال إلا أن تكون صائما ولا نعلم فائدة لهذا الاستثناء إلا خوف أن ينزل الماء من الأنف إلى المعدة وإلا لم يكن للاستثناء فائدة , فالصواب ما دل عليه الحديث , لكن لو جاء مجادل وقال المسألة ليست إجماع وأنا لا أعتبر إلا ما ثبت بالنص والإجماع فقط ولا أعترف بما ثبت قياسا , قلنا له الحمد لله هذا ثابت بالنص لأننا لا نعلم فائدة لاستثناء الصائم إلا خوف أن ينزل الماء من أنفه إلى معدته فيفطر . }
وفي السنن حديثان ‏:‏ أحدهما ‏:‏ حديث هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏ :‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم‏ - :‏ ‏" ‏من ذَرَعَهُ قَيءٌ وهو صائم فليس عليه قَضَاءٌ، وإن استقاء فليقض ‏" ، وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم ؛ بل قالوا‏ :‏ هو من قول أبي هريرة ، قال أبو داود‏ :‏ سمعت أحمد بن حنبل قال‏ :‏ ليس من ذا شيء‏ .‏ قال الخطابي‏ :‏ يريد أن الحديث غير محفوظ‏ .‏ وقال الترمذي ‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه ، فلم يعرفه إلا عن عيسى بن يونس ، قال ‏:‏ وما أراه محفوظاً ‏.‏ قال ‏:‏ وروى يحيى بن كثير ، عن عمر بن الحكم ‏:‏ أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم ‏.
قال العلامة ابن العثيمين {المؤلف سيبين ثبوت هذا الحديث أو عدم ثبوته , لكن في قوله ومن استقاء فليقض فيه فائدة : وهي أن الإنسان إذا أفطر متعمدا فعليه القضاء خلافا لما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : أن من تعمد الإفطار فلا يقض , والصواب أنه يقضي , بخلاف الذي لم يصم اليوم من أوله فهذا لا يقضي , والفرق بينهما ظاهر , لأن الأول شرع في العبادة فلزمته بشروعه فيها, والتزمها في أول نهاره , والثاني لم يلتزمها إطلاقا , فإذا قضاها بعد فوات الوقت فقد فعل فعلا ليس عليه أمر الله ورسوله وقد تعدى حدود الله , فقد حد الله الصوم بشهر معين في زمن معين من هذا الشهر فإذا لم يقم بالصوم في هذا فقد تعدى حدود الله وقد قال الله تعالى { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}والله لا يقبل من ظالم فهذه المسألة فيها أقوال ثلاثة :
قول الجمهور أنه يقضي سواء صام ثم أفطر عمدا أو أنه ترك الصيام من أوله.
الثاني: أنه لا يقضي سواء ترك الصيام من أوله أو تعمد الإفطار.
الثالث: التفصيل أنه إن ترك الصيام ثم صامه بعد رمضان فإنه لا يقضيه لأنه لن ينتفع به ,وأما إذا صام ثم أفطر عمدا وجب عليه القضاء وهذا هو الراجح .وقد رأيتم الحديث الآن حديث أبي هريرة ومن استقاء فليقض يعني من استقاء عمدا فليقض .
وهنا مسألة : لو أن إنسانا حس بالقئ هل يجب عليه أن يمنعه ؟ الجواب لا يجب , كما لو فكر وأحس بانتقال المني فإنه لا يلزمه أن يحجزه لما في ذلك من الضرر ولأنه لم يتعمد .
مسألة أخرى : لو أنه أحس بهيجان المعدة ثم استقاء أيفطر أم لا ؟ يفطر لأنه تعمد القيء, والمعدة قد تهيج أحيانا ويتهيأ الإنسان للقيء ولكن تسكن ولا يحصل شيء
. }
قال الخطابي ‏:‏ وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام ، كما رواه عيسى بن يونس ، قال ‏:‏ ولا أعلم خلافاً بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه ، ولا في أن من استقاء عامدًا فعليه القضاء ، ولكن اختلفوا في الكفارة ، فقال عامة أهل العلم ‏:‏ ليس عليه غير القضاء ‏.‏ وقال عطاء ‏:‏ عليه القضاء والكفارة ، وحكي عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور ‏.‏
قلت‏ :‏ وهو مقتضى إحدى الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم ، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى ، لكن ظاهر مذهبه ‏:‏ أن الكفارة لا تجب بغير الجماع ؛ كقول الشافعي‏ .‏
قال العلامة ابن العثيمين {وهذا هو الصحيح أنه لاكفارة إلا بالجماع وذلك أن الأصل براءة الذمة ولا يمكن أن نلزم عباد الله بشيء دون دليل من الكتاب والسنة أو الإجماع , لأننا مسؤلون عن إيجاب ما لم يجب كما أننا مسؤلون عن تحريم مالم يحرم , فالصواب أن الإنسان إذا تعمد الفطر في رمضان يعني صام ثم أفطر عامدا أنه آثم ويلزمه الإمساك بقية اليوم وعليه القضاء , وأما الكفارة فلا تجب إلا بالجماع .}
والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى علته ، [ وهي ] انفراد عيسى بن يونس ، وقد [ ثبت ] أنه لم ينفرد به ، بل وافقه عليه حفص بن غياث ، والحديث الأخير يشهد له ، وهو ما رواه أحمد وأهل السنن ، كالترمذي ، عن أبي الدرداء ‏:‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر ، فذكرت ذلك لثوبان ‏.‏ فقال ‏:‏ صدق ، أنا صببت له وضوءًا ، لكن لفظ أحمد‏ :‏ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فتوضأ‏ .‏ رواه أحمد عن حسين المعلم ‏.‏
قال الأثرم ‏:‏ قلت لأحمد‏ :‏ قد اضطربوا في هذا الحديث ، فقال ‏:‏ حسين المعلم يجوده‏ .‏ وقال الترمذي‏ :‏ حديث حسين [ أصح ] شيء في هذا الباب ، وهذا قد استُدل به على وجوب الوضوء من القيء ، ولا يدل على ذلك ، فإنه إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي ، فليس فيه إلا أنه توضأ ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب ، بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع ، فإذا قيل ‏:‏ إنه مستحب كان فيه عمل بالحديث ‏.‏
قال العلامة ابن العثيمين {قوله إذا أراد الوضوء: الوضوء الشرعي أفادنا أن هناك وضوءا ليس شرعيا, وهو الوضوء اللغوي , وهو النظافة , ولكن لدينا قاعدة مهمة وهي :أن ألفاظ الشرع تحمل على الحقائق الشرعية , والحقيقة الشرعية للوضوء : أنه التطهر المعروف , ولكن يمنع من القول بوجوب الوضوء من القيء ما ذكره الشيخ رحمه الله أن هذا فعل مجرد , والفعل المجرد لايدل على الوجوب . }
وكذلك ما روي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج ليس في شيء منه دليل على الوجوب ، بل يدل على الاستحباب ، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك ، كما قد بُسط في موضعه ، بل قد روى الدارقطني وغيره ، عن حميد ، عن أنس قال ‏:‏ احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتوضأ ، ولم يزد على غسل محاجمه ، ورواه ابن الجوزي في ‏(‏ حجة المخالف‏ )‏ ولم يضعفه ، وعادته الجرح بما يمكن‏ .‏
وأما الحديث الذي يروى ‏:‏ ‏" ‏ثلاث لا تفطر ‏:‏ القيء ، والحجامة ، والاحتلام‏ " ‏، وفي لفظ‏ :‏ ‏" ‏لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم‏ " ‏، فهذا إسناده الثابت‏ :‏ ما رواه الثوري وغيره ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أصحابه ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏ :‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏.‏ هكذا رواه أبـو داود ، وهذا الرجـل لا يعـرف‏ .‏ وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال‏ .‏
قلت‏ :‏ روايته عن زيد من وجهين‏‏ مرفوعًا لا يخالف روايته المرسلة بل يقويها ، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم ؛ لكن هذا فيه ‏:‏ ‏" ‏إذا ذرعه القيء‏ " .
[ ‏ ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلاً ، وقال يحيى بن معين ‏:‏ حديث زيد بن أسلم ليس بشيء ، ولو قدر صحته ؛ لكان المراد من ذرعه القيء ، فإنه قرنه بالاحتلام ، ومن احتلم بغير اختياره ـ كالنائم ـ لم يفطر باتفاق الناس ‏] .
وأما حديث الحجامة : فإما أن يكون منسوخًا ، وإما أن يكون ناسخًا لحديث ابن عباس ‏:‏ أنه احتجم وهو محرم صائم – أيضًا – ، ولعل فيه القيء إن كان متناولاً للاستقاءة هو ـ أيضًا ـ منسوخ‏ .‏ وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر ، فإنه إذا تعارض نصان ناقل وباق على الاستصحاب ، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ ، ونسخ أحدهما يقوي نسخ قرينه .
وأما من استمنى فأنزل : فإنه يفطر ، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على من احتلم في منامه ‏.‏
وقد ظن طائفة أن القياس [ ألا ] يفطر شيء من الخارج ، وأن المستقيء إنما أفطر ؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام ، وقالوا ‏:‏ إن فطر الحائض على خلاف القياس‏ .
قال العلامة ابن العثيمين {ولهذا عندهم قاعدة يقولون : لا وضوء مما دخل بل مما خرج , ولا فطر مما خرج بل مما دخل , لكن من قال هذه القاعدة !!}
يتابع